Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 6-6)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } . في قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } ثلاث قراآت واحدة شاذة ، واثنتان متواترتان . أما الشاذة فقراءة الرفع ، وهي قراءة الحسن . وأما المتواترتان فقراءة النصب ، وقراءة الخفض . أما النصب فهو قراءة نافع . وابن عامر ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص من السبعة ، ويعقوب من الثلاثة . وأما الجر فهو قراءة ابن كثير ، وحمزة ، وأبي عمرو ، وعاصم ، في رواية أبي بكر . أما قراءة النصب فلا إشكال فيها لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه ، وتقرير المعنى عليها فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم . وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب ، لأن الرأس يمسح بين المغسولات ، ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة . وأما على قراءة الجر ففي الآية الكريمة إجمال ، وهو أنها يفهم منها الاكتفاء بمسح الرجلين في الوضوء عن الغسل كالرأس ، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء والتوعد بالنار لمن ترك ذلك ، كقوله صلى الله عليه وسلم " ويل للأعقاب من النار " . اعلم أولاً أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لهما حكم الآيتين ، كما هو معروف عند العلماء ، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة { وأرْجُلكُمْ } بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء ، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب ، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض ، مع أن إعرابها النصب ، أو الرفع . وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود من اللحن الذي يتحمل لضرورة الشعر خاصة ، وأنه غير مسموع في العطف ، وأنه لم يجز إلا عند أمن اللبس ، فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه . وممن صرح به الأخفش ، وأبو البقاء ، وغير واحد . ولم ينكره إلا الزجاج ، وإنكاره له - مع ثبوته في كلام العرب ، وفي القرآن العظيم - يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعاً كافياً . والتحقيق أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية ، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين . فمنه في النعت قول امرئ القيس @ كأن ثبيرا في عرانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل @@ بخفض " مزمل " بالمجاورة ، مع أنه نعت " كبير " المرفوع بأنه خبر " كأن " وقول ذي الرمة @ تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب @@ إذ الرواية بخفض " غير " ، كما قاله غير واحد للمجاورة ، مع أنه نعت " سنة " المنصوب بالمفعولية . ومنه في العطف قول النابغة @ لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق في حبال القد مجنوب @@ بخفض " موثق " لمجاورته المخفوض ، مع أنه معطوف على " أسير " المرفوع بالفاعلية . وقول امرئ القيس @ وظل طهاة اللحم ما بين منضج صفيف شواءٍ أو قدير معجل @@ بجر " قدير " لمجاورته للمخفوض ، مع أنه عطف على " صفيف " المنصوب بأنه مفعول اسم الفاعل الذي هو " منضج " والصفيف فعيل بمعنى مفعول وهو المصفوف من اللحم على الجمر لينشوي ، والقدير كذلك فعيل بمعنى مفعول ، وهو المجعول في القدر من اللحم لينضج بالطبخ . وهذا الإعراب الذي ذكرناه هو الحق ، لأن الإنضاج واقع على كل من الصفيف والقدير ، فما زعمه " الصبان " في حاشيته على " الأشموني " من أن قوله " أو قدير " معطوف على " منضج " بتقدير المضاف أي وطابخ قدير الخ ظاهر السقوط ، لأن المنضج شامل لاوي الصفيف ، وطابخ القدير . فلا حاجة إلى عطف الطابخ على المنضج لشموله له ، ولا داعي لتقدير " طابخ " محذوف . وما ذكره العيني من أنه معطوف على " شواء " ، فهو ظاهر السقوط أيضاً . وقد رده عليه " الصبان " ، لأن المعنى يصير بذلك وصفيف قدير ، والقدير لا يكون صفيفاً . والتحقيق هو ما ذكرنا من الخفض بالمجاورة ، وبه جزم ابن قدامة في المغني . ومن الخفض بالمجاورة في العطف قول زهير @ لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر @@ بجر " القطر " لمجاورته للمخفوض مع أنه معطوف على " سوافي " المرفوع ، بأنه فاعل غير . ومنه في التوكيد قول الشاعر @ يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب @@ بجر " كلهم " على ما حكاه الفراء ، لمجاورة المخفوض ، مع أنه توكيد " ذوي " المنصوب بالمفعولية . ومن أمثلته في القرآن العظيم في العطف - كالآية التي بصددها - قوله تعالى { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } الواقعة 22 - 23 ، على قراءة حمزة ، والكسائي . ورواية المفضل عن عاصم بالجر لمجاورته لأكواب وأباريق ، إلى قوله { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } الواقعة 21 مع أن قوله { وَحُورٌ عِينٌ } الواقعة 22 حكمه الرفع فقيل ، إنه معطوف على فاعل " يطوف " الذي هو { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } الواقعة 17 . وقيل هو مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف دل المقام عليه . أي وفيها حور عين ، أو لهم حور عين . وإذن فهو من العطف بحسب المعنى . وقد أنشد سيبويه للعطف على المعنى قول الشماخ ، أو ذي الرمة @ بادت وغير آيهن مع البلا إلا رواكد جمرهن هباء ومشجَّج أما سواء قذاله فبدا وغيب ساره المعزاء @@ لأن الرواية بنصب " رواكد " على الاستثناء ، ورفع مشجج عطفاً عليه ، لأن المعنى لم يبق منها إلا رواكد ومشجج ، ومراده بالرواكد أثافي القدر ، وبالمشجج وتد الخباء ، وبه تعلم أن وجه الخفض في قراءة حمزة ، والكسائي هو المجاورة للمخفوض ، كما ذكرنا خلافاً لمن قال في قراءة الجر إن العطف على أكواب ، أي يطاف عليهم بأكواب ، وبحور عين ، ولمن قال إنه معطوف على جنات النعيم ، أي هم في جنات النعيم ، وفي حورٍ على تقدير حذف مضاف أي في معاشرة حور . ولا يخفى ما في هذين الوجهين ، لأن الأول يرد ، بأن الحور العين لا يطاف بهن مع الشراب ، لقوله تعالى { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } الرحمن 72 . والثاني فيه أن كونهم في جنات النعيم ، وفي حور ظاهر السقوط كما ترى ، وتقدير ما لا دليل عليه لا وجه له . وأجيب عن الأول بجوابين ، الأول أن العطف فيه بحسب المعنى ، لأن المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور . قاله الزجاج وغيره . الجواب الثاني أن الحور قسمان 1 - حور مقصورات في الخيام ، 2 - وحور يطاف بهن عليهم ، قاله الفخر الرازي وغيره ، وهو تقسيم لا دليل عليه ، ولا يعرف من صفات الحور العين كونهن يطاف بهن كالشراب ، فأظهرها الخفض بالمجاورة ، كما ذكرنا . وكلام الفراء وقطرب ، يدل عليه ، وما رد به القول بالعطف على أكواب من كون الحور لا يطاف بهن يرد به القول بالعطف على { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } الواقعة 17 ، في قراءة الرفع ، لأنه يقتضي أن الحور يطفن عليهم كالولدان ، والقصر في الخيام ينافي ذلك . وممن جزم بأن خفض { وَأَرْجُلَكُمْ } لمجاورة المخفوض البيهقي في السنن الكبرى ، فإنه قال ما نصه باب قراءة من قرأ { وَأَرْجُلَكُمْ } نصباً ، وأن الأمر رجع إلى الغسل وأن من قرأها خفضاً ، فإنما هو للمجاورة ، ثم ساق أسانيده إلى ابن عباس ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد وعطاء والأعرج وعبد الله بن عمرو بن غيلان ، ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ ، وأبي محمد يعقوب بن إسحاق بن يزيد الحضرمي أنهم قرأوها كلهم { وأرجلكم } بالنصب . قال وبلغني عن إبراهيم بن يزيد التيمي أنه كان يقرؤها نصباً ، وعن عبد الله بن عامر اليحصبي ، وعن عاصم برواية حفص ، وعن أبي بكر بن عياش من رواية الأعشى ، وعن الكسائي ، كل هؤلاء نصبوها . ومن خفضها فإنما هو للمجاورة ، قال الأعمش كانوا يقرأونها بالخفض ، وكانوا يغسلون ، اهـ كلام البيهقي . ومن أمثلة الخفض بالمجاورة في القرآن في النعت قوله تعالى { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } هود 84 بخفض { مُحِيطٍ } مع أنه نعت للعذاب . وقوله تعالى { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } هود 26 ، ومما يدل أن النعت للعذاب ، وقد خفض للمجاورة ، كثرة ورود الألم في القرآن نعتاً للعذاب . وقوله تعالى { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } البروج 21 - 22 على قراءة من قرأ بخفض { محفوظ } كما قاله القرطبي ومن كلام العرب " هذا جحر ضب خرب " بخفض خرب لمجاورة المخفوض مع أنه نعت خبر المبتدأ . وبهذا تعلم أن دعوى كون الخفض بالمجاورة لحناً لا يتحمل إلا لضرورة الشعر باطلة ، والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين ، إذ لم يرد تحديد الممسوح ، وتزيله قراءة النصب ، كما ذكرنا فإن قيل قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبينة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفاً على المحل . لأن الرؤوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول ابن مالك في الخلاصة @ وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن @@ وابن مالك وإن كان أورد هذا في " إعمال المصدر " فحكمه عام ، أي وكذلك الفعل والوصف كما أشار له في الوصف بقوله @ واجرر أو انصب تابعِ الذي انخَفَض كمبتغي جاه وما لا من نهض @@ فالجواب أن بيان قراءة النصب بقراءة الجر - كما ذكر - تأباه السنة الصريحة الصحيحة الناطقة بخلافه ، وبتوعد مرتكبه بالويل من النار بخلاف بيان قراءة الخفض بقراءة النصب ، فهو موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه قولاً وفعلاً . فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما ، عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما . قال تخلَّف عنَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرةٍ سافرناها فأدركنا ، وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوتِه " أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " ، وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه . وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " أسبغوا الوضوء ، ويلن للأعقاب من النَّار " وروى البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن حارث بن جزء ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ويل للأعقاب ، وبطون الأقدام من النار " وروى الإمام أحمد ، وابن ماجه ، وابن جرير ، عن جابر رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " ويل