Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 44, Ayat: 4-6)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } . معنى قوله يفرق ، أي يفصل ويبين ، ويكتب في الليلة المباركة ، التي هي ليلة القدر ، كل أمر حكيم ، أي ذي حكمة بالغة لأن كل ما يفعله الله ، مشتمل على أنواع الحكم الباهرة : وقال بعضهم : حكيم ، أي محكم ، ولا تغيير فيه ، ولا تبديل . وكلا الأمرين حق لأن ما سبق في علم الله ، لا يتغير ولا يتبدل ، ولأن جميع أفعاله في غاية الحكمة . وهي في الاصطلاح وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها . وإيضاح معنى الآية أن الله تبارك وتعالى في كل ليلة قدر من السنة يبين للملائكة ويكتب لهم ، بالتفصيل والإيضاح جميع ما يقع في تلك السنة ، إلى ليلة القدر من السنة الجديدة . فتبين في ذلك الآجال والأرزاق والفقر والغنى ، والخصب والجدب والصحة والمرض ، والحروب والزلازل ، وجميع ما يقع في تلك السنة كائناً ما كان . قال الزمخشري في الكشاف : ومعنى يفرق : يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم ، وجميع أمورهم فيها ، إلى الأخرى القابلة إلى أن قال : فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبرائيل ، وكذلك الزلازل ، والصواعق والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت ا هـ محل الغرض منه بلفظه . ومرادنا بيان معنى الآية ، لا التزام صحة دفع النسخ المذكورة للملائكة المذكورين ، لأنا لم نعلم له مستنداً . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، يدل أيضاً على أن الليلة المباركة هي ليلة القدر فهو بيان قرآني آخر . وإيضاح ذلك أن معنى قوله { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] أي في ليلة التقدير لجميع أمور السنة ، من رزق وموت ، وحياة وولادة ومرض ، وصحة وخصب وجدب ، وغير ذلك من جميع أمور السنة . قال بعضهم : حتى إن الرجل لينكح ويتصرف في أموره ويولد له ، وقد خرج اسمه في الموتى في تلك السنة . وعلى هذا التفسير الصحيح لليلة القدر ، فالتقدير المذكور هو بعينه المراد بقوله { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ الدخان : 4 ] . وقد قدمنا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [ الأنبياء : 87 ] أن قدر بفتح الدال مخففاً يقدر ويقدر بالكسر والضم كيضرب وينصر قدراً بمعنى قدر تقديراً ، وأن ثعلباً أنشد لذلك قول الشاعر : @ فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبداً ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر @@ وبينا هناك ، أن ذلك هو معنى ليلة القدر ، لأن الله يقدر فيها وقائع السنة . وبينا أن ذلك هو معنى قوله تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وأوضحنا هناك أن القدر بفتح الدال والقدر بسكونها هما ما يقدره الله من قضائه : ومنه قول هدبة بن الخشرم : @ ألا يا لقومي للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري @@ واعلم أن قول من قال : إنما سميت ليلة القدر لعظمها وشرفها على غيرها من الليالي من قولهم : فلان ذو قدر أي ذو شرف ومكانة رفيعة لا ينافي القول الأول لاتصافها بالأمرين معاً ، وصحة وصفها بكل منهما كما أوضحنا مثله مراراً . واختلف العلماء في إعراب قوله { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } ، قال بعضهم : هو مصدر منكر في موضع الحال ، أي أنزلناه في حال كوننا آمرين به . وممن قال بهذا الأخفش . وقال بعضهم : هو ما ناب عن المطلق من قوله ( أنزلناه ) وجعل ( أمراً ) بمعنى : إنزالاً . وممن قال به المبرد . وقال بعضهم هو ما ناب عن المطلق من يفرق ، فجعل ( أمراً ) بمعنى فرقاً أو فرق بمعنى أمراً . وممن قال بهذا الفراء والزجاج . وقال بعضهم هو حال من ( أمر ) أي ( يفرق فيها بين كل أمر حكيم ) . في حال كونه أمراً من عندنا ، وهذا الوجه جيد ظاهر ، وإنما ساغ إتيان الحال من النكرة وهي متأخرة عنها لأن النكرة التي هي ( أمر ) وصفت بقوله ( حكيم ) كما لا يخفى . وقال بعضهم { أمراً } مفعول به لقوله ( منذرين ) وقيل غير ذلك . واختار الزمخشري : أنه منصوب بالاختصاص ، فقال : جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم ثم زاده جزالة وأكسبه فخامة ، بأن قال : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا ، كائناً من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا وهذا الوجه أيضاً ممكن ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } [ الكهف : 65 ] الآية . وفي سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ] .