Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 7-7)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ } . معنى الدولة والدولة - بضم الدال في الأولى ، وفتحها في الثانية : يدور عند المفسرين على معنيين : الدولة بالفتح : الظفر في الحرب وغيره ، وهي المصدر ، وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال . وقال الزمخشري : معنى الآية . كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطي الفقراء ، ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم . ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ، لأنهم أهل الرئاسة والغلبة والدولة ، وكانوا يقولون : من عزّ بزّ ، والمعنى : كيلا يكون أخذه غلبة أثرة جاهلية ، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً ، يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به . إلخ . والجدير بالذكر هنا : أن دعاة بعض المذاهب الاقتصادية الفاسدة ، يحتجون بهذه الآية على مذهبهم الفاسد ويقولون : يجوز للدولة أن تستولي على مصادر الإنتاج ورؤوس الأموال ، لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء ، وما يسمونهم طبقة العمال ، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادي ، وفساد اجتماعي ، قد ثبت خطؤه ، وظهر بطلانه مجانباً لحقيقة الاستدلال . لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة . من الإنفاق على المجاهدين ، وتأمين الغزاة في الحدود والثغور ، وليس يعطي للأفراد كما يقولون ، ثم - هو أساساً - مال جاء غنيمة للمسلمين ، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه . ولما كان مال الغنيمة ليس ملكاً لشخص ، ولا هو أيضاً كسب لشخص معين . تحقق فيه العموم في مصدره ، وهو الغنيمة ، والعموم في مصرفه ، وهو عموم مصالح الأمة ، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه ، فشتان بين هذا الأصل في التشريع وهذا الفرع في التضليل . ومن المؤسف أنهم يؤيدون دعواهم بإقحام الحديث في ذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " المسلمون شركاء في ثلاثة : الماء والنار والكلأ " ، ومعلوم أن الشركة في هذه الثلاثة - ما دامت على عمومها - فالماء شركة بين الجميع ما دام في مورده من النهر أو البئر العام أو السيل أو الغدير . أما إذا انتقل من مورده العام وأصبح في حيازة ما ، فلا شركة لأحد فيه مع من حازه ، كمن ملأ إناء من النهر أو السيل ونحوه ، فما كان في إنائه فهو خاص به ، وهذا الكلأ ما دام عشباً في الأرض العامة - لا في ملك إنسان معين - فهو عام لمن سبق إليه ، فإذا ما أحتشه إنسان وحازه ، فلا شركة لأحد فيه ، وكذلك ما كان منه نابتاً في ملك إنسان بعينه فهو أحق به من غيره . ويظهر ذلك بالحوت في البحر والنهر فهو مشاع للجميع ، والطير في الهواء يصاد . فإنه قدر مشترك بين جميع الصيادين ، فإذا صاده إنسان فقد حازه واختص به ، وهذا أمر تعترف فيه جميع النظم الاقتصادية وتعطي تراخيص رسمية لذلك . وهناك العمل الجاري في تلك الدول ، مما يجعلهم يتناقضون في دعواهم الاشتراك في الماء والنار والكلأ ، وذلك في شركات المياه والنور فإنهم يجعلون في كل بيت عداداً يعد جالونات الماء التي استهلكها المنزل ويحاسبونه عليه ، وإذا تأخر قطعوا عليه الماء وحرموه من شربه . وكذلك التيار الكهربائي ، فإنه نار ، وهو الطاقة الفعالة في المدن فإنهم يقيسونه بعداد يعد الكيلوات ، ويبيعونه على المستهلك ، فلماذا لا يجعلون الماء والكهرباء ، شركة بين المواطنين ؟ أم الناس شركاء فيما لا يعود على الدولة ، أما حق الدولة فخاص للحكام ؟ إنه عكس ما في قضية الفيء تماماً . حيث إن الفيء والغنيمة الذي جعله الله حلالاً من مال العدو ، وهو كسب عام دخل على الأمة بمجهود الأمة كلها ، الماثل في الجيش الذي يقاتل باسمها ، وجعله تعالى في مصارف عامة في مصالح الأمة ، لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . فلله : أي الجهاد في سبيل الله . وللرسول لقيامه بأمر الأمة ، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفقة أهله عاماً ، وما بقي يرده في سبيل الله . ولذي القربى . من تلزمه نفقتهم . واليتامى والمساكين : هذا هو التكافل الاجتماعي في الأمة . وابن السبيل : المنقطع في سفره ، وهذا تأمين للمواصلات . فكان مصرفه بهذا العموم دون اختصاص شخص به أو طائفة { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ } . وإنه لمن مواطن الإعجاز في القرآن . أن يأتي بعد هذا التشريع قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ الحشر : 7 ] الآية ، لأنه تشريع في أمر يمس الوتر الحساس في النفس ، وهو موطن الشح والحرص ، ألا وهو كسب المال الذي هو صنو النفس ، والذي تولى الله قسمته في أهم من ذلك ، وهو في الميراث . قسمه تعالى مبيناً فروضه ، وحصة كل وارث ، لأنه كسب بدون مقابل ، وكسب إجباري . والنفوس متطلعة إليه فتولاه الله تعالى ، وكذلك الفيء والغنيمة ، وحرم الغلول فيه قبل القسمة . ومثل هذا المال هو الذي ألفوا قسمته مغنماً ، والذي بذلوا النفوس والمهج قبل الوصول إليه ، فإذا بهم يمنعون منه ، ويحال بينهم وبينه ، فيقسم المنقول فقط ، ولا يقسم العقار الثابت ، ويقال لهم : حدث هذا { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ } [ الحشر : 7 ] ، سواء الأغنياء بأبدانهم وقدرتهم على العمل وعلى الجهاد أو الأغنياء بأموالهم بما حصلوه من مغانم قبل ذلك . وكان لا بد لنفوسهم من أن تتحرك نحو هذا المال ، وفعلاً ناقشوا عمر رضي الله عنه فيه ، ولكن هنا يأتي سوط الطاعة المسلت ، وأمر التشريع المسكت إنه عن الله أتاكم به رسول الله : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ الحشر : 7 ] فإن الآية وإن كانت عامة في جميع التشريع إلا أنها هنا أخص ، وهي به أقرب ، والمقام إليها أحوج . وهنا ينتقل بنا القول إلى ما آتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا المعنى بالذات أي : معنى المشاركة في الأموال . لقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وقد أعانهم الله على شح نفوسهم ، فمجتمعهم مجتمع بذل وإعطاء وتضحية وإيثار ، ومع هذا فقد كان منه صلى الله عليه وسلم أن يأتيه الضيف فلا يجد له قرى في بيته ، فيقول لأصحابه : " من يضيف هذا ، الليلة وله الجنة ؟ " فيأخذه بعض أصحابه ، ويأتيه فقراء المهاجرين يطلبونه ما يحملهم عليه في الجهاد ، فيعتذر إليهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه ، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً : ألا يجدوا ما يحملهم عليه ، ويأتيه القدح من اللبن ، فيدعو : يا أهل الصفة . ليشاركوه إياه لقلة ما عندهم ، وأبو هريرة يخرج من المسجد فيصرع على بابه من الجوع ، بينما العديد من أصحابه ذوو يسار ، منهم من يجهز الجيش من ماله ، ومنهم من يتصدق بالقافلة كاملة وما فيها ، ومنهم من يتصدق بخيار بساتين المدينة ومنهم ومنهم فلم يأخذ قط ولا درهماً واحداً ممن تصدق بقافلة كاملة وما تحمل ، لم يأخذ منه درهماً بدون رضاه ، ليشارك معه فيه واحداً من أهل الصفة ، ولا ممن تصدق بستانه صاع تمر يعطيه لأبي هريرة ، يسد مسغبته ، ولا بعيراً واحداً ممن جهز جيشاً من ماله ليحمل عليه متطوعاً في سبيل الله . إنها أموال محترمة ، وأملاك مستقرة خاصة بأصحابها ، فهناك غنيمة وفيء أخذ بقوة الأمة ومددها للجيش ، جعل في مصارف عامة للأمة وللجيش ، وهنا أموال خاصة لم تمس ولم تلمس ، إلا برضى نفس وطيب خاطر ، ولذا كانوا يجودون ولا يبخلون ، ويعطون ولا يشحون ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وكان مجتمعاً متكافلاً مؤتلفاً متعاطفاً وسيأتي زيادة إيضاح لهذا المجتمع عند الكلام على مجتمع المدينة على قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } [ الحشر : 8 ] ، وما بعدها من الآيات إن شاء الله تعالى . وللشيخ رحمه الله تعالى كلام مقنع على هذه المسألة في سورة الزخرف على قوله تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ الزخرف : 32 ] الآية . نسوق نصه لأهميته : قال رحمه الله : مسألة : دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا كقوله تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ } الآية . وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ } [ النحل : 71 ] الآية . ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض ألبتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه ، { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ] وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم ، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم ، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال ، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون . وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس لينعموا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا تحت ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم . فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير ، مظلومون في كل شيء ، حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير . وقد علم الله - جل وعلا في سابق علمه - أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير ، وهذا غني ، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ النساء : 135 ] وفي قوله : { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } وعيد شديد لمن فعل ذلك . انتهى حرفياً . والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق ، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم ، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده ، وفي الحديث القدسي : " إن من عبادي لمن يصلح له الفقر ، ولو أغنيته لفسد حاله ، وإن من عبادي لمن يصلح له الغنى ولو أفقرته لفسد حاله " فهو سبحانه يعطي بقدر ، ولا يمسك عن قتر . ويكفي في هذا المقام سياق الآية الكريمة التي تكلم الشيخ رحمة الله تعالى في أسلوبها في قوله تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا } [ الزخرف : 32 ] وهذا الضمير معلوم أنه للتعظيم والتفخيم ، ومثله الضمير في قسمنا ، فلا مجال لتدخل المخلوق ، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك . والقسمة إذا كانت من الله تعالى ، فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها ، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك بل ويتوقف عليه ، كما قال تعالى { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف : 32 ] . وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك ، ويقرون نظام الطبقات عمال وغير عمال . إلخ ، فلا دليل في آية سورة الحشر هنا { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ } [ الحشر : 7 ] ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } . قال الشيخ رحمه الله تعالى في المقدمة : إن السنة كلها مندرجة تحت هذه الآية الكريمة ، أي أنها ملزمة للمسلمين العمل بالسنة النبوية ، فيكون الأخذ بالسنة أخذاً بكتاب الله ، ومصداق ذلك قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 3 - 4 ] . وقد قال السيوطي : الوحي وحيان : وحي أمرنا بكتابته ، وتعبدنا بتلاوته ، وهو القرآن الكريم . ووحي لم نؤمر بكتابته ، ولم نتعبد بتلاوته وهو السنة . وقد عمل بذلك سلف الأمة وخلفها ، كما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال في مجلسه بالمسجد النبوي : لعن الله في كتابه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة ، فقالت امرأة قائمة عنده ، وفي كتاب الله ؟ قال : نعم ، قالت : لقد قرأته من دفته إلى دفته ، فلم أجد هذا الذي قلت ، فقال لها : لو كنت قرأتيه لوجدتيه ، أو لم تقرئي قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ، ومن لعنها رسول الله فقد لعنها الله ، فقالت له : لعل بعض أهلك يفعله ؟ فقال لها : ادخلي وانظري فدخلت بيته ثم خرجت ولم تقل شيئاً ، فقال لها : ما رأيت ؟ قالت : خيراً ، وانصرفت . وجاء الشافعي وقام في أهل مكة . فقال : سلوني يا أهل مكة عما شئتم أجبكم عنه من كتاب الله . فسأله رجل عن المحرم يقتل الزنبور ، ماذا عليه في كتاب الله . فقال : يقول الله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث ، وحدثني فلان عن فلان ، وساق بسنده إلى عمر بن الخطاب ، سئل : المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه ، فقال : لا شيء عليه . فقد اعتبر سعيد بن المسيب السنة من كتاب الله ، والشافعي اعتبر سنة الخلفاء الراشدين من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن ، واعتبر كل منهما جوابه من كتاب الله بناء على هذه الآية الكريمة . وهذا ما عليه الأصوليون يخصصون بها عموم الكتاب ، ويقيدون مطلقه . فمن الأول : قوله صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان . أما الميتتان فالجراد والحوت ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " فخص بهذا الحديث عموم قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ } [ المائدة : 3 ] ، وكذلك في النكاح : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا المرأة على خالتها " ، وخص بها عموم : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] ، ونحوه كثير . ومن الثاني : قطعه صلى الله عليه وسلم يد السارق من الكوع تقييداً لمطلق { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ، وكذلك مسح