Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 1-6)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أكثر أهل العلم ، على أن المراد بالذاريات الرياح . وهو الحق إن شاء الله ، ويدل عليه أن الذرو صفة مشهورة من صفات الرياح . ومنه قوله تعالى { فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ } [ الكهف : 45 ] ، ومعنى تذروه : ترفعه وتفرقه ، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما ، ومنه قول ذي الرمة : @ ومنهل آجن قفر محاضره تذرو الرياح على جماته البعرا @@ ولا يخفى سقوط قول من قال : إن الذاريات النساء . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } أكثر أهل العلم على أن المراد بالحاملات وقراً : السحاب . أي المزن تحمل وقراً ثقلاً من الماء . ويدل لهذا القول تصريح الله جل وعلا بوصف السحاب بالثقال ، وهو جمع ثقيلة ، وذلك لثقل السحابة بوقر الماء الذي تحمله كقوله تعالى { وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ } [ الرعد : 12 ] ، وهو جمع سحابة ثقيلة ، وقوله تعالى { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [ الأعراف : 57 ] . وقال بعضهم : المراد بالحاملات وقراً : السفن تحمل الأثقال من الناس وأمتعتهم ، ولو قال قائل : إن الحاملات وقراً الرياح أيضاً كان وجهه ظاهراً . ودلالة بعض الآيات عليه واضحة ، لأن الله تعالى صرح بأن الرياح تحمل السحاب الثقال بالماء ، وإذا كانت الرياح هي التي تحمل السحاب إلى حيث شاء الله ، فنسبه حمل ذلك الوقر إليها أظهر من نسبته إلى السحاب التي هي محمولة للرياح ، وذلك في قوله تعالى { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [ الأعراف : 57 ] الآية . فقوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً } : أي حتى إذا حملت الرياح سحاباً ثقالاً ، فالإقلال الحمل ، وهو مستند إلى الريح . ودلالة هذا على أن الحاملات وقراً هي الرياح ظاهرة كما ترى ، ويصح شمول الآية لجميع ذلك . وقد قدمنا مراراً أنه هو الأجود في مثل ذلك ، وبينا كلام أهل الأصول فيه ، وكلامهم في حمل المشترك على معنييه أو معانيه ، في أول سورة النور وغيرها . والقول بأن الحاملات وقراً : هي حوامل الأجنة من الإناث ، ظاهر السقوط ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } [ الذاريات : 3 ] أكثر أهل العلم على أن المراد بالجاريات يسراً : السفن تجري في البحر يسراً أي جرياً ذا يسر أي سهولة . والأظهر أن هذا المصدر المنكر حال كما قدمنا نحوه مراراً : أي فالجاريات في حال كونها ميسرة مسخراً لها البحر ، ويدل لهذا القول كثرة إطلاق الوصف بالجري على السفن كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ } [ الشورى : 32 ] . الآية ، وقوله : { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } [ الحاقة : 11 ] ، وقوله تعالى { وَٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } [ الحج : 65 ] وقوله تعالى : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ } [ الجاثية : 12 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقيل الجاريات الرياح . وقيل غير ذلك . وقوله تعالى : { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } : هي الملائكة يرسلها الله في شؤون وأمور مختلفة ، ولذا عبر عنها بالمقسمات ، ويدل لهذا قوله تعالى : { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [ النازعات : 5 ] ، فمنهم من يرسل لتسخير المطر والريح ، ومنهم من يرسل لكتابة الأعمال ، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح ، ومنهم من يرسل لإهلاك الأمم ، كما وقع لقوم صالح . والتحقيق أن قوله : أمراً مفعول به للوصف الذي هو المقسمات ، وهو مفرد أريد به الجمع . وقد أوضحنا أمثلة ذلك في القرآن العظيم ، وفي كلام العرب من تنكير المفرد كما هنا ، وتعريفه وإضافته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] ، والمقسم عليه بهذه الأقسام هو قوله : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 5 - 6 ] والموجب لهذا التوكيد هو شدة إنكار الكفار للبعث والجزاء . وقوله : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ } ما ، فيه موصولة والعائد إلى الصلة محذوف ، والوصف بمعنى المصدر أي إن الذي توعدونه من الجزاء والحساب لصدق لا كذب فيه . وقال بعض العلماء : ما ، مصدرية ، أي إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق . وقال بعضهم : إن صيغة اسم الفاعل في لصادق بمعنى اسم المفعول . أي إن الوعد أو الموعود به لمصدوق فيه لا مكذوب به ، ونظير ذلك قوله تعالى : { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] أي مرضية . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من صدق ما يوعدونه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [ آل عمران : 9 ] . وقوله : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] . وقوله تعالى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة . والمراد بالدين هنا الجزاء ، أي وإن الجزاء يوم القيامة لواقع لا محالة كما قال تعالى { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ } [ النور : 25 ] أي جزاءهم بالعدل والإنصاف ، وكقوله تعالى : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } [ النجم : 40 - 41 ] . وقد نزه الله نفسه عن كونه خلق الخلق لا لبعث وجزاء ، وبين أن ذلك ظن الكفار ، وهددهم على ذلك الظن السىء بالويل من النار ، قال تعالى منكراً على من ظن عدم البعث والجزاء ، ومنزهاً نفسه عن أنه خلقهم . عبثاً لا لبعث وجزاء : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } [ المؤمنون : 115 - 116 ] . وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } [ ص : 27 ] ، في قوله في آية في ص هذه : باطلاً أي عبثاً لا لبعث وجزاء .