Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 3-3)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الهداية هنا بمعنى البيان ، كما في قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [ فصلت : 17 ] . والسبيل الطريق السوي ، وفيه بيان انقسام الإنسان إلى قسمين : شاكر معترف بنعمة الله تعالى عليه ، مقابل لها بالشكر أو كافر جاحد . وقوله : { إِمَّا شَاكِراً } ، يشير إلى إنعام الله تعالى على العبد ، وقد ذكر تعالى نعمتين عظيمتين : الأولى : إيجاد الإنسان من العدم بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً ، وهذه نعمة عظمى لا كسب للعبد فيها . والثانية : الهداية بالبيان والإرشاد إلى سبيل الحق والسعادة ، وهذه نعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ولا كسب للعبد فيها أيضاً : وقد قال العلماء : هناك ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها . الأولى : وجوده بعد العدم . الثانية : نعمة الإيمان . الثالثة : دخول الجنة . وقالوا : الإيجاد من العدم ، تفضل من الله تعالى كما قال : { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 49 - 50 ] ، ومن جعله الله عقيماً فلن ينجب قط . والثانية : الإنعام بالإيمان ، كما في قوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] . وقد جاء في الحديث : " كل مَولود يُولد على الفِطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه " الحديث . وكون المولود يولد بين أبوين مسلمين ، لا كسب له في ذلك . والثالث ، الإنعام بدخول الدجنة كما في الحديث : " لن يدخل أحدكم الجنة بعلمه . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " . وقد ذكر تعالى نعمتين صراحة ، وهما خلق الإنسان بعد العدم ، وهدايته السبيل . والثالث : تأتي ضمناً في ذكر النتيجة { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } [ الإنسان : 5 ] لأن الأبرار هم الشاكرون بدليل التقسيم { شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاْ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } [ الإنسان : 3 - 5 ] . وقوله تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } تقدم أنها هداية بيان . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان الهداية العامة والخاصة . والجمع بينهما في أكثر من موضع ، وفي مستهل هذه السورة بيان لمبدأ الإنسان وموقفه من بعثة الرسل وهدايتهم ونتائج أعمالهم من شكر أو كفر . وقد جاءت السنة بقراءة هذه السورة في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة ، مع قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن قراءتهما معاً في ذلك اليوم لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة ليتذكر الإنسان في هذا اليوم ، وهو يوم الجمعة مبدأ خلق أبيه آدم ومبدأ خلق عموم الإنسان ويتذكر مصيره ومنتهاه ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهل هو شاكر أو كفور اهـ . ملخصاً . ومضمون ذلك كله أنه رحمه الله يرى أن الحكمة في قراءة السورتين في فجر الجمعة ، أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام فيه خلق ، وفيه نفخ فيه الروح ، وفيه أسكن الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه ثبيت عليه ، وفيه تقوم الساعة . كما قيل : يوم الجمعة يوم آدم ويوم الاثنين يوم محمد صلى الله عليه وسلم ، أي فيه ولد وفيه أنزل عليه ، وفيه وصل المدينة في الهجرة ، وفيه توفي . ولما كان يوم الجمعة يوم إيجاد الإنسان الأول ويوم أحداثه كلها إيجاداً من العدم وإنعاماً عليه بسكنى الجنة وتواجده على الأرض ، وتلقى التوبة عليه من الله أي يوم الإنعام عليه حساً ومعنى ، فناسب أن يذكر الإمام بقراءته سورة السجدة في فجر يوم الجمعة لما فيها من قصة خلق آدم في قوله : { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } [ السجدة : 7 - 9 ] . وفيها قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] مما يبث الخوف في قلوب العباد ، إذ لا يعلم من أي الفريقين هو ، فيجعله أشد حرصاً على فعل الخير ، وأشد خوفاً من الشر . ثم حذر من نسيان يوم القيامة { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ } [ السجدة : 14 ] . وهكذا في الركعة الأولى ، يرجع المسلم إلى أصل وجوده ويستحضر قصة الإنسان الأول . وكذلك يأتي في الركعة الثاني بقصته هو منذ بدأ خلقه { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } ويذكره بالهدى الذي أنزل عليه ويرغبه في شكرانه عليه