Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 1-3)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وصدوا عن سبيل الله ، قال بعضهم : هو من الصدود ، لأن صد في الآية لازمة . وقال بعضهم : هو من الصد لأن صد في الآية متعدية . وعليه فالمفعول محذوف أي صدوا غيرهم عن سبيل الله ، أي عن الدخول في الإسلام . وهذا القول الأخير هو الصواب ، لأنه على القول بأن صد لازمة ، فإن ذلك يكون تكراراً مع قوله { كَفَرُوا } لأن الكفر هو أعظم أنواع الصدود عن سبيل الله . وأما على القول : بأن صد متعدية فلا تكرار لأن المعنى أنهم ضالون في أنفسهم ، مضلون لغيرهم بصدهم إياهم عن سبيل الله ، وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم } [ النحل : 97 ] الآية ، أن اللفظ إذا دار بين التأكيد والتأسيس وجب حمله على التأسيس ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطل ثوابها ، فما عمله الكافر من حسن في الدنيا ، كقري الضيف ، وبر الوالدين ، وحمي الجار ، وصلة الرحمن ، والتنفيس عن المكروب ، يبطل يوم القيامة ، ويضمحل ويكون لا أثر له ، كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ، وهذا هو الصواب في معنى الآية . وقيل : أضل أعمالهم أي أبطل كيدهم ، الذي أرادوا أن يكيدوا به النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي غفر لهم ذنوبهم وتجاوز لهم عن أعمالهم السيئة { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي أصلح لهم شأنهم وحالهم إصلاحاً لا فساد معه ، وما ذكره جل وعلا هنا في أول هذه السورة الكريمة ، من أن يبطل أعمال الكافرين ، ويبقي أعمال المؤمنين جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ هود : 15 - 16 ] . وقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] وقوله تعالى : { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] . وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا مع بعض الأحاديث الصحيحة فيه ، مع زيادة إيضاح مهمة في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] . وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ النحل : 97 ] الآية . وذكرنا طرفاً منه في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } [ الأحقاف : 20 ] الآية . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { أَضَلَّ أَعْمَالَهُم } أصله من الضلال بمعنى الغيبة ، والاضمحلال . لا من الضالة كما زعمه الزمخشري فهو كقوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 24 ] . وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة ، في سورة الشعراء في الكلام على قوله : { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } [ الشعراء : 20 ] ، وفي آخر الكهف في الكلام على قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ الكهف : 104 ] الآية ، وفي غير ذلك من المواضع . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } قد قدمنا إيضاحه في أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ } [ الكهف : 2 ] الآية ، وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ النحل : 97 ] الآية . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّد } . قال فيه ابن كثير : هو عطف خاص على عام ، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان ، بعد بعثته صلى الله عليه وسلم اهـ منه . ويدل لذلك قوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ هود : 17 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَهُوَ الْحَقُّ } جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزل على هذا النبي الكريم ، صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله ، كما قال تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ } [ الأنعام : 66 ] ، قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } [ الحاقة : 50 - 51 ] وقال تعالى : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } [ يونس : 108 ] الآية وقال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ } [ النساء : 170 ] الآية ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة . وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } أي ذلك المذكور من إضلال أعمال الكفار أي إبطالها واضمحلالها ، وبقاء ثواب أعمال المؤمنين ، وتكفير سيئاتهم وإصلاح حالهم ، كله واقع بسبب أن الكفار اتبعوا الباطل ، ومن اتبع الباطل فعمله باطل . والزائل المضمحل تسميه العرب باطلاً وضده الحق . وبسبب أن الذين آمنوا اتبعوا الحق ، ومتبع الحق أعماله حق ، فهي ثابتة باقية ، لا زائلة مضمحلة . وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أن اختلاف الأعمال ، يستلزم اختلاف الثواب ، لا يتوهم استواءهما إلا الكافر الجاهل ، الذي يستوجب الإنكار عليه ، جاء موضحاً في آيات أخر ، كقوله تعالى : { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ القلم : 35 - 36 ] . وقوله تعالى : { أفَنَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] . وقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } . قال فيه الزمخشري : فإن قلت : أين ضرب الأمثال ؟ قلت : في جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار . واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين . أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين اهـ . منه . وأصل ضرب الأمثال يراد منه بيان الشيء بذكر نظيره الذي هو مثل له .