للأعقاب من النار " . وروى الإمام أحمد عن معيقيب ، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " ويل للأعقاب من النار " وروى ابن جرير عن أبي أمامة ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويل للأعقاب من النار " ، قال فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما . وثبت في أحاديث الوضوء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد ابن عاصم ، والمقداد بن معد يكرب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه ، إما مرة أو مرتين أو ثلاثاً " على اختلاف رواياتهم . وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه " . ثم قال " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " . والأحاديث في الباب كثيرة جداً ، وهي صحيحة صريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء ، وعدم الاجتزاء بمسحهما . وقال بعض العلماء المراد بمسح الرجلين غسلهما . والعرب تطلق المسح على الغسل أيضاً ، وتقول تمسَّحت بمعنى توضأت ومسح المطر الأرض أي غسلها ، ومسح الله ما بك أي غسل عنك الذنوب والأذى . ولا مانع من كون المراد بالمسح في الأرجل هو الغسل ، المراد به في الرأس المسح الذي ليس بغسل ، وليس من حمل المشترك على معنييه ، ولا عن حمل اللفظ على حقيقته ومجازه ، لأنهما مسألتان كل منهما منفردة عن الأخرى مع أن التحقيق جواز حمل المشترك على معنييه ، كما حققه الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية - رحمه الله - في رسالته في علوم القرآن ، وحرر أنه هو الصحيح في مذاهب الأئمة الأربعة رحمهم الله ، وجمع ابن جرير الطبري في تفسيره بين قراءة النصب والجر بأن قراءة النصب يراد بها غسل الرجلين ، لأن العطف فيها على الوجوه والأيدي إلى المرافق ، وهما من المغسولات بلا نزاع ، وأن قراءة الخفض يراد بها المسح مع الغسل ، يعني الدلك باليد أو غيرها . والظاهر أن حكمة هذا في الرجلين دون غيرهما . أن الرجلين هما أقرب أعضاء الإنسان إلى ملابسة الأقذار لمباشرتهما الأرض فناسب ذلك أن يجمع لهما بين الغسل بالماء والمسح أي الدلك باليد ليكون ذلك أبلغ في التنظيف . وقال بعض العلماء المراد بقراءة الجر المسح ، ولكن النَّبي صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك المسح لا يكون إلا على الخف . وعليه فالآية تشير إلى المسح على الخف في قراءة الخفض ، و المسح على الخفين - إذا لبسمها طاهراً - متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يخالف فيه إلا من لا عبرة به ، والقول بنسخه بآية المائدة يبطل بحديث جرير أنه بال ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، فقيل له تفعل هكذا ؟ قال نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ، ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، قال إبراهيم فكان يعجبهم هذا الحديث ، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة ، متفق عليه . ويوضح عدم النسخ أن آية المائدة نزلت في غزوة " المريسيع " . ولا شك أن إسلام جرير بعد ذلك ، مع أن المغيرة بن شعبة روى المسح على الخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة " تبوك " وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم . وممن صرح بنزول آية المائدة في غزوة " المريسيع " ابن حجر في فتح الباري ، وأشار له البدوي الشنقيطي في نظم المغازي بقوله في غزوة المريسيع @ والإفك في قفولهم ونقلا أن التيمم بها قد أنزلا @@ والتيمم في آية المائدة ، وأجمع العلماء على جواز المسح على الخف الذي هو من الجلود ، واختلفوا فيما كان من غير الجلد إذا كان صفيقاً ساتراً لمحل الفرض ، فقال مالك وأصحابه لا يمسح على شيء غير الجلد . فاشترطوا في المسح أن يكون الممسوح خفاً من جلود ، أو جورباً مجلداً ظاهره وباطنه ، يعنون ما فوق القدم وما تحتها لا باطنه الذي يلي القدم . واحتجوا بأن المسح على الخف رخصة ، وأن الرخص لا تتعدى محلها وقالوا إن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يمسح على غير الجلد . فلا يجوز تعديه إلى غيره ، وهذا مبني على شطر قاعدة أصولية مختلف فيها ، وهي " هل يلحق بالرخص ما في معناها ، أو يقتصر عليها ولا تعدي محلها " ؟ ومن فروعها اختلافهم في بيع " العرايا " من العنب بالزبيب اليابس ، هل يجوز إلحاقاً بالرطب بالتمر أو لا ؟ . وجمهور العلماء منهم الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وأصحابهم على عدم اشتراط الجلد ، لأن سبب الترخيص الحاجة إلى ذلك وهي موجودة في المسح على غير الجلد ، ولما جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من أنه مسح على الجوربين ، والموقين . قالوا . والجورب لفافة الرجل ، وهي غير جلد . وفي القاموس الجورب لفافة الرجل ، وفي اللسان الجورب لفافة الرجل ، معرب وهو بالفارسية " كورب " . وأجاب من اشترط الجلد بأن الجورب هو الخف الكبير ، كما قاله بعض أهل العلم ، أما الجرموق والموق ، فالظاهر أنهما من الخفاف . وقيل إنهما شيء واحد ، وهو الظاهر من كلام أهل اللغة . وقيل إنهما متغايران ، وفي القاموس الجرموق - كعصفور - الذي يلبس فوق الخف وفي القاموس أيضاً الموق خف غليظ يلبس فوق الخف ، وفي اللسان الجرموق ، خف صغير ، وقيل خف صغير يلبس فوق الخف ، في اللسان أيضاً الموق الذي يلبس فوق الخف ، فارسي معرب . والموق الخف اهـ . قالوا والتساخين الخفاف ، فليس في الأحاديث ما يعين أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على غير الجلد ، والجمهور قالوا نفس الجلد لا أثر له ، بل كل خف صفيق ساتر لمحل الفرض يمكن فيه تتابع المشي ، يجوز المسح عليه ، جلداً كان أو غيره . مسائل تتعلق بالمسح على الخفين الأولى أجمع العلماء على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر . وقال الشيعة والخوارج لا يجوز ، وحكي نحوه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن داود ، والتحقيق عن مالك ، وجل أصحابه ، القول بجواز المسح على الخف في الحضر والسفر . وقد روي عنه المنع مطلقاً ، وروي عنه جوازه في السفر دون الحضر . قال ابن عبد البر لا أعلم أحداً أنكره إلا مالكاً في رواية أنكرها أكثر أصحابه ، والروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته ، وموطأه يشهد للمسح في الحضر والسفر ، وعليه جميع أصحابه ، وجميع أهل السنة . وقال الباجي رواية الإنكار في " العتبية " وظاهرها المنع ، وإنما معناها أن الغسل أفضل من المسح ، قال ابن وهب آخر ما فارقت مالكاً على المسح في الحضر والسفر . وهذا هو الحق الذي لا شك فيه ، فما قاله ابن الحاجب عن مالك من جوازه في السفر دون الحضر غير صحيح ، لأن المسح على الخف متواتر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، قال الزرقاني في شرح " الموطأ " وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين ، منهم العشرة ، وروى ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري ، حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين ، اهـ . وقال النووي في شرح " المهذب " وقد نقل ابن المنذر في كتاب الإجماع إجماع العلماء على جواز المسح على الخف ، ويدل عليه الأحاديث الصحيحة المستفيضة في مسح النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر ، وأمره بذلك وترخيصه فيه ، واتفاق الصحابة ، فمن بعدهم عليه . قال الحافظ أبو بكر البيهقي روينا جواز المسح على الخفين عن عمر ، وعلي ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي أيوب الأنصاري ، وأبي موسى الأشعري ، وعمار بن ياسر ، وجابر بن عبد الله ، وعمرو بن العاص ، وأنس بن مالك ، وسهل بن سعد ، وأبي مسعود الأنصاري ، والمغيرة بن شعبة ، والبراء بن عازب ، وأبي سعيد الخدري ، وجابر بن سمرة ، وأبي أمامة الباهلي ، وعبد الله بن الحارث بن جزء ، وأبي زيد الأنصاري رضي الله عنهم . قلت ورواء خلائق من الصحابة ، غير هؤلاء الذين ذكرهم البيهقي ، وأحاديثهم معروفة في كتب السنن وغيرها . قال الترمذي وفي الباب عن عمر ، وسلمان ، وبريدة ، وعمرو بن أمية ، ويعلى بن مرة ، وعبادة بن الصامت ، وأسامة بن شريك ، وأسامة بن زيد ، وصفوان بن عسال ، وأبي هريرة ، وعوف بن مالك ، وابن عمر ، وأبي بكرة وبلال ، وخزيمة بن ثابت . قال ابن المنذر وروينا عن الحسن البصري ، قال حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين . قال وروينا عن ابن المبارك ، قال ليس في المسح على الخفين اختلاف ، اهـ . وقد ثبت في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف في غزوة تبوك ، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم ، وثبت في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخف ، ولا شك أن ذلك بعد نزول آية المائدة كما تقدم ، وفي سنن أبي داود أنهم لما قالوا لجرير إنما كان ذلك قبل نزول المائدة ، قال ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة . وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا تدل على عدم نسخ المسح على الخفين ، وأنه لا شك في مشروعيته ، فالخلاف فيه لا وجه له ألبتة . المسألة الثانية اختلف العلماء في غسل الرجل والمسح على الخف أيهما أفضل ؟ فقالت جماعة من أهل العلم غسل الرجل أفضل من المسح على الخف ، بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن الرخصة في المسح ، وهو قول الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابهم ، ونقله ابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، وابنه رضي الله عنهما ، ورواه البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري . وحجة هذا القول أن غسل الرجل هو الذي واظب عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم في معظم الأوقات ، ولأنه هو الأصل ، ولأنه أكثر مشقة . وذهبت طائفة من اهل العلم إلى أن المسح أفضل ، وهو أصح الروايات عن الإمام أحمد ، وبه قال الشعبي ، والحكم ، وحماد . واستدل أهل هذا القوم بقوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات حديث المغيرة بن شعبة " بهذا أمرني ربي " . ولفظه في سنن أبي داود " عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ، فقلت يا رسول الله أنسيت ؟ قال " بل أنت نسيت . بهذا أمرني ربي عزَّ وجلَّ " . واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بن عسال الآتي إن شاء الله تعالى " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفِّين " الحديث . قالوا والأمر إذا لم يكن للوجوب ، فلا أقل من أن يكون للندب ، قال مقيده عفا الله عنه وأظهر ما قيل في هذه المسألة عندي ، هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله ، وعزاه لشيخه تقي الدين رحمه الله ، وهو أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف ضد حاله التي كان عليها قدماه ، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ، ولم ينزعهما ، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين ، ولم يلبس الخف ليمسح عليه . وهذا أعدل الأقوال في هذه المسألة ، اهـ . ويشترط في الخف أن يكون قوياً يمكن تتابع المشي فيه في مواضع النزول ، وعند الحط والترحال ، وفي الحوائج التي يتردد فيها في المنزل ، وفي المقيم نحو ذلك ، كما جرت عادة لابسي الخفاف . المسألة الثالثة إذا كان الخف مخرقاً ، ففي جواز المسح عليه خلاف بين العلماء ، فذهب مالك وأصحابه إلى أنه إن ظهر من تخريقه قدر ثلث القدم لم يجز المسح عليه ، وإن كان أقل من ذلك جاز المسح عليه ، واحتجوا بأن الشرع دل على أن الثلث آخر حد اليسير ، وأول حد الكثير . وقال بعض أهل العلم لا يجوز المسح على خف فيه خرق يبدو منه شيء من القدم ، وبه قال أحمد بن حنبل ، والشافعي في الجديد ، ومعمر بن راشد . واحتج أهل هذا القول بأن المنكشف من الرجل حكمه الغسل ، والمستور حكمه المسح ، والجمع بين المسح والغسل لا يجوز ، فكما أنه لا يجوز له أن يغسل إحدى رجليه ويمسح على الخف في الأخرى ، لا يجوز له غسل بعض القدم مع مسح الخف في الباقي منها . وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الخرق الكبير يمنع المسح على الخف دون الصغير . وحددوا الخرق الكبير بمقدار ثلاثة أصابع . قيل من أصابع الرجل الأصاغر ، وقيل من أصابع اليد . وقال بعض أهل العلم يجوز المسح على جميع الخفاف ، وإن تخرقت تخريقاً كثيراً ما دامت يمكن تتابع المشي فيها . ونقله ابن المنذر عن سفيان الثوري ، وإسحاق ، ويزيد بن هارون ، وأبي ثور . وروى البيهقي في السنن الكبرى عن سفيان الثوري أنه قال امسح عليهما ما تعلقا بالقدم ، وإن تخرقا ، قال وكانت كذلك خفاف المهاجرين والأنصار مخرقة مشققة ، اهـ . وقال البيهقي قول معمر بن راشد في ذلك أحب إلينا ، وهذا القول الذي ذكرنا عن الثوري ، ومن وافقه هو اختيار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله . وقال ابن المنذر وبقول الثوري أقول ، لظاهر إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين قولاً عاماً يدخل فيه جميع الخفاف . اهـ ، نقله عنه النووي ، وغيره ، وهو قوي . وعن الأوزاعي إن ظهرت طائفة من رجله مسح على خفيه ، وعلى ما ظهر من رجله . هذا حاصل كلام العلماء في هذه المسالة . وأقرب الأقوال عندي ، المسح على الخف المخرق ما لم يتفاحش خرقه حتى يمنع تتابع المشي فيه لإطلاق النصوص ، مع أن الغالب على خفاف المسافرين ، والغزاة عدم السلامة من التخريق ، والله تعالى أعلم . المسألة الرابعة اختلف العلماء في جواز المسح على النعلين ، فقال قوم يجوز المسح على النعلين . وخالف في ذلك جمهور العلماء ، واستدل القائلون بالمسح على النعلين بأحاديث ، منها ما رواه أبو داود في سننه ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن سفيان الثوري ، عن أبي قيس الأودي ، هو عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل ، عن المغيرة بن شعبة " أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح الجوربين والنعلين " قال أبو داود ، وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث ، لأن المعروف عن المغيرة ، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ، وروى هذا الحديث البيهقي . ثم قال قال أبو محمد رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر ، وقال أبو قيس الأودي ، وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة ، فقالوا مسح على الخفين ، وقال لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس ، وهزيل ، فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي ، فسمعته يقول علي بن شيبان يقول سمعت أبا قدامة السرخسي يقول قال عبد الرحمن بن مهدي قلت لسفيان الثوري لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك ، فقال سفيان الحديث ضعف أو واه ، أو كلمة نحوها ، اهـ . وروى البيهقي أيضاً عن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال حدثت أبي بهذا الحديث ، فقال أبي ليس يُروى هذا إلا من حديث أبي قيس ، قال أبي إن عبد الرحمن بن مهدي ، يقول هو منكر ، وروى البيهقي أيضاً عن علي بن المديني أنه قال حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة ، وأهل الكوفة ، وأهل البصرة ، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة ، إلا أنه قال ومسح على الجوربين ، وخالف الناس . وروي أيضاً عن يحيى بن معين أنه قال في هذا الحديث الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس ، ثم ذكر أيضاً ما قدمنا عن أبي داود من أن عبد الرحمن بن مهدي كان لا يحدث بهذا الحديث ، لأن المعروف عن المغيرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ، وقال أبو داود وروي هذا الحديث أيضاً عن أبي موسى الأشعري ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، وليس بالقوي ولا بالمتصل ، وبين البيهقي ، مراد أبي داود بكونه غير متصل وغير قوي ، فعدم اتصاله ، إنما هو لأن راويه عن أبي موسى الأشعري هو الضحاك بن عبد الرحمن ، قال البيهقي والضحاك بن عبد الرحمن لم يثبت سماعه من ابي موسى ، وعدم قوته ، لأن في إسناده عيسى بن سنان ، قال البيهقي وعيسى بن سنان ضعيف ، اهـ . وقال فيه ابن حجر في التقريب لين الحديث ، واعترض المخالفون تضعيف الحديث المذكور في المسح على الجوربين والنعلين ، قالوا أخرجه أبو داود ، وسكت عنه ، وما سكت عنه فأقل درجاته عنده الحسن قالوا وصححه ابن حبان ، وقال الترمذي حسن صحيح ، قالوا وأبو قيس وثقه ابن معين ، وقال العجلي ثقة ثبت ، وهزيل وثّقه العجلي ، وأخرج لهما معاً البخاري في صحيحه ، ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة ، بل رويا أمراً زائداً على ما رووه بطريق مستقل غير معارض ، فيحمل على أنهما حديثان قالوا ولا نسلم عدم سماع الضحاك بن عبد الرحمن من أبي موسى ، لأن المعاصرة كافية في ذلك كما حققه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه . ولأن عبد الغني قال في الكمال سمع الضحاك من أبي موسى ، قالوا وعيسى بن سنان ، وثقه ابن معين وضعفه غيره ، وقد أخرج الترمذي في " الجنائز " حديثاً في سنده عيسى بن سنان هذا ، وحسنه . ويعتضد الحديث المذكور أيضاً بما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر ، الثابت في الصحيح " أن عبيد بن جريج ، قال له يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها ، قال ما هن ؟ فذكرهن ، وقال فيهن رأيتك تلبس النِّعال السِّبتية ، قال أما النعال السبتية ، " فإنِّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعالَ التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها " . قال البيهقي ، بعد أن ساق هذا الحديث بسنده ورواه البخاري في الصحيح ، عن عبد الله بن يوسف عن مالك ، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى ، ورواه جماعة عن سعيد المقبري ، ورواه ابن عيينة عن ابن عجلان عن المقبري ، فزاد فيه ويمسح عليها . وهو محل الشاهد قال البيهقي . وهذه الزيادة إن كانت محفوظة فلا ينافي غسلهما ، فقد يغسلهما في النعل ، ويمسح عليهما . ويعتضد الاستدلال المذكور أيضاً في المسح على النعلين بما رواه البيهقي بإسناده عن زيد بن وهب ، قال بال علي ، وهو قائم ثم توضأ ، ومسح على النعلين ، ثم قال وبإسناده قال حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل ، عن أبي ظبيان ، قال " بال عليَّ وهو قائم ثمَّ توضَّأَ ومسح على النَّعلين ثمَّ خرج فصلَّى الظهر " . وأخرج البيهقي أيضاً نحوه عن أبي ظبيان بسند آخر ، ويعتضد الاستدلال المذكور بما رواه البيهقي أيضاً من طريق رواد بن الجراح ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس . " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأَ مرة مرة ، ومسح على نعليه " ثم قال هكذا رواه رواد بن الجراح ، وهو ينفرد عن الثوري بمناكير هذا أحدها ، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة . وروي عن زيد بن الحباب عن الثوري هكذا ، وليس بمحفوظ . ثم قال أخبرنا أبو الحسن بن عبدان ، أنبأنا سليمان بن أحمد الطبراني ، ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي ، حدثني أبي ثنا زيد بن الحباب ، ثنا سفيان فذكره بإسناده " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح على النعلين " اهـ . قال البيهقي بعد أن ساقه والصحيح رواية الجماعة ، ورواه عبد العزيز الدراوردي ، وهشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، فحكيا في الحديث " رشا على الرجل وفيها النعل " ، وذلك يحتمل أن يكون غسلها في النعل ، فقد رواه سليمان بن بلال ، ومحمد بن عجلان ، وورقاء بن عمر ، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير ، عن زيد بن أسلم ، فحكوا في الحديث غسله رجليه ، والحديث حديث واحد ، والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير ، مع فضل حفظ من حفظ فيه الغسل بعد الرش على من لم يحفظه ، ويعتضد الاستدلال المذكور أيضاً بما رواه البيهقي أيضاً ، أخبرنا أبو علي الروذباري ، أنا أبو بكر بن داسة ، ثنا أبو داود ، ثنا مسدد ، وعباد بن موسى ، قالا ثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن أبيه ، قال عباد قال " أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأَ ومسح على نعليه وقدميه " . وقال مسدد إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورواه حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء ، عن أوس الثقفي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وهو منقطع " أخبرناه أبو بكر بن فورك ، أنا عبد الله بن جعفر ، ثنا يونس بن حبيب ، ثنا أبو داود الطيالسي ، ثنا حماد بن سلمة ، فذكره . وهذا الإسناد غير قوي ، وهو يحتمل ما احتمل الحديث الأول ، اهـ كلام البيهقي . ولا يخفى أن حاصله أن أحاديث المسح على النعلين منها ما هو ضعيف لا يحتج به ، ومنها ما معناه عنده " إنه صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في النعلين " . ثم استدل البيهقي على أن المراد بالوضوء في النعلين غسل الرجلين فيهما بحديث " ابن عمر ، الثابت في الصحيحين ، أنه قال أما النِّعال السبتية " فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النِّعال