ويحذره من جحودها وكفرانها . وقد بين له منتهاه على كلا الأمرين { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاْ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } [ الإنسان : 4 - 5 ] . فإذا قرع سمعه ذلك في يوم خلقه ويوم مبعثه حيث فيه تقوم الساعة فكأنه ينظر ويشاهد أول وجوده وآخر مآله فلا يكذب بالبعث . وقد علم مبدأ خلقه ولا يقصر في واجب ، وقد علم منتهاه ، وهذا في غاية الحكمة كما ترى . ومما يشهد لما ذهب إليه رحمه الله ، اعتبار المناسبات كما في كثير من الأمور ، كما في قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] فجميع الشهور من حيث الزمن سواء ، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر جعله الله محلاً للصوم ، وأكرم فيه الأمة كلها بل العالم كله ، فتتزين فيه الجنة وصفد فيه مردة الشياطين ، وتتضاعف فيه الأعمال . وكذلك الليلة منه التي كان فيها البدء اختصها تعالى عن بقية ليالي الشهر ، وهي ليلة القدر جعلها الله تعالى خيراً من ألف شهر ، وما ذاك إلا لأنها كما قال تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] السورة بتمامها . مسألة لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها ، ووقع فيها الإفراط والتفريط ، وكما قيل : @ كلا طرفي قصد الأمور ذميم @@ ومنطلقاً من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تقدم هذه النبذة في هذه المسألة ، وهي أنه بالتأمل في الشرع وأحداث الإسلام عامة وخاصة . أي في عموم الأمم وخصوص هذه الأمة ، نجد المناسبات قسمين مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال ، وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها ، ومناسبة لم تعتبر ، إما لاقتصارها في ذاتها وعدم استطاعة الأفراد مسايرتها . فمن الأول يوم الجمعة ، وتقدم طرف من خصائص هذا اليوم في سورة الجمعة ، وكلام شيخ الإسلام رحمه الله ، وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر ، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها ، كما تقدم في سورة الجمعة . ولكن من غير غلو ولا إفراط ، فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده ، دون أن يسبق . بصوم قبله ، أو يلحق بصوم بعده كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام ، والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة ، فكانت مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله أي بدون إفراط أو تفريط . ومنها يوم الاثنين كما أسلفنا ، فقد جاء " عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صيامه يوم الاثنين فقال : " هذا يوم ولدت فيه وعلي فيه أنزل " ، وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة وكان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم ، فقد احتفى به صلى الله عليه وسلم للمسببات المذكورة ، وكلها أحداث عظام ومناسبات جليلة . فيوم مولده صلى الله عليه وسلم وقعت مظاهر كونية ابتداء من واقعة أبرهة ، وإهلاك جيشه إرهاصاً بولده صلى الله عليه وسلم ، ثم ظهور نجم بني الختان ، وحدثت أمه وهي حامل به فيما قيل : إنها أتيت حين حملت به صلى الله عليه وسلم فقيل لها : " إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولي : @ أعيذه بالواحد من شر كل حاسد @@ ثم سميه محمداً " ، وذكر ابن هشام أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام . وذكر ابن هشام . أن حسان بن ثابت وهو غلام سمع يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب : يا معشر يهود : حتى إذا اجتمعوا إليه ، قالوا : ويلك مالك ، قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به . وساق ابن كثير في تاريخه ، والبيهقي في خصائصه وابن هشام في سيرته أخباراً عديدة مما شهده العالم ليلة مولده صلى الله عليه وسلم ، نوجز منها الآتي : عن عثمان بن أبي العاص أن أمه حضرت مولده صلى الله عليه وسلم قالت : فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور ، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول : ليقعن علي . وعن أبي الحكم التنوخي : قال : كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة إلى الصبح يكفأن عليه برمة ، فأكفأن عليه صلى الله عليه وسلم برمة ، فانفلقت عنه ، ووجد مفتوح العينين شاخصاً ببصره إلى السماء . وقد كان لمولده من الأحداث الكونية ما لفت أنظار العالم كله . ذكر ابن كثير منها انكفاء الأصنام على وجوهها ، وارتجاس إيوان كسرى ، وسقوط بعض شرفه ، وخمود نار فارس ، ولم تخمد قبلها ، وغاضت بحيرة ساوة ، فكان في ذلك إرهاص بتكسير الأصنام وانتشار الإسلام ، ودخول الفرس في الإسلام ، ثم كان بدء الوحي عليه صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين . الحفاوة بهذا اليوم لا شك أن العالم لم يشهد حدثين أعظم من هذين الحدثين . مولد سيد الخلق وبدء إنزال أفضل الكتب ، فكان صلى الله عليه وسلم يحتفى به وذلك بصيامه ، وهو العمل المشروع الذي يعبر به المسلم عن شعوره فيه ، والعبادة الخالصة التي يشكر الله تعالى بها على هاتين النعمتين العظيمتين . أما ما يفعله بعض الناس من احتفالات ومظاهر ، فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني ، ولا الثالث ، وهي القرون المشهود لها بالخير ، وأول إحداثه في القرن الرابع . وقد افترق الناس فيه إلى فريقين ، فريق ينكره ، وينكر على من يفعله لعدم فعل السلف إياه ، ولا مجيء أثر في ذلك ، وفريق يراه جائزاً لعدم النهي عنه ، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة . ولشيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم كلام وسط في غاية الإنصاف ، نورد موجزه لجزالته ، والله الهادي إلى سواء السبيل . قال رحمه الله في فصل قد عقده للأعياد المحدثة : فذكر أول جمعة من رجب وعيد خم في الثامن عشر من ذي الحجة ، حيث خطب صلى الله عليه وسلم ، وحث على اتباع السنة وبأهل بيته ، ثم أتى إلى عمل المولد فقال : وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام ، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النَّبي صلى الله عليه وسلم عيداً ، مع اختلاف الناس في مولده ، أي في ربيع أو في رمضان ، فإن هذا لم يفعله السلف رضي الله عنهم مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه . ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا ، وهم على الخير أحرص . وإنما كمال محبته وتعظيمه . في متابعته وطاعته واتباع أمره ، وإحياء سنته باطناً وظاهراً ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع ، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه . وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ، ولا يتبعه . وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ، أو يصلي فيه قليلاً ، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجاجيد المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر ، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها . واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع . وفيه أيضاً من بدعة وغيرها ، ثم رسم طريق العمل السليم للفرد في نفسه والداعية مع غيره ، فقال : فعليك هنا بأدبين أحدهما أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً . الثاني : أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه ، فلا تدعو إلى ترك منكر ، يفعل ما هو أنكر منه ، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضمر من فعل ذلك المكروه . ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير فعوض عنه من الخير المشروع ، بحسب الإمكان ، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء . ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه ، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون ، قد أتوا مكروهاً فالتاركون أيضاً للسنن مذمومون . وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به … ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة ، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد . ولهذا قيل لأحمد : إن بعض الأمراء ينفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك ، فقال : دعه ، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ، أو كما قال ، مع أن مذهبه : أن زخرفة المصاحف مكروهة ، فمثل هؤلاء إن لم يفعلوا هذا ، وإلا اعتاضوا عنه الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتب فجور ، ككتب الأسماء والأصفار أو حكمة فارس والروم . ومراتب الأعمال ثلاث : إحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه . والثانية : العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها ، إما لحسن القصد ، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع . والثالثة : ما ليس فيه صلاح أصلاً . فأما الأولى : فهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي أعمال السابقين الأولين . وأما الثانية فهي كثيرة جداً في طرق المتأخرين من المنتسبين . إلى