الكفين في التيمم تقييداً أو بياناً لقوله تعالى : { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } [ المائدة : 6 ] ، ونحو ذلك كثير ، وكذلك بيان المجمل كبيان مجمل قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } [ البقرة : 43 ] فلم يبين عدد الركعات لكل وقت ، ولا كيفية الأداء ، " فصلى صلى الله عليه وسلم على المنبر وهم ينظرون ، ثم قال لهم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحج وقال لهم : " خذوا عني مناسككم " . وقد أجمعوا على أن السنة أقوال وأفعال وتقرير ، وقد ألزم العمل بالأفعال قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } [ الأحزاب : 21 ] ، والتأسي يشمل القول والفعل ، ولكنه في الفعل أقوى ، والتقرير مندرج في الفعل ، لأنه ترك الإنكار على أمر ما ، والترك فعل والترك فعل عند الأصوليين ، كما قال صاحب مراقي السعود . @ والترك فعل في صحيح المذهب @@ تنبيه تنقسم أفعاله صلى الله عليه وسلم إلى عدة أقسام : أولاً : ما كان يفعله بمقتضى الجبلة ، وهو متطلبات الحياة من أكل وشرب ولبس ونوم ، فهذا كله يفعله استجابة لمتطلبات الحياة ، وكان يفعله قبل البعثة ويفعله كل إنسان ، فهو على الإباحة الأصلية ، وليس فيه تشريع جديد ، ولكن صورة الفعل ، وكيفيته ككون الأكل والشراب باليمين إلخ ، وكونه من أمام الآكل ، فهذا هو موضع التأسي به صلى الله عليه وسلم وكذلك نوع المأكول أو تركه ما لم يكن تركه لمانع كعدم أكله صلى الله عليه وسلم للضب والبقول المطبوخة ، وقد بين السبب في ذلك ، فالأول : لأنه ليس في أرض قومه فكان يعافه ، والثاني لأنه نناجي من لا يناجي ، وقد قال صاحب المراقي : @ وفعله المركوز في الجبله كالأكل والشرب فليس مله من غير لمح الوصف … @@ ثانياً : ما كان متردداً بين الجبلة والتشيع كوقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفة راكباً على ناقته ، ونزوله بالمحصب منصرفه من منى . فالوقوف الذي هو ركن الحج يتم بالتواجد في الموقف بعرفة على أية حالة ، فهل كان وقوفه صلى الله عليه وسلم راكباً من تمام نسكه . أم أنه صلى الله عليه وسلم فعله دون قصد إلى النسك ؟ خلاف بين الأصوليين . ولا يبعد من يقول : قد يكون فعله صلى الله عليه وسلم هذا ليكون أبرز لشخصه في مثل هذا الجمع ، تسهيلاً على من أراده لسؤال أو رؤية أو حاجة ، فيكون تشريعاً لمن يكون في منزلته في المسؤولية . ثالثاً : ما ثبتت خصوصيته به مثل جواز جمعه بين أكثر من أربع نسوة بالنكاح لقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } [ الأحزاب : 50 ] ، وكن أكثر من أربع ، ونكاح الواهبة نفسها لقوله تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأحزاب : 50 ] فهذا لا شركة لأحد معه فيه . رابعاً : ما كان بياناً لنص قرآني ، كقطعه صلى الله عليه وسلم يد السارق من الكوع بياناً لقوله تعالى { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] . وكأعمال الحج والصلاة ، فهما بيان لقوله تعالى { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [ البقرة : 43 ] ، وقوله : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ، فهذا القسم حكمه للأمة ، حكم المبين بالفتح ، ففي الوجوب واجب ، وفي غيره بحسبه . خامساً : ما فعله صلى الله عليه وسلم لا لجبلة ولا لبيان ، ولم تثبت خصوصيته له ، فهذا على قسمين : أحدهما أن يعلم حكمه بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوب أو ندب أو إباحة ، فيكون حكمه للأمة كذلك ، كصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة ، وقد علمنا أنها في حقه صلى الله عليه وسلم جائزة ، فهي للأمة على الجواز . ثانيهما : ألا يعلم حكمه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا القسم أربعة أقوال : أولها : الوجوب . عملاً بالأحوط ، وهو قول أبي حنيفة وبعض الشافعية ، ورواية عن أحمد . ثانيهما : الندب ، لرجحان الفعل على الترك ، وهو قول بعض الشافعية ، ورواية عن أحمد أيضاً . ثالثها : الإباحة ، لأنها المتيقن ، ولكن هذا فيما لا قربة فيه ، إذ القرب لا توصف بالإباحة . رابعها : التوقف ، لعدم معرفة المراد ، وهو قول المعتزلة ، وهذا أضعف الأقوال ، لأن التوقف ليس فيه تأس . فتحصل لنا من هذه الأقوال الأربعة أن الصحيح الفعل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم وجوباً أو ندباً ، ومثلوا لهذا الفعل " بخلعه صلى الله عليه وسلم نعله في الصلاة ، فخلع الصحابة كلهم نعالهم ، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم سألهم عن خلعهم نعالهم قالوا : رأيناك فعلت ففعلنا ، فقال لهم : " أتاني جبريل وأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتها " ، فإنه أقرهم على خلعهم تأسياً به . ولم يعب عليهم مع أنهم لم يعلموا الحكم قبل إخباره إياهم . وقد جاء هنا { وَمَآ آتَاكُمُ } بصيغة العموم . وقال الشيخ رحمه الله في دفع الإيهام في سورة الأنفال عند قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ، ما نصه : وهذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ، ونظيرها قوله تعالى : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } [ الممتحنة : 12 ] . وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقاً من غير قيد ، كقوله : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] وقوله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] الآية ، و { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] . والظاهر : أن وجه الجمع والله تعالى أعلم : أن آيات الإطلاق مبينة أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة ، فالشرط المذكور في قوله : { إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] متوفر في دعاء النَّبي صلى الله عليه وسلم لمكان عصمته ، كما دل عليه قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 3 - 4 ] . والحاصل : أن آية { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله ، وأن الآيات الأخر بينت أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أبداً إلا إلى ذلك ، صلوات الله وسلامه عليه . انتهى . وقد بينت السنة كذلك حقيقة ومنتهى ما جاء به صلى الله عليه وسلم في قوله : " ما تركت خيراً يقربكم إلى الله إلا بينته لكم وأمرتكم به ، وما تركت شراً يباعدكم عن الله إلا بينته لكم ، وحذرتكم منه ونهيتكم عنه " . تنبيه الواقع أن العمل بهذه الآية الكريمة هو من لوازم نطق المسلم بالشهادتين . لأن قوله : أشهد أن لا إله إلا الله ، اعتراف لله تعالى بالألوهية وبمستلزماتها ، ومنها إرسال الرسل إلى خلقه ، وإنزال كتبه وقوله : أشهد أن محمداً رسول الله ، اعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الله لخلقه ، وهذا يستلزم الأخذ بكل ما جاء به هذا الرسول الكريم من الله سبحانه وتعالى ، ولا يجوز أن يعبد الله إلا بما جاءه به رسول الله ، ولا يحق له أن يعصي الله بما نهاه عنه رسول الله ، فهي بحق مستلزمة للنطق بالشهادتين . ويؤيد هذا قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [ النساء : 59 ] فربط مرد الخلاف إلى الله والرسول بالإيمان بالله واليوم الآخر . وقال الشيخ رحمه الله عند هذه الآية في سورة النساء : أمر الله في هذه الآية الكريمة بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه ، أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لأنه تعالى قال : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] انتهى . فاتضح بهذا كله أن ما أتانا به صلى الله عليه وسلم فهو من عند الله ، وأنه بمنزلة القرآن في التشريع ، وأن السنة تستقل بالتشريع كما جاءت بتحريم لحوم الحمر الأهلية . وكل ذي مخلب من الطير وناب من السباع ، وبتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، أو هي مع ابنة أخيها أو ابنة أختها ونحو ذلك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا ألفين أحدكم على أريكة أهله يقول : ما وجدنا في كتاب الله أخذناه ، وما لم نجده في كتاب الله تركناه ، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " . والنص هنا عام في الأخذ بكل ما أتانا به ، وترك ما نهانا عنه ، وقد جاء تخصيص هذا العموم في قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، وقوله : { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } [ النور : 61 ] وقوله تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] . وجاء الحديث ففرق بين عموم النهي في قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فانتهوا " وقد جاء هذا التذييل على هذه الآية بقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [ المائدة : 2 ] إيذاناً بأن هذا التكليف لا هوادة فيه ، وأنه ملزم للأمة سراً وعلناً ، وأن من خالف شيئاً منه يتوجه إليه هذا الإنذار الشديد ، لأن معصيته معصية لله ، وطاعته من طاعة الله { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] والعلم عند الله تعالى .