Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 33-41)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { تَوَلَّى } : أي رجع وأدبر عن الحق . وقوله : { وَأَعْطَىٰ قَلِيلا } ، قال بعضهم قليلاً من المال . وقال بعضهم : أعطى قليلاً من الكلام الطيب . وقوله : { وَأَكْدَىٰ } أي قطع ذلك العطاء ولم يتمه ، وأصله من أكدى صاحب الحفر . إذا انتهى في حفره إلى صخرة لا يقدر على الحفر فيها ، وأصله من الكدية وهي الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه فتمنعه الحفر ، وهذا الذي أعطى قليلاً وأكدى ، اختلف فيه العلماء ، فقيل هو الوليد بن المغيرة قارب أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعض المشركين ، فقال : أرتكت دين الأشياخ وضللتهم ؟ قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي غيَّره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه ثمامة . فأنزل الله عز وجل الآية . وعلى هذا فقوله : { تَوَلَّى } : أي الوليد عن الإسلام بعد أن قارب ، وأعطى قليلاً من المال للذي ضمن له أن يتحمل عنه ذنوبه . { وَأَكْدَىٰ } : أي بخل عليه بالباقي ، وقيل أعطى قليلاً من الكلام الطيب كمدحه للقرآن ، واعترافه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكدى أي انقطع عن ذلك ورجع عنه . وقيل : هو العاص بن وائل السهمي ، كان ربما وافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور ، وذلك هو معنى إعطائه القليل ثم انقطع عن ذلك ، وهو معنى إكدائه ، وهذا قول السدي ولم ينسجم مع قوله بعده : { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْب } الآية . وعن محمد بن كعب القرظي أنه أبو جهل ، قال : والله ما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا بمكارم الأخلاق ، وذلك معنى إعطائه قليلاً ، وقطعه لذلك معروف . واقتصر الزمخشري على أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : روي أن عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وهو أخوه من الرضاعة : يوشك ألا يبقى لك شيء . فقال عثمان : إن لي ذنوباً وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى ، وأرجو عفوه ، فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها ، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه ، وأمسك عن العطاء فنزلت الآية . ومعنى تولى ترك المركز يوم أحد ، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل . انتهى منه . ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه ، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه . وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة سبعة أمور : الأول : إنكار علم الغيب المدلول عليه بالهمزة في قوله : { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْب } والمراد نفي علمه للغيب . الثاني : أن لكل من إبراهيم وموسى صحفاً لم ينبأ بما فيها هذا الكافر . الثالث : أن إبراهيم وفَّى أي أتم القيامة بالتكاليف التي كلفه ربه بها . والرابع : أن في تلك الصحف ، أنه لا تزر وازرة وزر أخرى . الخامس : أن فيها أيضاً أنه ليس للإنسان إلا ما سعى . السادس : أن سعيه سوف يُرى . السابع : أنه يجزاه جزاء الأوفى ، أي الأكل الأتم . وهذه الأمور السبعة قد جاءت كلها موضحة في غير هذا الموضع . أما الأول منها ، وهو عدم علمهم الغيب ، فقد ذكره تعالى في مواضع كثيرة كقوله تعالى : { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } [ الطور : 41 والقلم : 47 ] . وقوله : { أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [ مريم : 78 ] . وقوله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } [ آل عمران : 179 ] وقوله تعالى : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26 - 27 ] وقوله تعالى : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ النمل : 65 ] والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مراراً . والثاني : الذي هو أن لإبراهيم وموسى صحفاً لم يكن هذا المتولي المعطي قليلاً المكدي عالماً بها ، ذكره تعالى في قوله : { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [ الأعلى : 18 - 19 ] . والثالث : منها وهو إبراهيم وفي تكاليفه ، فقد ذكره تعالى في قوله : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ } [ البقرة : 124 ] ، وقد قدمنا أن الأصح في الكلمات التي ابتلى بها أنها التكاليف . وأما الرابع منها : وهو أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ العنكبوت : 12 ] وقوله تعالى { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } [ فاطر : 18 ] . وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا ، والجواب عما يرد عليها من الإشكال ، في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] وذكرنا وجه الجمع بين الآيات الواردة في ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : { وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] . وأما الخامس منها : وهو أنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، فقد جاء موضحاً في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] الآية . وقوله : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] الآية وقوله : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } يدل على أن الإنسان لا يستحق أجراً إلا على ما سعيه بنفسه ، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات ، لأن قوله : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } قد دلت اللام فيه على أنه لا يستحق ولا يملك شيئاً إلا بسعيه ، ولم تتعرض لنفي الانتفاع بما ليس ملكاً له ولا مستحقاً له . وقد جاءت آية من كتاب الله تدل على أن الإنسان قد ينتفع بسعي غيره وهي قوله تعالى { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] . وقد أوضحنا وجه الجمع بين قوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } وبين قوله : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } الآية . في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة النجم ، وقلنا فيه ما نصه والجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه ، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره ، لأنه لم يقل : وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى ، وإنما قال وأن ليس للإنسان ، وبين الأمرين فرق ظاهر ، لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير ، وإن شاء أبقاه لنفسه . وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك ما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه . الثاني : أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم ، إذ لو كانوا كفاراً لما حصل لهم ذلك . فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين ، كما وقع في الصلاة في الجماعة ، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفرداً ، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في االجماعة ، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى : { وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } . الثالث : أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [ النجم : 39 ] ولكن من سعي الآباء فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه ، بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم . فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها ، لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد ، فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم ، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين ، والخلق الذين ينشؤهم للجنة . والعلم عند الله تعالى . اهـ منه . والأمر السادس والسابع : وهما أن عمله سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ، فقد جاءا موضحين في آيات كثيرة كقوله تعالى : { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم } [ الأعراف : 8 - 9 ] الآية . وقوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] . وقوله تعالى : { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] . وقوله تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 13 - 14 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَهُوَ يَرَىٰ } أي يعلم ذلك الغيب ، والآية تدل على أن سبب النزول لا يخلو من إعطاء شيء في مقابلة تحمل الذنوب عمن أعطى لأن فاعل ذلك ليس عنده علم الغيب ، فيعلم به أن الذي ضمن له تحمل ذنوبه بفعل ذلك ، ولم ينبأ بما في الصحف الأولى ، من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى . وقد قدمنا تفسيره موضحاً في سورة بني إسرائيل ، وأنه لا يملك الإنسان ولا يستحق إلا سعي نفسه ، وقد اتضح بذلك أنه لا يمكن أن يتحمل إنسان ذنوب غيره وقد دلت على ذلك آيات كثيرة معلومة . وقال أبو حيان في البحر : أفرأيت بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو الموصول وصلته . والمفعول الثاني هو جملة { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } .