Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 8-9)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة : أنهم { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ } ، وغايتها : وهي { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَه } ، والحكم لهم بأنهم { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُون } . ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين ، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه : منها قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ الأنفال : 72 ] ، وقوله تعالى بعدها : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [ الأنفال : 74 ] . فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس ، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر ، ووصف الفريقين معاً بولاية بعضهم لبعض ، وأثبت لهم معاً حقيقة الإيمان { أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [ الأنفال : 4 ] ، أي الصادقون في إيمانهم فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان . وفي قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] وصف شامل للأنصار ، تبوءوا الدار : أي المدينة ، والإيمان من قبلهم : أي ببيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين ، بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين يحبون من هاجر إليهم ويستقبلونه بصدور رحبة ، ويؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، لأنهم هاجروا إليهم . وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات ، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم ، وهو الإيثار على النفس ، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المار للغير عند حاجته مقدماً غيره على نفسه ، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } [ الحشر : 8 ] فكانت لهم ديار ، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها ، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم ، وقاسموهم ممتلكاتهم ، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسب ، بل تركوها كلها . أموالهم وديارهم وأولادهم وأهلهم ، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم . ومن يخرج من كل ماله ودياره ويترك أهله وأولاده ، لا يكون أقل تضحية ممن آثر غيره ببعض ماله ، وهو مستقر في أهله ودياره ، فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم . وقد ذكر ابن كثير رحمه الله : أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار ما يشعر بهذا المعنى ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا يا رسول الله : أموالنا بيننا قطائع " الحديث . أي أن الأنصار عرفوا ذلك للمهاجرين ، وعليه أيضاً ، فقد استوى المهاجرون مع الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم ، وكان خلقاً لكثيرين منهم بعد الهجرة كما فعل الصديق رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله فقال له ، رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك " ؟ فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله . وكذلك عائشة الصديقة رضي الله عنها . حينما كانت صائمة وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت لبريرة : ادفعي إليه ما عندك ، فقالت : لها : ليس إلا ما ستفطرين عليه ، فقالت لها : ادفعيه إليه ، ولعلها أحوج إليه الآن ، أو كما قالت . ولما جاء المغرب أهدى إليهم رجل شاة بقرامها - وقرامها هو ما كانت العرب تفعله إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظاً لها من رماد الجمر - فقالت لبريرة : كلي ، هذا خير من قرصك . وكما فعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت ، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها . فعلى هذا ، كان مجتمع المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم مجتمعاً متكافلاً بعضهم أولياء بعض ، وقد نوَّه صلى الله عليه وسلم في قصة غنائم حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم : " لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار " ومن بعده عمر رضي الله عنه قال : وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم . وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان ، من قبل أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم . ثم كان هذا خلق المهاجرين والأنصار جميعاً ، كما وقع في وقعة اليرموك ، قال حذيفة العدوي : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ، ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به فقلت له : أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه ، فأشار إلي ابن عمي أن أنطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فسمع آخر يقول آه آه . فأشار هشام أن أنطلق إليه فجئته ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات . وكان منهج الخواص من بعدهم ، كما نقل القرطبي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ ، قدم علينا حاجاً فقال لي : ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إن وجدنا أكلنا ، وإن فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا كلاب بلخ عندنا . فقلت : وما حد الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا . وفي قوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] . الإيثار على النفس : تقديم الغير عليها مع الحاجة ، والخصاصة : التي تختل بها الحال ، وأصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد في الأمر . فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي ولو كان بهم فاقة وحاجة . ومنه قول الشاعر : @ أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر @@ وهل يصح الإيثار من كل إنسان ولو كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا ؟ وما علاقته مع قوله { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْو } [ البقرة : 219 ] ؟ والجواب على هذا كله في كلام الشيخ رحمه الله على قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] في أول سورة البقرة . قال رحمه الله : قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ، عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله ، ولم يبين هنا القدر الَّذي ينبغي إنفاقه ، والذي ينبغي إمساكه ، ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة ، وسد الخلَّة التي لا بد منها ، وذلك كقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } ، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى : { حَتَّىٰ عَفَوْاْ } [ الأعراف : 95 ] أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم . وقال بعض العلماء : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع . ومنه قول الشاعر : @ خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب @@ وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا ، وبقية الأقوال ضعيفة ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] فنهاه عن البخل بقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِك } ، ونهاه عن الإسراف بقوله : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } ، فيتعين الوسط بين الأمرين ، كما بينه بقوله : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والإقتار ، فالجود غير التبذير ، والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم ، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] ، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضاً ، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] . وقد قال الشاعر : @ لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه كالمزن حتى تخجل الديما فإنها خطرات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما @@ وقد بين تعالى في مواضع أخرى ، أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف منه مما يرضي الله كقوله تعالى : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [ البقرة : 215 ] الآية ، وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } [ الأنفال : 36 ] . وقد قال الشاعر : @ إن الصنيعة لا تعد صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع @@ فإن قيل : هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية ، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا ، وذلك في قوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] . فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم : هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً ، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعاً ، وذلك كما إذا كانت على المنفق واجبة كنفقة الزوجات ونحوها ، فتبرع بالإنفاق في غير واجب ، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم : " وابدأ بمن تعول " ، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ، ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم ، فلا يجوز له ذلك ؟ والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة ، وكان واثقاً من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال . وأما على القول بأن قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] يعني به الزكاة ، فالأمر واضح ، والعلم عند الله تعالى . انتهى منه . والواقع أن للإنفاق في القرآن مراتب ثلاثة : الأولى : الإنفاق من بعض المال بصفة عامة ، كما في قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } . الثانية : الإنفاق مما يحبه الإنسان ويحرص عليه ، كما في قوله تعالى { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] ، وهذا أخص من الأول ، وقوله : { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [ الإنسان : 8 ] الآية . الثالثة : الإنفاق مع الإيثار على النفس كهذه الآية { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] فهي أخص من الخاص الأول . وتعتبر المرتبة الأولى هي الحد الأدنى في الواجب ، حتى قيل : إن المراد بها الزكاة . وهي تشمل النافلة ، وتصدق على أدنى شيء ولو شق تمرة ، وتدخل في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] وتعتبر المرتبة الثالثة هي الحد الأقصى ، لأنها إيثار للغير على خاصة النفس ، والمرتبة الثانية هي الوسطى بينهما ، وهي الحد الوسط بين الاكتفاء بأقل الواجب ، وبين الإيثار على النفس وهي ميزان التوسط لعامة الناس ، كما بينه تعالى بقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] . وكما امتدح الله تعالى قوماً بالاعتدال في قوله : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . وهذا هو عين تطبيق قاعدة الفلسفة الأخلاقية القائلة : " الفضيلة وسط بين طرفين " أي طرفي الإفراط والتفريط . فالشجاعة مثلاً وسط بين التهور والجبن ، والكرم وسط بين التبذير والتقتير . والإنفاق جوانب متعددة ، وأحكام متفاوتة ، قد بين الشيخ رحمه الله جانباً من الأحكام ، وقد بين القرآن الجوانب الأخرى ، وتنحصر في الآتي : نوع ما يقع منه الإنفاق ، الجهة المنفق عليها ، موقف المنفق ، وصورة الإنفاق . أما ما يقع منه الإنفاق : قد بينه تعالى أولاً من كسب حلال لقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ البقرة : 267 ] . وقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] . أما الجهة المنفق عليها : فكما في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 215 ] فبدأ بالوالدين براً لهما ، وثنَّى بالأقربين . وقال صلى الله عليه وسلم : " الصدقة على القريب صدقة وصلة ، وعلى البعيد صدقة " ثم اليتامى وهذا واجب إنساني وتكافل اجتماعي ، لأن يتيم اليوم منفق الغد ، وولد الأبوين اليوم قد يكون يتيماً غداً ، أي أن من أحسن إلى اليتيم اليوم قد يترك أيتاماً ، فيحسن عليهم ذلك اليتيم الذي أحسنت إليه بالأمس ، والمساكين وابن السبيل أمور عامة . وجاء بالقاعدة العامة التي يحاسب الله تعالى عليها ويجازي صاحبها { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 215 ] - أي مطلقاً - { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 215 ] ، وكفى في ذلك علمه تعالى . أما موقف المنفق وصورة الإنفاق : فإن هذا هو سر النفقة في الإسلام ، وفلسفة الإنفاق كلها تظهر في هذا الجانب ، مما تميز به الإسلام دون غيره من جميع الأديان أو النظم . لأنه يركز على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين ، بحيث لا يشعره بجرح المسكنة ، ولا ذلة الفاقة كما في قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 262 ] . ثم فاضل بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية في قوله تعالى : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263 ] يعطي ولا يمن بالعطاء . وأفهم المنفقين أن المنّ والأذى يبطل الصدقة { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [ البقرة : 264 ] لما فيه من جرح شعور المسكين . وقد حثَّ على إخفائها إمعاناً في الحفاظ على شعوره وإحساسه { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } [ البقرة : 271 ] - أي مع الآداب السابقة - { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 271 ] أي لكم أنتم في حفظ ثوابها . وقد " جعل صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله " رجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه " ، وكما قال تعالى : { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 274 ] . ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق ، فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ . وذلك في قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] .