Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 68-70)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تضمنت هذه الآية الكريمة امتناناً عظيماً على خلقه بالماء الذي يشربونه ، وذلك أيضاً آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته وشدة حاجة خلقه إليه ، والمعنى : أفرأيتم الماء الذين تشربون الذي لا غنى لكم عنه لحظة ولو أعدمناه لهلكتم جميعاً في أقرب وقت : { أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } . والجواب الذي لا جواب غيره هو أنت يا ربنا هو منزله من المزن ، ونحن لا قدرة لنا على ذلك فيقال لهم : إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه تعالى فلم تكفرون به وتشربون ماءه وتأكلون رزقه وتعبدون غيره ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته شكراً لنعمة هذا الماء ، كما أشار له هنا بقوله : { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } جاء في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : { فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [ الحجر : 22 ] وقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } [ النحل : 10 ] وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } [ الفرقان : 48 - 49 ] . وقوله تعالى : { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } [ المرسلات : 27 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله هنا : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } أي لو نشاء جعله أجاجاً لفعلنا ، ولكن جعلناه عذباً فراتاً سائغاً شرابه ، وقد قدمنا في سورة الفرقان أن الماء الأجاج هو الجامع بين الملوحة والمرارة الشديدتين . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه تعالى . لو شاء لجعل الماء غير صالح للشراب . جاء معناه في آيات أخر كقوله تعالى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ المؤمنون : 18 ] لأن الذهاب بالماء وجعله غوراً لم يصل إليه وجعله أجاجاً ، كل ذلك في المعنى سواء بجامع عدم تأتي شرب الماء ، وهذه الآيات المذكورة تدل على شدة حاجة الخلق إلى خالقهم كما ترى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ } يدل على أن جميع الماء الساكن في الأرض النابع من العيون والآبار ونحو ذلك ، أن أصله كله نازل من المزن ، وأن الله أسكنه في الأرض وخزنه فيها لخلقه . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } وقوله تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 21 ] وقد قدمنا هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى { فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [ الحجر : 22 ] وفي سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } [ سبأ : 2 ] الآية وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } فلولا بمعنى هلا ، وهي حرف تحضيض ، وهو الطلب بحث وحض والمعنى أنهم يطلب منهم شكر هذا المنعم العظيم بحث وحض . واعلم أن الشكر يطلق من العبد لربه ومن الرب لعبده . فشكر العبد لربه ، ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى ، فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا ما يرضي من خلقها ، وهكذا في جميع الجوارح ، وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان ، وشكر العبد لربه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى هنا : { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } وقوله تعالى { وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة . وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل ، ومنه قوله تعالى { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] وقوله تعالى { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [ فاطر : 34 ] إلى غير ذلك من الآيات . تنبيه لغوي اعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة وإلى المنعم أخرى ، فإن عديت إلى النعمة تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر كقوله تعالى { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } [ النحل : 19 ] الآية ، وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام كقولك : نحمد الله ونشكر له ، ولم تأت في القرآن معداة إلا باللام ، كقوله { وَاشْكُرُواْ لِى وَلاَ تَكْفُرُونِ } وقوله { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان : 14 ] وقوله { وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 172 ] وقوله { فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت : 17 ] إلى غير ذلك من الآيات . وهذه هي اللغة الفصحى ، وتعديتها للمفعول بدون اللام لغة لا لحن ، ومن ذلك قول أبي نخيلة : @ شكرتك إن الشكر حبل من اتقى وما كل من أوليته نعمة يقضى @@ وقول جميل بن معمر : @ خليلي عوجا اليوم حتى تسلما على عذبة الأنياب طيبة النشر فإنكما إن عجتما لي ساعة شكرتكما حتى أغيب في قبري @@ وهذه الآيات من سورة الواقعة قد دلت على أن اقتران جواب لو باللام ، وعدم اقترانه بها كلاهما سائغ ، لأنه تعالى قال { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] باللام ثم قال { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } بدونها .