Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 20-20)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى الآية الكريمة أنه يقال للكفار يوم يعرضون على النار : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ } . فقوله يعرضون على النار : قال بعض العلماء : معناه يباشرون حرها كقول العرب : عرضهم على السيف إذا قتلهم به ، وهو معنى معروف في كلام العرب . وقد ذكر تعالى مثل ما ذكر هنا في قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ } [ الأحقاف : 34 ] وهذا يدل على أن المراد بالعرض مباشرة العذاب لقوله : { قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ الأحقاف : 34 ] . وقوله تعالى : { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 45 - 46 ] لأنه عرض عذاب . وقال بعض العلماء : معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها ، والكشف لهم عنها ، حتى يروها كما قال تعالى : { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ } [ الكهف : 53 ] الآية . وقال تعالى : { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } [ الفجر : 23 ] . وقال بعض العلماء : في الكلام قلب ، وهو مروي عن ابن عباس وغيره . قالوا : والمعنى ويوم تعرض النار على الذين كفروا قالوا وهو كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض . يعنون عرضت الحوض على الناقة ، ويدل لهذا قوله تعالى : { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } [ الكهف : 100 ] . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : هذا النوع الذي ذكروه من القلب في الآية ، كقلب الفاعل مفعولاً ، والمفعول فاعلاً ، ونحو ذلك اختلف فيه علماء العربية ، فمنعه البلاغيون إلا في التشبيه ، فأجازوا قلب المشبه مشبهاً به والمشبه به مشبهاً بشرط أن يتضمن ذلك نكتة وسراً لطيفاً كما هو المعروف عندهم فى مبحث التشبية المقلوب . وأجازه كثير من علماء العربية . والذي يظهر لنا أنه أسلوب عربي نطقت به العرب في لغتها ، إلا أنه يحفظ ما سمع منه ، ولا يقاس عليه ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز : @ ومنهل مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه @@ أي كأن سماءه لون أرضه ، وقول الآخر : @ وبدا الصباح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح @@ لأن أصل المراد تشبيه وجه الخليفة بغرة الصباح فقلب التشبية ليوهم أن الفرع أقوى من الأصل في وجه الشبه . قالوا ومن أمثلته في القرآن { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } [ القصص : 76 ] ، لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتيح أي تنهض بها بمشقة وجهد لكثرتها وثقلها ، وقوله تعالى : { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ } [ القصص : 66 ] أي عموا عنها . ومن أمثلته في كلام العرب قول كعب بن زهير : @ كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل @@ لأن معنى قوله : تلفع لبس اللفاع وهو اللحاف ، والقور الحجارة العظام ، والعساقيل : السراب . والكلام مقلوب ، لأن القور هي التي تلتحف بالعساقيل لا العكس كما أوضحه لبيد في معلقته بقوله : @ فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى واجتاب أردية السراب إكامها @@ فصرح بأن الإكام التي هي الحجارة اجتابت أي لبست أردية السراب . والأردية جمع رداء ، وهذا النوع من القلب وإن أجازه بعضهم فلا ينبغي حمل الآية عليه ، لأنه خلاف الظاهر ، ولا دليل عليه يجب الرجوع إليه . وظاهر الآية جار على الأسلوب العرب الفصيح ، كما أوضحه أبو حيان في البحر المحيط . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } قرأه ابن كثير وابن عامر { أأذهبتم } بهمزتين وهما على أصولهما في ذلك . فابن كثير يسهل الثانية بدون ألف إدخال بين الهمزتين . وهشام يحققها ويسهلها مع ألف الإدخال ، وابن ذكوان يحققها من غير إدخال . وقرأه نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ } بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام . واعلم أن للعلماء كلاماً كثيراً في هذه الآية قائلين إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ونحو ذلك . وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك خوفاً منه ، أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا } الآية . والمفسرون يذكرون هنا آثاراً كثيرة في ذلك ، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق : إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم ، لأنه تعالى ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم . وأنما قلنا : إن هذا هو التحقيق ، لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه والله تعالى يقول : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] الآية . أما كون الآية في الكفار فقد صرح الله تعالى به في قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُم } الآية . والقرآن والسنة الصحيحة ، قد دلا على أن الكافر إن عمل عملاً صالحاً مطابقاً للشرع ، مخلصاً فيه لله ، كالكافر الذي يبر والديه ، ويصل الرحم ويقري الضيف ، وينفس عن المكروب ، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق والعافية ، ونحو ذلك ولا نصيب له في الآخرة . فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ هود : 15 - 16 ] وقوله تعالى : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . وقد قيد تعالى هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته ، في قوله تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 18 ] . وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها " هذا لفظ مسلم في صحيحه . وفي لفظ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته " فهذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه التصريح ، بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط ، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً ، وبمقتضى ذلك . يتعين تعييناً لا محيص عنه ، أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر ، لأنه لا يجزي بحسناته إلا في الدنيا خاصة . وأما المؤمن الذي يجزي بحسناته في الدنيا والآخرة معاً ، فلم يذهب طيباته في الدنيا ، لأن حسناته مدخرة له في الآخرة ، مع أن الله تعالى يثيبه بها في الدنيا كما قال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب ثواباً في الدنيا وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة . والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وعلى كل حال فالله جل وعلا أباح لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الطيبات في الحياة الدنيا ، وأجاز لهم التمتع بها ، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة ، كما قال تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ الأعراف : 32 ] . فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة ، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا . ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة ، يكون لهم أجر زائد على ذلك ، لأن المؤمنين يؤجرون ، بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد ، كما هو معلوم . والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا ، لأنه يجزي في الدنيا فقط كالآيات المذكورة ، وحديث أنس المذكور عند مسلم ، قد قدمناها موضحة في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } أي عذاب الهوان وهو الذل والصغار . وقوله تعالى : { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } ، الباء في قوله : بما كنتم سببية ، وما مصدرية أي تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض ، وكونكم فاسقين . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون الاستكبار في الأرض والفسق من أسباب عذاب الهون ، وهو عذاب النار ، جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } [ الزمر : 60 ] وقوله تعالى : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ } [ السجدة : 20 ] الآية . وقد قدمنا النتائج الوخيمة الناشئة عن التكبر في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [ الأعراف : 13 ] الآية . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكباراً متلبساً بغير الحق كقوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه ، وقوله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } [ البقرة : 79 ] ، ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم ، ونحو ذلك من الآيات ، وهو أسلوب عربي نزل به القرآن .