Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 59-59)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } الآية . بين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ } لقمان 34 فقد أخرج البخاري وأحمد وغيرهما عن ابن عمر ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم " أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية المذكورة " . والمفاتح الخزائن جمع مَفتح بفتح الميم ، بمعنى المخزن ، وقيل هي المفاتيح جمع مِفتح ، بكسر الميم ، وهو المفتاح وتدل له قراءة ابن السميقع . مفاتيح بياء بعد التاء جمع مفتاح ، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، وهو كذلك ، لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا . وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت " من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية " ، والله يقول { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } النمل 65 أخرجه مسلم والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره صلى الله عليه وسلم ان يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب ، وذلك في قوله تعالى { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ } الأنعام 50 . ولذا لما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفكِ ، لم يعلم ، أهي بريئة أم لا حتى أخبره الله تعالى بقوله { أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } النور 26 . وقد ذبح إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجله للملائكة ، ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه ، وقالوا له { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } هود 70 ، ولما جاؤوا لوطاً لم يعلم أيضاً أنهم ملائكة ، ولذا { سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } هود 77 يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة حتى قال { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } هود 80 ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ } هود 81 الآيات . ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف ، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهره الله خبر يوسف . وسليمان عليه السلام مع أن الله سخر له الشياطين والريح ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد ، وقال له { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } النمل 22 الآيات . ونوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كان يدري أنه ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم حتى قال { رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } هود 45 الآية ، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله { يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِـي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } هود 46 . وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } هود 31 الآية ، والملائكة عليهم الصلاة والسلام لما قال لهم { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } البقرة 31 - 32 . فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل ، والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى ، وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء ، كما أشار له بقوله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } آل عمران 179 ، وقوله { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } الجن 26 - 27 ، الآية . تنبيه لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين ، وبعض منها يكون كفراً . ولذا ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أَتى عرَّافاً فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " ، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة والكهانة والعرافة ، والطرق والزجر ، والنجوم وكل ذلك يدخل في الكهانة ، لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الإطلاع على علم الغيب . وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهَّان فقال " ليسوا بشيء " وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه فمن قال إنه ينزل الغيث غداً . وجزم به فهو كافر أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا ، وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر ، فإن لم يجزم ، وقال إن النوء ينزل به الماء عادة ، وإنه سبب الماء عادة ، وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به ، فإن فيه تشبيهاً بكلمة اهل الكفر وجهلا بلطيف حكمته ، لأنه ينزل متى شاء مرة بنوء كذا ، ومرة دون النوء . قال الله تعالى " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب " على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى . قال ابن العربي وكذلك قول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة ، فهو ذكر ، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى ، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى ، وادعى ذلك عادة لا واجباً في الخلقة لم يكفر ، ولم يفسق . وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر ، أو أخبر عن الكوائن المجملة ، أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضاً . فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر ، فقد قال علماؤنا يؤدب ولا يسجن ، أما عدم كفره فلأن جماعة قالوا إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسبما أخبر الله عنه من قوله { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } يس 39 . وأما أدبهم ، فلأنهم يدخلون الشك على العامة ، إذ لا يدرون الفرق بين هذا وغيره فيشوشون عقائدهم ، ويتركون قواعدهم في اليقين ، فأدبوا حتى يستروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به . قلت ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال " من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " ، والعراف هو الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب ، وهي العرافة وصاحبها عراف ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدَّعي معرفتها . وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالرجز والطرق والنجوم ، وأسباب معتادة في ذلك ، وهذا الفن هو العيافة بالياء ، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة ، قاله القاضي عياض . والكهانة ادعاء علم الغيب . قال أبو عمر بن عبد البر في الكافي من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ، ومهور البغايا ، والسحت ، والرشا ، وأخذ الأجرة على النياحة ، والغناء ، وعلى الكهانة ، وادعاء الغيب ، وأخبار السماء ، وعلى الزمر واللعب والباطل كله . اهـ من القرطبي بلفظه ، وقد رأيت تعريفه للعراف والكاهن . وقال البغوي العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ، ومكان الضالة ونحو ذلك ، وقال أبو العباس بن تيمية العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق . والمراد بالطرق قيل الخط الذي يدعي به الإطلاع على الغيب ، وقيل إنه الضرب بالحصى الذي يفعله النساء ، والزجر هو العيافة ، وهي التشاؤم والتيامن بالطير ، وادعاء معرفة الأمور من كيفية طيرانها ومواقعها وأسمائها وألوانها وجهاتها التي تطير إليها . ومنه قول علقمة بن عبدة التميمي @ ومن تعرض للغربان يزجرها على سلامته لا بد مشؤوم @@ وكان أشد العرب عيافة بنو لهب حتى قال فيهم الشاعر @ خبير بنو لهب فلا تك ملغياً مقالة لهبي إذا الطير مرت @@ وإليه الإشارة بقول ناظم عمود النسب @ في مدلج بن بكر القيافة كما للهب كانت العيافة @@ ولقد صدق من قال @ لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع @@ ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الإطلاع على الغيب أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه ، وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } النمل 65 ، وقوله هنا { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } ونحو ذلك . وعن الشيخ أبي عمران من علماء المالكية أن حلوان الكاهن لا يحل له ، ولا يرد لمن أعطاه له ، بل يكون للمسلمين في نظائر نظمها بعض علماء المالكية بقوله @ وأي مال حرموا أن ينتفع موهوبه به ورده منع حلوان كاهن وأجرة الغنا ونائح ورشوة مهر الزنا @@ هكذا قيل . والله تعالى أعلم .