الَّتي ليس فيها شعر ، ويتوضَّأ فيها ، فأَنا أحب أن ألبسها " اهـ . ومراد البيهقي أن معنى قول ابن عمر " ويتوضأ " فيها أنه يغسل رجليه فيها ، وقد علمت أنا قَدمنا رواية ابن عيينة التي ذكرها البيهقي عن ابن عجلان ، عن المقبري ، وفيها زيادة ، " ويمسح عليها " . وقال البيهقي - رحمه الله - في منع المسح على النعلين والجوربين والأصل وجوب غسل الرجلين إلا ما خصته سنة ثابتة ، أو إجماع لا يختلف فيه ، وليس على المسح على النعلين ولا على الجوربين واحد منهما ، اهـ . وأجيب من جهة المخالفين بثبوت المسح على الجوربين والنعلين ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن الترمذي صحح المسح على الجوربين والنعلين ، وحسنه من حديث هزيل عن المغيرة ، وحسنه أيضاً من حديث الضحاك عن أبي موسى ، وصحح ابن حبان المسح على النعلين من حديث أوس ، وصحح ابن خزيمة حديث ابن عمر في المسح على النِّعال السبتية . قالوا وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب ، عن الثوري في المسح على النعلين ، حديث جيد قالوا وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ، ويمسح عليهما . ويقول كذلك " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل " ، وصححه ابن القطان . وقال ابن حزم المنع من المسح على الجوربين خطأ ، لأنه خلاف السنة الثابتة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلاف الآثار . هذا حاصل ما جاء في المسح على النعلين والجوربين . قال مقيده - عفا الله عنه - إن كان المراد بالمسح على النعلين والجوربين أن الجوربين ملصقان بالنعلين ، بحيث يكون المجموع ساتراً لمحل الفرض مع إمكان تتابع المشي فيه ، والجوربان صفيقان فلا إشكال . وإن كان المراد المسح على النعلين بانفرادهما ، ففي النفس منه شيء ، لأنه حينئذ لم يغسل رجله ، ولم يمسح على ساتر لها ، فلم يأت بالأصل ، ولا بالبدل . والمسح على نفس الرجل ترده الأحاديث الصحيحة المصرحة بمنع ذلك بكثرة ، كقوله صلى الله عليه وسلم " ويل للأعقاب من النَّار " ، والله تعالى أعلم . المسألة الخامسة اختلف العلماء في توقيت المسح على الخفين . فذهب جمهور العلماء إلى توقيت المسح بيوم وليلة المقيم ، وثلاثة ايام بلياليهن للمسافر . وإليه ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحابهم وهو مذهب الثوري ، والأوزاعي ، وأبي ثور ، وإسحاق بن راهويه ، وداود الظاهري ، ومحمد بن جرير الطبري ، والحسن بن صالح بن حسين . وممن قال به من الصحابة علي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وابن عباس وحذيفة ، والمغيرة ، وأبو زيد الأنصاري . وروي أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعن جميعهم . وممن قال به من التابعين شُرَيْح القاضي ، وعطاء بن أبي رباح ، والشعبي ، وعمر بن عبد العزيز . وقال أبو عمر بن عبد البر أكثر التابعين والفقهاء على ذلك . وقال أبو عيسى الترمذي التوقيت ثلاثاً للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة ، والتابعين ومن بعدهم . وقال الخطابي التوقيت قول عامة الفقهاء ، قاله النووي . وحجة أهل هذا القول بتوقيت المسح الأحاديث الواردة بذلك ، فمن ذلك حديث علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم ، يوم وليلة " ، أخرجه مسلم ، والإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان . ومن ذلك أيضاً حديث أبي بكرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم " أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوماً وليلة ، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما " أخرجه ابن خزيمة ، والدارقطني ، وابن أبي شيبة ، وابن حبان والبيهقي ، والترمذي في العلل ، والشافعي ، وابن الجارود ، والأثرم في سننه ، وصححه الخطابي ، وابن خزيمة ، وغيرهما . ومن ذلك أيضاً حديث صفوان بن عسَّال المرادي قال " أمرنا - يعني النَّبي صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفَّين إذا نحن أدخلناها على طهر ثلاثاً إذا سافرنا ، ويوماً وليلة إذا أقمنا ، ولا نخلعهما من غائط ، ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة " أخرجه الإمام أحمد ، وابن خزيمة والترمذي ، وصححاه والنسائي ، وابن ماجه ، والشافعي ، وابن حبان ، والدارقطني ، والبيهقي . قال الشوكاني في نيل الأوطار وحكى الترمذي عن البخاري ، أنه حديث حسن ، ومداره على عاصم بن أبي النجود ، وهو صدوق ، سيء الحفظ . وقد تابعه جماعة ، ورواه عنه أكثر من أربعين نفساً قاله ابن منده اهـ . وذهبت جماعة من أهل العلم إلى عدم توقيت المسح وقالوا إن من لبس خفيه ، وهو طاهر ، مسح عليهما ما بدا له ، ولا يلزمه خلعهما إلا من جنابة . وممن قال بهذا القول مالك ، وأصحابه ، والليث بن سعد ، والحسن البصري . ويروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، و الشعبي ، وربيعة ، وهو قول الشافعي في القديم ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم . وحجة أهل هذا القول ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم " إذا توضَّأَ أحدكم ، فلبس خفيه ، فليمسح عليهما ، وليصلِّ فيهما ، ولا يخلعهما إن شاء ، إلا من جنابة ونحوه " . وأخرجه الدارقطني . وهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الحاكم وغيره ، يعتضد بما رواه الدارقطني عن ميمونة بنت الحارث الهلالية ، زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم من عدم التوقيت . ويؤيده أيضاً ما رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وابن حبان ، عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه ، أنه زاد في حديث التوقيت ما لفظه ولو استزدناه لزادنا ، وفي لفظ " لو مضَى السائل علَى مسألته لجعلها خمساً " يعني ليالي التوقيت للمسح . وحديث خزيمة هذا الذي فيه الزيادة المذكورة صحَّحه ابن معين ، وابن حبان وغيرهما ، وبه تعلم أن ادعاء النووي في " شرح المهذب " الاتفاق على ضعفه ، غير صحيح . وقول البخاري - رحمه الله - إنه لا يصحُّ عنده لأنه لا يعرف للجدلي سماع من خزيمة ، مبني على شرطه ، وهو ثبوت اللقى . وقد أوضح مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في مقدمة صحيحه ، أن الحق هو الاكتفاء بإمكان اللقى بثبوت المعاصرة ، وهو مذهب جمهور العلماء . فإن قيل حديث خزيمة الذي فيه الزيادة ، ظن فيه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لو استزيد لزاد ، وقد رواه غيره ، ولم يظن هذا الظن ، ولا حجة في ظن صحابي خالفه غيره فيه . فالجواب أن خزيمة هو ذو الشهادتين الذي جعله صلى الله عليه وسلم بمثابة شاهدين ، وعدالته ، وصِدْقُه ، يمنعانه من أن يجزم بأنه لو استُزيد لزاد إلا وهو عارف أن الأمر كذلك ، بأمور أُخر اطلع هو عليها ، ولم يطلع عليها غيره . ومما يؤيد عدم التوقيت ما رواه أبو داود ، وقال ليس بالقوي " عن أُبي بن عمارة رضي الله عنه " أنه قال يا رسول الله امسح على الخفين ؟ قال نعم قال يوماً قال نعم ، قال ويومين ، قال نعم ، قال وثلاثة ايام ، قال نعم ، وما شئت " . وهذا الحديث وإن كان لا يصلح دليلا مستقلاً ، فإنه يصلح لتقوية غيره من الأحاديث التي ذكرنا . فحديث أنس في عدم التوقيت صحيح . ويعتضد بحديث خزيمة الذي فيه الزيادة ، وحديث ميمونة ، وحديث أُبي بن عمارة ، وبالآثار الموقوفة على عمر ، وابنه ، وعقبة بن عامر ، رضي الله عنهم . تنبيه الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أنه لا يمكن الجمع في هذه الأحاديث بحمل المطلق على المقيد ، لأن المطلق هنا فيه التصريح بجواز المسح أكثر من ثلاث للمسافر ، والمقيم ، و المقيد فيه التصريح بمنع الزائد على الثلاث للمسافر واليوم والليلة للمقيم . فهما متعارضان في ذلك الزائد ، فالمطلق يصرح بجوازه ، والمقيد يصرح بمنعه ، فيجب الترجيح بين الأدلة ، فترجح أدلة التوقيت بأنها أحوط ، كما رجحها بذلك ابن عبد البر ، وبأن رواتها من الصحابة أكثر ، وبأن منها ما هو ثابت في صحيح مسلم ، وهو حديث علي رضي الله عنه المتقدِّم . وقد ترجح أدلة عدم التوقيت بأنها تضمنت زيادة ، وزيادة العدل مقبولة ، وبأن القائل بها مثبت أمراً ، والمانع منها ناف له ، والمثبت أولى من النافي . قال مقيده عفا الله عنه والنفس إلى ترجيح التوقيت أميل ، لأن الخروج من الخلاف أحوط ، كما قال بعض العلماء @ وإن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفاً فاستبن @@ وقال الآخر @ وذو احتياط في أمور الدين من فرَّ من شك إلى يقين @@ ومصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . فالعامل بأدلة التوقيت طهارته صحيحة باتفاق الطائفتين ، بخلاف غيره فإحدى الطائفتين تقول ببطلانها بعد الوقت المحدد ، والله تعالى أعلم . واعلم أن القائلين بالتوقيت اختلفوا في ابتداء مدة المسح . فذهب الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، وأحمد في أصح الروايتين عنه ، وسفيان الثوري ، وداود في أصح الروايتين ، وغيرهم ، إلى أن ابتداء مدة التوقيت من أول حدث يقع بعد ليس الخف ، وهذا قول جمهور العلماء . واحتج أهل هذا القول بزيادة رواها الحافظ القاسم بن زكريا المطرز في حديث صفوان من الحدث إلى الحدث . قال النووي في " شرح المهذب " وهي زيادة غريبة ليست ثابتة . واحتجوا أيضاً بالقياس وهو أن المسح عبادة مؤقتة ، فيكون ابتداء وقتها من حين جواز فعلها قياساً على الصلاة . وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث . وممن قال بهذا ، الأوزاعي ، وأبو ثور ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وداود ، ورجح هذا القول النووي ، واختاره ابن المنذر ، وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه . واحتج أهل هذا القول بأحاديث التوقيت في المسح ، وهي أحاديث صحاح . ووجه احتجاجهم بها أن قوله صلى الله عليه وسلم " يمسح المسافر ثلاثة أيام " صريح ، في أن الثلاثة كلها ظرف للمسح . ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان ابتداء المدة من المسح ، وهذا هو أظهر الأقوال دليلا فيما يظهر لي ، والله تعالى أعلم . وفي المسألة قول ثالث ، وهو أن ابتداء المدة من حين لبس الخف ، وحكاه الماوردي والشاشي ، عن الحسن البصري ، قاله النووي ، والله تعالى أعلم . المسالة السادسة اختلف العلماء هل يكفي مسح ظاهر الخف ، أو لا بد من مسح ظاهره وباطنه . فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يكفي مسح ظاهره . وممن قال أبو حنيفة ، وأحمد ، والثوري ، والوزاعي ، وحكاه ابن المنذر ، عن الحسن ، وعروة بن الزبير ، وعطاء ، والشعبي ، والنخعي ، وغيرهم . وأصح الروايات عن أحمد أن الواجب مسح أكثر أعلى الخف ، وأبو حنيفة يكفي عنده مسح قدر ثلاثة أصابع من أعلى الخف . وحجة من اقتصر على مسح ظاهر الخف دون أسفله ، حديث " علي رضي الله عنه قال " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه " أخرجه أبو داود ، والدارقطني . قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده حسن . وقال في التلخيص إسناده صحيح . واعلم أن هذا الحديث لا يقدح فيه بأن في إسناده عبد خير بن يزيد الهمداني ، وأن البيهقي قال لم يحتج بعبد خير المذكور صاحبا الصحيح ، اهـ . لأن عبد خير المذكور ، ثقة مخضرم مشهور ، قيل إنه صحابي . والصحيح أنه مخضرم وثقه يحيى بن معين ، والعجلي ، وقال فيه ابن حجر في التقريب مخضرم ثقة من الثانية لم يصح له صحبة . وأما كون الشيخين لم يخرجا له ، فهذا ليس بقادح فيه باتفاق أهل العلم . وكم من ثقة عدل لم يخرج له الشيخان ! وذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - إلى أن الواجب مسح أقل جزء من أعلاه ، وأن مسح أسفله مستحب . وذهب الإمام مالك - رحمه الله - إلى أنه يلزم مسح أعلاه وأسفله معاً ، فإن اقتصر على أعلاه أعاد في الوقت ، ولم يعد أبداً ، وإن اقتصر على أسفله أعاد أبداً . وعن مالك أيضاً أن مسح أعلاه واجب ، ومسح أسفله مندوب . واحتج من قال بمسح كل من ظاهر الخف وأسفله ، بما رواه ثور بن يزيد ، عن رجاء بن حيوة ، عن ورَّاد ، كاتب المغيرة بن شعبة " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخفِّ وأسفله " أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي ، وابن الجارود . وقال الترمذي هذا حديث معلول ، لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم ، وسالت ابا زرعة ومحمداً عن هذا الحديث فقالا ليس بصحيح . ولا شك أن هذا الحديث ضعيف . وقد احتج مالك لمسح أسفل الخف بفعل عروة بن الزبير رضي الله عنهما . المسألة السابعة أجمع العلماء على اشتراط الطهارة المائية للمسح على الخف ، وأن من لبسهما محدثاً ، أو بعد تيمم ، لا يجوز له المسح عليهما . واختلفوا في اشتراط كمال الطهارة ، كمن غسل رجله اليمنى فأدخلها في الخف قبل أن يغسل رجله اليسرى ، ثم غسل رجله اليسرى فأدخلها أيضاً في الخف ، هل يجوز له المسح على الخفين إذا أحدث بعد ذلك ؟ ذهب جماعة من أهل العلم إلى اشتراط كمال الطهارة ، فقالوا في الصورة المذكورة لا يجوز له المسح لأنه لبس أحد الخفين قبل كمال الطهارة . وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه ، ومالك وأصحابه ، وإسحاق ، وهو أصح الروايتين عن أحمد . واحتج أهل هذا القول بالأحاديث الواردة باشتراط الطهارة للمسح على الخفين ، كحديث المغيرة بن شعبة ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما " ، متفق عليه ، ولأبي داود عنه ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم " دع الخفَّين فإني أدخلت القدمين الخفَّين ، وهما طاهرتان ، فمسح عليهما " . وعن أبي هريرة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال له لما نبهه على أنه لم يغسل رجليه " إني أدخلتهما طاهرتان " . وفي حديث صفوان بن عسال المتقدم " أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر " ، الحديث ، إلى غير ذلك من الأحاديث . قالوا والطهارة الناقصة كلا طهارة . وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم اشتراط كمال الطهارة وقت لبس الخف فأجازوا لبس خف اليمنى قبل غسل اليسرى والمسح عليه ، إذا أحدث بعد ذلك ، لأن الطهارة كملت بعد لبس الخف . قالوا والدوام كالابتداء . وممن قال بهذا القول الإمام أبو حنيفة ، وسفيان الثوري ، ويحيى بن آدم ، والمزني ، وداود . واختار هذا القول ابن المنذر ، قاله النووي . قال مقيده عفا الله عنه منشأ الخلاف في هذه المسالة هو قاعدة مختلف فيها ، " وهي هل يرتفع الحدث عن كل عضو من أعضاء الوضوء بمجرد غسله ، أو لا يرتفع الحدث عن شيء منها إلا بتمام الوضوء " ؟ وأظهرهما عندي أن الحدث معنى من المعاني لا ينقسم ولا يتجزَّأ ، فلا يرتفع منه جزء ، وأنه قبل تمام الوضوء محدث ، والخف يشترط في المسح عليه أن يكون وقت لبسه غير محدث - والله تعالى أعلم ، اهـ . تنبيه جمهور العلماء على اشتراط النية في الوضوء والغسل ، لأنهما قربة ، والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول " إنما الأعمال بالنيات " ، وخالف أبو حنيفة قائلاً إن طهارة الحدث لا تشترط فيها النية ، كطهارة الخبث . واختلف العلماء أيضاً في الغاية في قوله { إلى المرافق } ، هل هي داخلة فيجب غسل المرافق في الوضوء ؟ - وهو مذهب الجمهور - أو خارجة فلا يجب غسل المرافق فيه ؟ والحق اشتراط النية ، ووجوب غسل المرافق ، والعلم عند الله تعالى . واختلف العلماء في مسح الرأس في الوضوء هل يجب تعميمه ، فقال مالك وأحمد ، وجماعة يجب تعميمه . ولا شك أن الأحوط في الخروج من عهدة التكليف بالمسح . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة لا يجب التعميم . واختلفوا في القدر المجزئ ، فعن الشافعي أقل ما يطلق عليه اسم المسح كاف ، وعن أبي حنيفة الربع ، وعن بعضهم الثلث ، وعن بعضهم الثلثان ، وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم المسح على العمامة " ، وحمله المالكية على ما إذا خيف بنزعها ضرر ، وظاهر الدليل الإطلاق . " وثبت " عنه صلى الله عليه وسلم المسح على الناصية والعمامة " ولا وجه للاستدلال به على الاكتفاء بالناصية ، لأنه لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بها ، بل مسح معها على العمامة ، فقد ثبت في مسح الرأس ثلاث حالات المسح على الرأس ، والمسح على العمامة ، والجمع بينهما بالمسح على الناصية ، والعمامة . والظاهر من الدليل جواز الحالات الثلاث المذكورة ، والعلم عند الله تعالى . وما قدمنا من حكاية الإجماع على عم الاكتفاء في المسح على الخف بالتيمم ، مع أن فيه بعض خلاف كما يأتي ، لأنه لضعفه عندنا كالعدم ، ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية الكريمة خوف الإطالة . قوله تعالى { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } الآية . اعلم أن لفظة { من } في هذه الآية الكريمة محتملة ، لأن تكون للتبعيض ، فيتعين في التيمم التراب الذي له غبار يعلق باليد . ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية ، أي مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطيِّب ، فلا يتعين ماله غبار ، وبالأول قال الشافعي ، وأحمد ، وبالثاني قال مالك ، وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى جميعاً . فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن في هذه الآية الكريمة إشارة إلى هذا القول الأخير ، وذلك في قوله تعالى { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } فقوله { من حرج } نكرة في سياق النفي زيدت قبلها { مِنْ } والنكرة إذا كانت كذلك ، فهي نص في العموم ، كما تقرر في الأصول ، قال في مراقي السعود عاطفاً على صيغ العموم @ وفي سياق المنفي منها يذكر إذا بنى أو زيد من منكر @@ فالآية تدل على عموم النفي في كل أنواع الحرج ، والمناسب لذلك كون { من } لابتداء الغاية ، لأن كثيراً من البلاد ليس فيه إلا الرمال أو الجبال ، فالتكليف بخصوص ما فيه غبار يعلق باليد ، لا يخلو من حرج في الجملة . ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ من قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة ، فليصلِّ " ، وفي لفظ " فعنده مسجده وطهوره " الحديث . فهذا نص صحيح صريح في أن من أدركته الصلاة في محل ليس فيه إلا الجبال أو الرمال أن ذلك الصعيد الطيب الذي هو الحجارة ، أو الرمل طهور له ومسجد . وبه تعلم أن ما ذكره الزمخشري من تعين كون { من } للتبعيض غير صحيح . فإن قيل ورد في الصحيح ما يدل على تعين التراب الذي له غبار يعلق باليد ، دون غيره من أنواع الصعيد ، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فضِّلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكةِ ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهورا ، إذا لم نجد الماء " ، الحديث ، فتخصيص التراب بالطهورية في مقام الامتنان يفهم منه أن غيره من الصعيد ليس كذلك ، فالجواب من ثلاثة أوجه الأول أن كون الأمر مذكوراً في معرض الامتنان ، مما يمنع فيه اعتبار مفهوم المخالفة ، كما تقرر في الأصول ، قال في مراقي السعود في موانع اعتبار مفهوم المخالفة @ أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع @@ ولذا أجمع العلماء على جواز أكل القديد من الحوت مع أن الله ، خص اللحم الطري منه في قوله { وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا } النحل 14 ، لأنه ذكر اللحم الطري في معرض الامتنان ، فلا مفهوم مخالفة له ، فيجوز أكل القديد مما في البحر . الثاني أن مفهوم التربة مفهوم لقب ، وهو لا يعتبر عند جماهير العلماء ، وهو الحق كما هو معلوم في الأصول . الثالث أن التربة فرد من أفراد الصعيد . وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصاً له عند الجمهور ، سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ } البقرة 238 ، أو ذكرا في نصيبن كحديث " أيما إهاب دبغ فقد طهر " عند أحمد ، ومسلم ، وابن ماجه ، والترمذي وغيرهم ، مع حديث " هلا انتفعتم بجلدها " يعني شاة ميتة عند الشيخين ، كلاهما من حديث ابن عباس ، فذِكر الصلاة الوسطى في الأول ، وجلد الشاة في الأخير لا يقتضي أن غيرهما من الصلوات في الأول ، ومن الجلود في الثاني ليس كذلك ، قال في مراقي السعود عاطفاً على ما لا يخصص به العموم @ وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد @@ ولم يخالف في عدم التخصيص بذكر بعض أفراد العام بحكم العام ، إلا أبو ثور محتجاً بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص . وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة ، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام ، والصعيد في اللغة وجه الأرض ، كان عليه تراب ، أو لم يكن ، قاله الخليل ، وابن الأعرابي ، والزجاج . قال الزجاج لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة قال الله تعالى { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } الكهف 8 أي أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً ، وقال تعالى { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } الكهف 40 ، ومنه قول ذي الرمة @ كأنه بالضحى ترمى الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم @@ وإنما سمي صعيداً ، لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ، وجمع الصعيد صعدات على غير قياس ، ومنه حديث " إياكم والجلوس في الصعدات " ، قاله القرطبي وغيره عنه . واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب ، فقالت طائفة " الطيب " ، هو الطاهر ، فيجوز التيمم بوجه الأرض كله ، تراباً كان أو رملاً ، أو حجارة ، أو معدناً ، أو سبخة ، إذا كان ذلك طاهراً . وهذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والثوري ، وغيرهم . وقالت طائفة الطيب الحلال ، فلا يجوز التيمم بتراب مغصوب . وقال الشافعي ، وأبو يوسف الصعيد الطيب التراب المنبت ، بدليل قوله تعالى { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } الأعراف 58 الآية . فإذا علمت هذا ، فاعلم أن المسالة لها واسطة وطرفان طرف أجمع جميع المسلمين على جواز التيمم به ، وهو التراب المنبت الطاهر الذي هو غير منقول ، ولا مغصوب . وطرف أجمع جميع المسلمين على منع التيمم به ، وهو الذهب والفضة الخالصان ، والياقوت والزمرد ، والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما ، والنجاسات وغير هذا هو الواسطة التي اختلف فيها العلماء ، فمن ذلك المعادن . فبعضهم يجيز التيمم عليها كمالك ، وبعضهم يمنعه كالشافعي ومن ذلك الحشيش ، فقد روى ابن خويز منداد عن مالك أنه يجيز التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض ، ومشهور مذهب مالك المنع ، ومن ذلك التيمم على الثلج ، فروي عن مالك في المدونة ، والمبسوط جوازه قيل مطلقاً . وقيل عند عدم الصعيد ، وفي غيرهما منعه . واختلف عنه في التيمم على العود ، فالجمهور على المنع ، وفي مختصر الوقار أنه جائز ، وقيل يجوز في العود المتصل بالأرض دون المنفصل عنها ، وذكر الثعلبي أن مالكاً قال لو ضرب بيده على شجرة ، ثم مسح بها أجزأه ، قال وقال الأوزاعي ، والثوري يجوز بالأرض ، وكل ما عليها من الشجر والحجر ، والمدر وغيرها حتى قالا لو ضرب بيده على الجمد ، والثلج أجزاء . وذكر الثعلبي عن أبي حنيفة أنه يجيزه بالكحل ، والزرنيخ ، والنورة ، والجص ، والجوهر المسحوق ، ويمنعه بسحالة الذهب ، والفضة ، والنحاس ، والرصاص ، لأن ذلك ليس من جنس الأرض . وذكر النقاش عن ابن علية ، وابن كيسان أنهما أجازاه بالمسك ، والزعفران ، وأبطل ابن عطية هذا القول ، ومنعه إسحاق بن راهويه بالسباخ ، وعن ابن عباس نحوه ، وعنه فيمن أدركه التيمم ، وهو في طين أنه يطلي به بعض جسده ، فإذا جف تيمم به ، قاله القرطبي . وأما التراب المنقول في طبق أو غيره ، فالتيمم به جائز في مشهور مذهب مالك ، وهو قول جمهور المالكية ، ومذهب الشافعي ، وأصحابه . وعن بعض المالكية ، وجماعة من العلماء منعه . وما طبخ كالجص ، والآجر ففيه أيضاً خلاف عن المالكية ، والمنع أشهر . واختلفوا أيضاً في التيمم على الجدار ، فقيل جائز مطلقاً ، وقيل ممنوع مطلقاً ، وقيل بجوازه للمريض دون غيره ، وحديث أبي جهيم الآتي يدل على الجواز مطلقاً . والظاهر أن محله فيما إذا كان ظاهر الجدار من أنواع الصعيد ، ومشهور مذهب مالك جواز التيمم على المعادن غير الذهب ، والفضة ما لم تنقل ، وجوازه على الملح غير المصنوع ، ومنعه بالأشجار ، والعيدان ونحو ذلك وأجازه أحمد ، والشافعي ، والثوري على البلد ، والوسائد . ونحو ذلك إذا كان عليه غبار . والتيمم في اللغة القصد ، تيممت الشيء قصدته ، وتيممت الصعيد تعمدته ، وأنشد الخليل قول عامر بن مالك ، ملاعب الألسنة @ يممته الرمح شزراً ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق @@ ومنه قول امرئ القيس @ تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامى @@ وقول أعشى باهلة @ تيممت قيساً وكم دونه من الأرض من مهمة ذي شزن @@ وقول حميد بن ثور @ سل الربع أني يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما @@ والتيمم في الشرع القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه ، واليدين منه بنية استباحة الصلاة عند عدم الماء ، أو العجز عن استعماله ، وكون التيمم بمعنى القصد يدل على اشتراط النية في التيمم ، وهو ا لحق . مسائل في أحكام التيمم المسألة الأولى لم يخالف أحد من جميع المسلمين في التيمم ، عن الحدث الأصغر ، وكذلك عن الحدث الأكبر ، إلا ما روي عن عمر ، وابن مسعود ، وإبراهيم النخعي من التابعين أنهم منعوه ، عن الحدث الأكبر . ونقل النووي في شرح المهذب عن ابن الصباغ وغيره القول برجوع عمر ، وعبد الله بن مسعود عن ذلك ، واحتج لمن منع التيمم ، عن الحدث الأكبر بأن آية النساء ليس فيها إباحته إلا لصاحب الحدث الأصغر . حيث قال { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً } المائدة 6 ، الآية ، ورد هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه الأول أنا لا نسلم عدم ذكر الجنابة في آية النساء ، لأن قوله تعالى { أو لامستم النساء } ، فسره ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما ، بأن المراد به الجماع ، وإذاً فذكر التيمم بعد الجماع المعبر عنه باللمس ، أو الملامسة بحسب القراءتين ، والمجيء من الغائط دليل على شمول التيمم لحالتي الحدث الأكبر ، والأصغر . الثاني أنه تعالى في سورة المائدة ، صرح بالجنابة غير معبر عنها بالملامسة ، ثم ذكر بعدها التيمم ، فدل على أن يكون عنها أيضاً حيث قال { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } المائدة 6 ثم قال { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } المائدة 6 ، الآية . فهو عائد إلى المحدث ، والجنب جميعاً ، كما هو ظاهر . الثالث تصريحه صلى الله عليه وسلم بذلك الثابت عنه في الصحيح فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما ، أنه قال أجنبت فلم أصب الماء ، فتمعكت في الصعيد وصليت ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال " إنما كان يكفيك هكذا ، وضرب النَّبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ، ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه ، وكفَّيه " . وأخرجا في صحيحيهما أيضاً من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما ، قال " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى بالناس . فإذا هو برجل معتزل ، فقال " ما منعك أن تصلي " ؟ قال أصابتني جنابة ولا ماء ، قال " عليك بالصَّعيد ، فإنه يكفيك " . والأحاديث في الباب كثيرة . المسألة الثانية اختلف العلماء ، هل تكفي للتيمم ضربة واحدة أو لا ؟ فقال جماعة تكفي ضربة واحدة للكفين والوجه ، وممن ذهب إلى ذلك الإمام أحمد ، وعطاء ، ومكحول ، والأوزاعي ، وإسحاق ، ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره ، وهو قول عامة أهل الحديث ، ودليله حديث عمار المتفق عليه المتقدم آنفاً . وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا بد من ضربتين إحداهما للوجه ، والأخرى للكفين ، ومنهم من قال بوجوب الثانية ، ومنهم من قال بسنيتهما كمالك ، وذهب ابن المسيب ، وابن شهاب ، وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات ضربة للوجه ، وضربة لليدين ، وضربة للذراعين . قال مقيده - عفا الله عنه - الظاهر من جهة الدليل الاكتفاء بضربة واحدة . لأنه لم يصح من أحاديث الباب شيء مرفوعاً ، إلا حديث عمار المتقدم ، وحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصَّمَّة الأنصاري ، قال " أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من نحو بئر جمل فلقيه رجل ، فسلم عليه ، فلم يرد عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم ، حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام ، أخرجه البخاري موصولاً ، ومسلم تعليقاً ، وليس في واحد منهما ما يدل على أنهما ضربتان كما رأيت ، وقد دل حديث عمار أنها واحدة . المسألة الثالثة هل يلزم في التيمم مسح غير الكفين ؟ اختلف العلماء في ذلك ، فأوجب بعضهم المسح في التيمم إلى المرفقين ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، وابن أبي سلمة ، والليث ، كلهم يرون بلوغ التيمم بالمرفقين فرضاً واجباً ، وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وابن نافع ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي . قال ابن نافع من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبداً ، وقال مالك في المدونة يعيد في الوقت ، وروي التيمم إلى المرفقين مرفوعاً ، عن جابر بن عبد الله ، وابن عمر ، وأبي أمامة ، وعائشة وعمار ، والأسلع ، وسيأتي ما في أسانيد رواياتهم من المقال إن شاء الله تعالى ، وبه كان يقول ابن عمر ، وقال ابن شهاب يمسح في التيمم إلى الآباط . واحتج من قال بالتيمم إلى المرفقين بما روي عمن ذكرنا من ذكر المرفقين ، وبأن ابن عمر كان يفعله ، وبالقياس على الوضوء ، وقد قال تعالى فيه { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ } المائدة 6 . قال مقيده - عفا الله عنه - الذي يظهر من الأدلة - والله تعالى أعلم - أن الواجب في التيمم هو مسح الكفين فقط ، لما قدمنا من أن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها شيء ثابت الرفع إلا حديث عمار وحديث أبي جهيم المتقدمين . أما حديث أبي جهيم ، فقد ورد بذكر اليدين مجملاً ، كما رأيت ، وأما حديث عمار فقد ورد بذكر الكفين في الصحيحين ، كما قدمنا آنفاً . وورد في غيرهما بذكر المرفقين ، وفي رواية إلى نصف الذراع ، وفي رواية إلى الآباط ، فأما رواية المرفقين ، ونصف الذراع ، ففيهما مقال سيأتي ، وأما رواية الآباط ، فقال الشافعي وغيره إن كان ذاك وقع بأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم ، فكل تيمم للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له . وإن كان وقع بغير أمره ، فالحجة فيما أمر به ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين ، كون عمار كان يفتي بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك . وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره . ولا سيما الصحابي المجتهد ، قاله ابن حجر في الفتح . وأما فعل ابن عمر ، فلم يثبت رفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم ، والموقوف على ابن عمر لا يعارض به مرفوع متفق عليه ، وهو حديث عمار . وقد روى أبو داود عن ابن عمر بسند ضعيف ، أنه قال " مرَّ رجل على النَّبي صلى الله عليه وسلم في سكَّة مِن السكك ، وقد خرج من غائط أو بول فسلَّم عليه ، فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى في السكك ، فضرب بيده على حائط ، ومسح بها وجهه ، ثم ضرب ضربة أُخرى فمسح بها ذراعيه " ومدار الحديث على محمد بن ثابت ، وقد ضعفه ابن معين ، وأحمد والبخاري وأبو حاتم . وقال أحمد والبخاري ينكر عليه حديث التيمم . أي هذا ، زاد البخاري خالفه أيوب ، وعبيد الله والناس ، فقالوا عن نافع عن ابن عمر فعله . وقال أبو داود لم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورووه من فعل ابن عمر ، وقال الخطابي لا يصح . لأن محمد بن ثابت ضعيف جداً ، ومحمد بن ثابت هذا هو العبدي ، أبو عبد الله البصري ، قال فيه في التقريب صدوق ، لين الحديث . واعلم أن رواية الضحاك بن عثمان ، وابن الهاد لهذا الحديث عن نافع عن ابن عمر ، ليس في واحدة منهما متابعة محمد بن ثابت على الضربتين ، ولا على الذراعين . لأن الضحاك لم يذكر التيمم في روايته ، وابن الهاد قال في روايته " مسح وجهه ويديه " . قاله ابن حجر ، والبيهقي ، وروى الدارقطني والحاكم ، والبيهقي من طريق علي بن ظبيان ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال " التَّيمم ضربتان ضربة للوجه ، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين " . قال الدارقطني وقفه يحيى القطان ، وهشيم وغيرهما ، وهو الصواب ، ثم رواه من طريق مالك عن نافع ، عن ابن عمر موقوفاً ، قاله ابن حجر ، مع أن علي بن ظبيان ضعفه القطان ، وابن معين ، وغير واحد . وهو ابن ظبيان بن هلال العبسي الكوفي ، قاضي بغداد ، قال فيه في التقريب ضعيف . ورواه الدارقطني من طريق سالم عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ " تيممنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ، ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيِّب ، ثمَّ نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا ، ثم ضربنا ضربة أخرى فمسحْنا من المرافق إلى الأكف " ، الحديث ، لكن في إسناده سليمان بن أرقم ، وهو متروك . قال البيهقي رواه معمر وغيره عن الزهري موقوفاً ، وهو الصحيح ، ورواه الدارقطني أيضاً من طريق سليمان بن أبي داود الحراني ، وهو متروك أيضاً عن سالم ، ونافع جميعاً عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ " وفي التيمم ضربتان ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " ، قال أبو زرعة حديث باطل ، ورواه الدارقطني ، والحاكم من طريق عثمان بن محمد الأنماطي عن عزرة بن ثابت ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " التيمم ضربة للوجه ، وضَرْبة للذِّراعين إلى المرفقين " ، ومن طريق أبي نعيم عن عزرة بسنده المذكور ، قال " جاء رجل ، فقال أصابتني جنابة ، وإني تمعَّكت في التراب ، فقال اضرب ، فضرب بيده الأرض فمسح وجهه ، ثم ضرب يديه فمسح بهما إلى المرفقين " . ضعف ابن الجوزي هذا الحديث بأن فيه عثمان بن محمد ، ورد على ابن الجوزي بأن عثمان بن محمد لم يتكلم فيه أحد ، كما قاله ابن دقيق العيد ، لكن روايته المذكورة شاذة ، لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوفاً ، أخرجه الدارقطني ، والحاكم أيضاً . وقال الدارقطني في حاشية السنن ، عقب حديث عثمان بن محمد كلهم ثقات ، والصواب موقوف ، قال ذلك كله ابن حجر في التلخيص ، وقال في التقريب في عثمان بن محمد المذكور مقبول ، وقال في التلخيص أيضاً وفي الباب عن الأسلع قال " كنت اخدم النَّبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاه جبريل بآية الصعيد ، فأراني التيمم ، فضربت بيدي الأرض واحدة ، فمسحت بها وجهي ثم ضربت بها الأرض فمسحت بها يدي إلى المرفقين " رواه الدارقطني ، والطبراني ، وفيه الربيع بن بدر ، وهو ضعيف ، وعن أبي أمامة رواه الطبراني ، وإسناده ضعيف أيضاً . ورواه البزار ، وابن عدي من حديث عائشة مرفوعاً " التيمم ضربتان ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " . تفرد به الحريش بن الخريت ، عن ابن أبي مليكة عنها قال أبو حاتم حديث منكر ، والحريش شيخ لا يحتج به . وحديث " أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر " تكفيك ضربة للوجه ، وضربة للكفين " رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، وهو ضعيف ، ولكنه حجة عند الشافعي . وحديث عمار " كنت في القوم حين نزلت الرخصة فأمرنا فضربنا واحدة للوجه ، ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين " . رواه البزار ، ولا شك أن الرواية المتفق عليها عن عمار أولى منه . وقال ابن عبد البر أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة ، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة ، اهـ ، منه . فبهذا كله تعلم أنه لم يصح في الباب إلا حديث عمار ، وأبي جهيم المتقدمين ، كما ذكرنا . فإذا عرفت نصوص السنة في المسالة فاعلم أن الواجب في المسح الكفان فقط ، ولا يبعد ما قاله مالك رحمه الله من وجوب الكفين ، وسنية الذراعين إلى المرفقين ، لأن الوجوب دل عليه الحديث المتفق عليه في الكفين . وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية ، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال ، فإن بعضها يشد بعضاً ، لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يقوي بعضها بعضاً حتى يصلح مجموعها للاحتجاج لا تخاصم بواحد أهل بيت ، فضعيفان يغلبان قوياً ، وتعتضد أيضاً بالموقوفات المذكورة . والأصل إعمال الدليلين ، كما تقرر في الأصول . المسألة الرابعة هل يجب الترتيب في التيمم أو لا ؟ ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي وأصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين ركن من اركان التيمم ، وحكى النووي عليه اتفاق الشافعية ، وذهبت جماعة منهم مالك ، وجل أصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين سنة . ودليل تقديم الوجه على اليدين أنه تعالى قدمه في آية النساء ، وآية المائدة ، حيث قال فيهما { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } المائدة 6 . وقد قال صلى الله عليه وسلم " أبدأ بما بدأ الله به " يعني قوله { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } البقرة 158 الآية ، وفي بعض رواياته " ابدؤوا " بصيغة الأمر . وذهب الإمام أحمد ، ومن وافقه إلى تقديم اليدين ، مستدلاً بما ورد في صحيح البخاري في باب " التيمم ضربة " من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا ، فضرب بكفَّيه ضربة على الأرض ، ثم نفضها ، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله ، أو ظهر شماله بكفِّه ، ثمَّ مسح بها وجهه " ، الحديث . ومعلوم أن " ثم " تقتضي الترتيب ، وأن الواو لا تقتضيه عند الجمهور ، وإنما تقتضي مطلق التشريك ، ولا ينافي ذلك أن يقوم دليل منفصل على أن المعطوف بالواو مؤخر عما قبله ، كما دل عليه الحديث المتقدم في قوله { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } الآية ، وكما في قول حسان @ هجوت محمداً وأجبت عنه @@ وعلى رواية " الواو " فحديث البخاري هذا نص في تقديم اليدين على الوجه ، وللاسماعيلي من طريق هارون الحمال ، عن أبي معاوية ما لفظه " إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرضِ ثمَّ تنفضهما ، ثم تمسح بيمينك على شمالك ، وشمالك على يمينك ، ثم تمسح على وجهك " قاله ابن حجر في الفتح ، وأكثر العلماء على تقديم الوجه مع الاختلاف في وجوب ذلك ، وسنيته . المسألة الخامسة هل يرفع التيمم الحدث أو لا ؟ وهذه المسألة من صعاب المسائل لإجماع المسلمين على صحة الصلاة بالتيمم عند فقد الماء ، أو العجز عن استعماله ، وإجماعهم على أن الحدث مبطل للصلاة ، فإن قلنا لم يرتفع حدثه ، فكيف صحت صلاته ، وهو محدث ؟ وإن قلنا صحت صلاته ، فكيف نقول لم يرتفع حدثه ؟ اعلم أولاً أن العلماء اختلفوا في هذه المسالة إلى ثلاثة مذاهب الأول أن التيمم لا يرفع الحدث . الثاني أنه يرفعه رفعاً كلياً . الثالث أنه يرفعه رفعاً مؤقتاً . حجة القول الأول أن التيمم لا يرفع الحدث ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران المتقدم " أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فرأى رجلاً معتزلاً لم يصل مع القوم ، فقال " ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم " ؟ قال أصابتني جنابة ولا ماء . قال " عليك بالصَّعيد فإنه يكفيك " . إلى أن قال " وكان آخر ذلك أن أعطي الذي اصابته الجنابة إناء من ماء . قال " اذهب فأفرغه عليك " ، الحديث . ولمسلم في هذا الحديث " وغسلنا صاحبنا " يعني الجنب المذكور . وهذا نص صحيح في أن تيممه الأول لم يرفع جنابته . ومن الأدلة على أنه لا يرفع الحدث ما رواه أبو داود ، وأحمد ، والدارقطني ، وابن حبان ، والحاكم موصولاً ، ورواه البخاري تعليقاً " عن عمرو بن العاص رضي الله عنه " أنه تيمم عن الجنابة من شدة البرد . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " صليت بأصحابك وأنت جنب ، فقال عمرو إني سمعتُ الله يقول { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } النساء 29 الآية . فضحك النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه " قال ابن حجر في التلخيص في الكلام على حديث عمرو هذا واختلف فيه على عبد الرحمن بن جبير . فقيل عنه عن أبي قيس عن عمرو ، وقيل عنه عن عمرو بلا واسطة ، لكن الرواية التي فيها أبو قيس ، ليس فيها ذكر التيمم ، بل فيها أنه غسل مغابنه فقط . وقال أبو داود روى هذه القصة الأوزاعي عن حسان بن عطية ، وفيه " فتيمم " . ورجح الحاكم إحدى الروايتين على الأخرى . وقال البيهقي يحتمل أن يكون فعل ما في الروايتين جميعاً ، فيكون قد غسل ما أمكن ، وتيمم عن الباقي . وله شاهد من حديث ابن عباس ، وحديث أبي أمامة ، عند الطبراني ، انتهى من التلخيص لابن حجر . قال مقيده عفا الله عنه ما أشار إليه البيهقي من الجمع بين الروايتين متعين ، لأن الجمع واجب إذا أمكن ، كما تقرر في الأصول ، وعلوم الحديث . ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم " صلَّيت بأصحابك وأنت جنب " ، فإنه أثبت بقاء جنابته مع التيمم . ومن الأدلة على أن التيمم لا يرفع الحدث حديث أبي ذر عند أحمد ، وأصحاب السنن الأربع ، وصححه الترمذي ، وأبو حاتم من حديث أبي ذر ، وابن القطان من حديث أبي هريرة عند البزار ، والطبراني ، قاله ابن حجر في التلخيص . وذكر في الفتح أنه صححه ابن حبان ، والدارقطني من حديث أبي ذر " أنه صلى الله عليه وسلم قال " أن الصعيد الطيِّب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " الحديث . قال ابن حجر في التلخيص بعد أن ذكر هذا الحديث عن اصحاب السنن من رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة ، عن عمرو بن بجدان ، عن أبي ذر واختلف فيه على أبي قلابة ، فقيل هكذا . وقيل عنه عن رجل من بني عامر ، وهذه رواية أيوب عنه ، وليس فيها مخالفة لرواية خالد ، وقيل عن أيوب عنه عن أبي المهلب عن أبي ذر ، وقيل عنه بإسقاط الواسطة ، وقيل في الواسطة محجن ، أو ابن محجن ، أو رجاء بن عامر ، أو رجل من بني عامر ، وكلها عند الدارقطني ، والاختلاف فيه كله على أيوب ، ورواه ابن حبان ، والحاكم من طريق خالد الحذاء كرواية أبي داود ، وصححه أيضاً أبو حاتم ، ومدار طريق خالد على عمرو بن بجدان ، وقد وثقه العجلي ، وغفل ابن القطان فقال إنه مجهول . هكذا قاله ابن حجر في التلخيص . وقال في التقريب في ابن بجدان المذكور لا يعرف حاله ، تفرد عنه أبو قلابة وفي الباب عن أبي هريرة رواه البزار قال حدثنا مقدم بن محمد ، ثنا عمي القاسم بن يحيى ، ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رفعه " الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليتق الله ، وليمسه بشرته ، فإن ذلك خير " . وقال لا نعلمه عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ، ورواه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مطولاً ، أخرجه في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة ، وساق فيه قصة أبي ذر وقال لم يروه إلا هشام ، عن ابن سيرين ، ولا عن هشام إلا القاسم ، تفرد به مقدم ، وصححه ابن القطان ، لكن قال الدارقطني في العلل إن إرساله أصح ، انتهى من التلخيص بلفظه ، وقد رايت تصحيح هذا الحديث للترمذي ، وأبي حاتم ، وابن القطان ، وابن حبان . ومحل الشاهل منه قوله " فإن وجد الماء فليمسه بشرته " ، لأن الجنابة لو كان التيمم رفعها ، لما احتيج إلى إمساس الماء البشرة . واحتج القائلون بأن التيمم يرفع الحدث بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، صرح بأنه طهور في قوله في الحديث المتفق عليه " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " ، وبأن في الحديث المار آنفاً " التيمم وضوء المسلم " ، وبأن الله تعالى قال { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } المائدة 6 الآية ، وبالإجماع على أن الصلاة تصح به كما تصح بالماء ، ولا يخفى ما بين القولين المتقدمين من التناقض ، قال مقيده عفا الله عنه الذي يظهر من الدلة تعين القول الثالث ، لأن الأدلة تنتظم به ولا يكون بينهما تناقض والجمع واجب متى أمكن . قال في مراقي السعود @ والجمع واجب مى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا @@ والقول الثالث المذكور هو أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً لا كلياً ، وهذا لا مانع منه عقلاً ولا شرعاً ، وقد دلت عليه الأدلة ، لأن صحة الصلاة به المجمع عليها بلزمها أن المصلي غير محدث ، ولا جنب لزوماً شرعياً لا شك فيه . ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك عند إمكانه المجمع عليه أيضاً يلزمه لزوماَ شرعياً لا شك فيه ، وأن الحدث مطلقاً لم يرتفع بالكلية ، فيتعين الارتفاع المؤقت . هذا هو الظاهر ، ولكنه يشكل عليه ما تقدم في حديث عمرو بن العاص ، أنه صلى الله عليه وسلم قال له " صليت بأصحابك وأنت جنب " ، وقد تقرر عند علماء العربية أن وقت عامل الحال هو بعينه وقت الحال ، فالحال وعاملها إذاً مقترنان في الزمان ، فقولك جاء زيد ضاحكاً مثلا ، لا شك في أن وقت المجيء فيه هو بعينه وقت الضحك ، وعليه فوقت صلاته ، هو بعينه وقت كونه جنباً ، لأن الحال هي كونه جنباً وعاملها قوله صليت ، فيلزم أن وقت الصلاة والجنابة متحد ، ولا يقدح فيما ذكرنا أن الحال المقدرة لا تقارن عاملها في الزمان ، كقوله تعالى { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } الزمر 73 لأن الخلود متأخر عن زمن الدخول أي مقدرين الخلود فيها ، لأن الحال في الحديث المذكور ليست من هذا النوع . فالمقارنة بينها وبين عاملها في الزمن لا شك فيها ، وإذا كانت الجنابة حاصلة له في نفس وقت الصلاة ، كما هو مقتضى هذا الحديث ، فالرفع المؤقت المذكور لا يستقيم ، ويمكن الجواب عن هذا من وجهين الأول أنه صلى الله عليه وسلم قال له " وأنت جنب " قبل أن يعلم عذره بخوفه الموت إن اغتسل . والمتيمم من غير عذر مبيح جنب قطعاً ، وبعد أن علم عذره المبيح للتيمم الذي هو خوف الموت أقره وضحك ، ولم يأمره بالإعادة ، فدل على أنه صلى باصحابه وهو غير جنب ، وهذا ظاهر الوجه . الثاني أنه أطلق عليه اسم الجنابة نظراً إلى أنها لم ترتفع بالكلية ، ولو كان في وقت صلاته غير جنب . كإطلاق اسم الخمر على العصير في وقت هو فيه ليس بخمر في قوله { إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً } يوسف 36 نظراً إلى مآله في ثاني حال ، والعلم عند الله تعالى . ومن المسائل التي تبنى على الاختلاف في التيمم ، هل يرفع الحدث أو لا ؟ جواز وطء الحائض إذا طهرت ، وصلت بالتيمم للعذر الذي يبيحه ، فعلى أنه يرفع الحدث يجوز وطؤها قبل الاغتسال ، والعكس بالعكس . وكذلك إذا تيمم ولبس الخفين . فعلى أن التيمم يرفع الحدث يجوز المسح عليهما في الوضوء بعد ذلك ، والعكس بالعكس . وكذلك ما ذهب إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن من أن الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء لا يلزمه الغسل ، فالظاهر أنه بناه على رفع الحدث بالتيمم ، لكن هذا القول ترده الأحاديث المتقدمة ، وإجماع المسلمين قبله ، وبعده على خلافه . المسالة السادسة هل يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد فريضتان أو لا ؟ ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز به فريضتان ، أو فرائض ما لم يحدث ، وعليه كثير من العلماء ، منهم الإمام أحمد في أشهر الروايتين ، والحسن البصري ، وأبو حنيفة ، وابن المسيب ، والزهري . وذهب مالك ، والشافعي ، وأصحابهما إلى أنه لا تصلى به إلا فريضة واحدة . وعزاه النووي في شرح المهذب لأكثر العلماء ، وذكر أن ابن المنذر حكاه عن علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وابن عمر ، والشافعي ، والنخعي ، وقتادة ، وربيعة ، ويحيى الأنصاري ، والليث ، وإسحاق ، وغيرهم . واحتج أهل القول الأول بأن النصوص الواردة في التيمم ، ليس فيها التقييد بفرض واحد ، وظاهرها الإطلاق ، وبحديث " الصعيد الطيب وضوء المسلم " الحديث ، وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " ، وقوله تعالى { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } المائدة 6 الآية . واحتج أهل القول الثاني بما روي عن ابن عباس رضي عنهما أنه قال من السنة ألا يصلي بالتيمم إلا مكتوبة واحدة ، ثم يتيمم للأخرى ، وقول الصحابي من السنة له حكم الرفع على الصحيح عند المحدثين ، والأصوليين ، أخرج هذا الحديث الدارقطني ، والبيهقي من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عنه ، والحسن ضعيف جداً قال فيه ابن حجر في التقريب متروك ، وقال فيه مسلم ، في مقدمة صحيحه حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا ابو داود قال قال لي شعبة ائت جرير بن حازم ، فقل له لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عُمارة ، فإنه يكذب . وقال البيهقي لما ساق هذا الحديث في سننه الحسن بن عمارة لا يحتج به اهـ وهو أبو محمد البجلي مولاهم الكوفي قاضي بغداد ، واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عمر ، وعلي ، وعمرو بن العاص موقوفاً عليهم ، أما ابن عمر فرواه عنه البيهقي ، وعن الحاكم من طريق عامر الأحول ، عن نافع عن ابن عمر قال يتيمم لكل صلاة ، وإن لم يحدث ، قال البيهقي وهو أصح ما في الباب قال ولا نعلم له مخالفاً من الصحابة . قال مقيده عفا الله عنه ومثل هذا يسمى إجماعاً سكوتياً ، وهو حجة عند أكثر العلماء ، ولكن أثر ابن عمر هذا الذي صححه البيهقي ، وسكت ابن حجر على تصحيحه له في التلخيص ، والفتح ، تكلم فيه بعض أهل العلم بأن عامراً الأحول ضعفه سفيان بن عيينة ، وأحمد بن حنبل ، وقيل لم يسمع من نافع ، وضعف هذا الأثر ابن حزم ونقل خلافه عن ابن عباس وقال ابن حجر في الفتح بعد أن ذكر أن البيهقي قال لا نعلم له مخالفاً . وتعقب بما رواه ابن المنذر عن ابن عباس ، أنه لا يجب . وأما عمرو بن العاص فرواه عنه الدارقطني ، والبيهقي ، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة . أن عمرو بن العاص كان يتيمم لكل صلاة ، وبه كان يفتي قتادة ، وهذا فيه إرسال شديد بين قتادة ، وعمرو ، قاله ابن حجر في التلخيص ، والبيهقي في السنن الكبرى وهو ظاهر ، وأما علي فرواه عنه الدارقطني أيضاً بإسناد فيه حجاج بن أرطاة والحارث الأعور قاله ابن حجر أيضاً ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى بالإسناد الذي فيه المذكوران . أما حجاج بن أرطاة ، فقد قال فيه ابن حجر في التقريب صدوق كثير الخطأ ، والتدليس ، وأما الحارث الأعور فقال فيه ابن حجر في التقريب كذبه الشعبي في رايه ، ورمي بالرفض ، وفي حديثه ضعف ، وقال فيه مسلم في مقدمة صحيحه حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جابر عن مغيرة عن الشَّعبي قال حدثني الحارث الأعور الهمداني ، وكان كذاباً . حدثنا أبو عامر عبد الله بن بَرَّاد الأشعري ، حدثنا أبو أسامة عن مُفَضَّل عن مغيرة قال سمعت الشَّعْبي يقول حدثني الحارث الأعور وهو يشهد أنه أحد الكذابين وقد ذكر البيهقي هذا الاثر عن علي في التيمم ، في باب التيمم لكل فريضة ، وسكت عن الكلام في المذكورين أعني حجاج بن أرطاة ، والحارث الأعور ، لكنه قال في حجاج في باب المنع من التطهير بالنَّبيذ لا يحتج به . وضعفه في باب الوضوء من لحوم الإبل ، وقال في باب الدية أرباع مشهور بالتدليس ، وأنه يحدث عمن لم يلقه ، ولم يسمع منه ، قاله الدارقطني ، وضعف الحارث الأعور في باب منع التطهير بالنَّبيذ أيضاً . وقال في باب أصل القسامة قال الشعبي كان كذاباً . المسالة السابعة إذا كان في بدنه نجاسة ، ولم يجد الماء ، هل يتيمم لطهارة تلك النجاسة الكائنة في بدنه - فيكون التيمم بدلاً عن طهارة الخبث عند فقد الماء . كطهارة الحدث - أو لا يتيمم لها ؟ ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يتيمم عن الخبث ، وإنما يتيمم عن الحدث فقط . واستدلوا بأن الكتاب والسنة إنما دلا على ذلك كقوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } المائدة 6 . وتقدم في حديث عمران بن حصين ، وحديث عمار بن ياسر المتفق عليهما التيمم عند الجنابة ، وأما عن النجاسة فلا ، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجوز عن النجاسة إلحاقاً لها بالحدث ، واختلف أصحابه في وجوب إعادة تلك الصلاة . وذهب الثوري ، والأوزاعي ، وأبو ثور إلى أنه يمسح موضع النجاسة بتراب ويصلي ، نقله النووي عن ابن المنذر .