علم أو عبادة ، ومن العامة أيضاً ، وهؤلاء خير مما لا يعمل عملاً صالحاً مشروعاً ولا غير مشروع ، ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له في ظاهر الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين ، فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها اهـ . لقد عالج رحمه الله هذه المسألة بحكمة الداعي وسياسة الدعوة مما لا يدع مجالاً للكلام فيها . ولكن قد حدث بعده رحمه الله أمور لم تكن من قبل ابتلى بها العالم الغربي ، وغزا بها العالم الشرقي ، ولبس بها على المسلمين ، وهي تلك المبادئ الهدامة والغزو الفكري ، وإبراز شخصيات ذات مبادئ اقتصادية أو فلسفي ، ارتفع شأنها في قومهم ونفثت سمومهم إلى بني جلدتنا ، وصاروا يقيمون لهم الذكريات ويقدمون عنهم الدراسات جهلاً أو تضليلاً فقام من المسلمين من يقول : نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ولا طريقاً سلفياً ولا عمل القرون للشهود لها بالخير ، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة والذكريات بالذكرى ، لنجمع شباب المسلمين على سيرة سيد المرسلين ، ويكون ذلك من باب : يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثت من البدع إلى آخره . وهنا لا ينبغي الإسراع في الجواب ، ولكن انطلاقاً من كلام شيخ الإسلام المتقدم ، يمكن أن يقال : إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق حيث قرن ذكره صلى الله عليه وسلم مع ذكره تعالى في الشهادتين ، مع كل أذان على كل منارة من كل مسجد ، وفي كل إقامة لأداء صلاة ، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهراً وسراً . جهراً يملأ الأفق ، وسراً يملأ القلب والحس . ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة في المأكل باليمين ، لأنه السنة ، وفي الملبس في التيامن لأنه السنة ، وفي المضجع على الشق الأيمن لأنه السنة ، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم . وإن كان المراد التعبير عن المحبة ، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين " . فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب ، وفعل ما يحبه وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه ، ومن هذا يمكن أن يقال : إن ما يلابس عمل المولد من لهو ولعب واختلاط غير مشروع ، وأعمال في أشكال لا أصل لها يجب تركه وتنزيه التعبير عن محبته صلى الله عليه وسلم عما لا يرضاه صلى الله عليه وسلم . وقد كان صلى الله عليه وسلم هذا اليوم بالصوم ، وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة . فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما ، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور . ومع ذلك ، فإن كان ولا بد فلا موجب للتقييد بزمن معين بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية . وختاماً فبدلاً من الموقف السلبي عند التشديد في النكير أن يكون عملاً إيجابياً في حكمة وتوجيه لما هو أولى بحسب المستطاع ، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ، وبالله تعالى التوفيق : ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها لقوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] ثم بين تعالى مقدارها بقوله : { لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [ القدر : 3 ] وبين خواصها بقوله : { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ } [ القدر : 4 - 5 ] . الحفاوة بها لقد بين صلى الله عليه وسلم بقوله : " التمسوها في العشر الأواخر ، وفي الوتر من العشر الأواخر " ، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر كلها التماساً لتلك الليلة ، فكان يحييها قائماً في معتكفه ، كما جاء في الحديث " وإذا جاء العشر شد مئزره وطوى فراشه وأيقظ أهله " فلم يكن يمرح ولا يلعب ولا حتى نوم بل اجتهاد في العبادة . وكذلك شهر رمضان بكامله لكونه أنزل فيه القرآن أيضاً ، كام تقدمت الإشارة إليه ، فكان تكريمه بصوم نهاره وقيام ليلة لا بالملاهي واللعب والحفلات ، كما له بعض صار يعد الناس وسائل ترفيه خاصة ، فيعكس فيه القصد ويخالف المشروع . ومن المناسبات يوم عاشوراء ، لقد كان له تاريخ قديم وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة ، " ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومونه فقال لهم : " لِم تصومونه " ؟ فقالوا : يوماً نجى الله فيه موسى من فرعون فصامه شكراً لله فصمناه . فقال صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بموسى منكم " فصامه وأمر الناس بصيامه " إنها مناسبة عظمى نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون ، نصرة الحق على الباطل ، ونصر جند الله وإهلاك جند الشيطان . وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم . ولذا قال صلى الله عليه وسلم " نحن أحق بموسى منكم " نحن معشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد " . وقد كان صيامه فرضاً حتى نسخ بفرض رمضان ، وهكذا مع عظم مناسبته من إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ، كان ابتهاج موسى عليه السلام به في صيامه شكراً لله . وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الطريق السليم والسنة النبوية الكريمة لا ما يحدثه بعض العوام والجهال من مظاهر وأحداث لا أصل لها ، ثم يأتي العمل الأعم والمناسبات المتعددة في مناسك الحج منها الهرولة في الطواف ، لقد كانت عن مؤامرة قريش في عزمها على الغدر بالمسلمين في عمرة القضية فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يظهروا النشاط في الطواف ، وذلك حينما جاء الشيطان لقريش وقال لهم : هؤلاء المسلمون مع محمد صلى الله عليه وسلم جاءوا إليكم وقد أنهكتهم حمى يثرب ، فلو ملتم عليهم لاستأصلتموهم ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان الموقف خطيراً جداً وحرجاً حيث لا مدد للمسلمين ولا سبيل للانسحاب ولا بد لهم من إتمام العمرة . فكان التصرف الحكيم ، أن يعكسوا على المشركين نظريتهم ويأتونهم من الباب الذي أتوا منه . فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أروهم اليوم منكم قوة " فهرولوا في الطواف وأظهروا قوة ونشاطاً مما أدهش المشركين حتى قالوا : والله ما هؤلاء بإنس إنهم لكالجن " ، وفوتوا عليهم الفرصة بذلك وسلم المسلمون . فهو أشبه بموقف موسى من فرعون ، فنجى الله رسوله صلى الله عليه وسلم من غدر قريش فكان هذا العمل مخلداً ومشروعاً في كل طواف قدوم حتى اليوم ، مع زوال السبب حيث هرول المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين . قال العلماء : بقي هذا العمل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً ، وتذكروا ولهذا الموقف وما لقيه المسلمون في بادئ الدعوة . وجاء السعي والهرولة فيه لما فيه من تجديد اليقين بالله ، حيث تركت هاجر ، وهي من سادة المتوكلين على الله والتي قالت لإبراهيم : اذهب فلن يضيعنا الله . تركت حتى سعت إلى نهاية العدد ، كما يقول علماء الفرائض وهو سبعة . إذ كل عدد بعده تكرار لمكرر قبله ، كما قالوا في عدد السماوات والأرض وحصى الجمار وأيام الأسبوع ، إلخ . وذلك لتصل إلى أقصى الجهد وتنقطع أطماعها من غوث يأتيها من الأرض ، فتتجه بقوة اليقين وشدة الضراعة إلى السماء وتتوجه بكليتها ، وإحساسها بقلبها وقالبها إلى الله . فيأتيها الغوث الأعظم سقياً لها وللمسلمين من بعدها . فكان ذلك درساً عملياً ظل إحياؤه تجديداً له . وهذكا النحر ، وقصة الفداء لما كان فيه درس الأمة لأفرادها وجماعتها في أسرة كاملة . والد ووالدة ، وولد كل يسلم قياده لأمر الله ، وإلى أقصى حد التضحية حينما قال إبراهيم لإسماعيل ما قصه تعالى علينا { يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّيۤ أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } [ الصافات : 102 ] . إنه حدث خطير وأي رأي للولد في ذبح نفسه ، ولكنه التمهيد لأمر الله ، فكان موقف الولد لا يقل إكباراً عن موقف الوالد : { يَٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] ولم يكن ذلك عرضاً وقبولاً فحسب ، بل جاء وقت التنفيذ إلى نقطة الصفر ، كما يقال : والكل ماض في سبيل التنفيذ ، { فَلَمَّآ أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] يا له من موقف يعجز كل بيان عن تصويره ويئط كل قلم عن تفسيره ، ويثقل كل لسان عن تعبيره ، شيخ في كبر سنه يعمل سكيناً بيده ويتل ولده وضناه بالأخرى ، كيف قويت يده على حمل السكين ، وقويت عيناه على رؤيتها في يده ، وكيف طاوعته يده الأخرى على تل ولده على جبينه ؟ إنها قوة الإيمان وسنة الالتزام ، وها هو الولد مع أبيه طوع يده ، يتصبر لأمر الله ويستسلم لقضاء الله { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } والموقف الآن والد بيده السكين ، وولد ملقى على الجبين ، ولم يبق إلا توقف الأنفاس للحظة التنفيذ ، ولكن رحمة الله أوسع وفرجه من عنده أقرب ، { وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الصافات : 104 - 105 ] . فكانت مناسبة عظيمة وفائدتها كبيرة خلدها الإسلام في الهدى والضحية . وفي رمي الجمار ، إلى آخره ، وهكذا كلها في مناسك وعبادة وقربة إلى الله تعالى في تجرد وانقطاع ، ودوام ذكر لله تعالى . وهناك أحداث جسام ومناسبات عظام ، لا تقل أهمية عن سابقاتها ، ولكن لم يجعل لها الإسلام أي ذكرى ، كما في صلح الحديبية . لقد كان هذا الصلح من أعظم المناسبات في الإسلام ، إذ كان فيه انتزاع اعتراف قريش بالكيان الإسلامي ماثلاً في الصلح والعهد الذي وثق بين الطرفين وقد سماه الله فتحاً ، كما قال تعالى : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } الفتح : 27 ] . ونزلت سورة الفتح في عودته صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية . وكذلك يوم بدر كان يوم الفرقان ، فرق الله فيه بين الحق والباطل ونصر فيه المسلمين مع قلتهم على المشركين مع كثرتهم . وكذلك يوم فتح مكة وتحطيم الأصنام والقضاء نهائياً على دولة الشرك في البلاد العربية ، ومن قبل ذلك ليلة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة ونزوله في الغار ، إذ كان فيها نجاته صلى الله عليه وسلم من فتك المشركين ، كما قال الصديق وهما في الطريق إلى الغار حينما كان يسير أحياناً أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأحياناً خلفه فسأله صلى الله عليه وسلم فقال : أتذكر الرصد فأكون أمامك ، وأتذكر الطلب فأكون خلفك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر " فقلت نعم فداك أبي وأمي يا رسول الله ، " فإني إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تصب أنت يا رسول الله تصب الدعوى معك " . وكذلك وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة بداية حياة جديدة وبناء كيان أمة جديدة ، وكل ذلك لم يجعل الإسلام لذلك كله عملاً خاصاً به والناس في إبانها تأخذهم عاطفة الذكرى ، ويجرهم حنين الماضي وتتراءى لهم صفحات التاريخ ، فهل يقفون صماً بكما أم ينطقون بكلمة تعبير ؟ وشكر لله إنه إن يكن من شيء فلا يصح بحال من الأحوال ، أن يكون من اللهو واللعب والمنكر وما لا يرضى الله ولا رسوله . إنه إن يكن من شيء ، فلا يصح إلا من المنهج الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مثل تلك المناسبات من عبادة في صيام أوصدقة أو نسك ولا يمكن أن يقال فيها بما يقال في المصالح المرسلة حيث كانت . وكان عهد التشريع ولم يشرع في خصوصها شيء ، وهل الأمر فيها كالأمر في المولد على ما قدمه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وتكون ضمن عموم قوله تعالى { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] ، وضمن قوله تعالى : { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] رأي بقصص الماضين . ونحن أيضاً نقص على أجيالنا بعد هذه القرون ، أهم أحداث الإسلام لاستخلاص العظة والعبرة أم لا ؟ وهذا ما يتيسر إيراده بإيجاز في هذه المسألة ، وبالله تعالى التوفيق . تنبيه مما يعتبر ذا صلة بهذا المبحث في الجملة ما نقله ابن كثير في التفسير عند كلامه على قوله تعالى : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً } [ المائدة : 3 ] . قال عندها : وقال الإمام أحمد حدثنا جعفر بن عوف حدثنا أبو العميس عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا يا معشر اليهود نزلت لاتخاذنا ذلك اليوم عيداً . قال : وأي آية قال قوله { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم } فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة . ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به ، ورواه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة . وساق عن ابن جرير قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليه هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه . فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم } أجابه عمر بما أجاب به سابقاً ، وقال في يوم جمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد . ونقل عن ابن جرير عن ابن عباس قرأ الآية فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيداً فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين يوم عيد ويوم جمعة . ومحل الإيراد أن عمر سمع اليهود يشيد بيوم نزولها ، فقد أقر اليهودي على ذلك ولم ينكر عليه ، ولكن أخبره بالواقع وهو أن يوم نزولها عيد بنفسه بدون أن نتخذه نحن . وكذلك ابن عباس أقر اليهودي على إخباره وتطلعه واقتراحه ، فلم ينكر عليه كما لم ينكر عمر مما يشعر أنه لو لم يكن نزولها يوم عيد ، لكان من المحتمل أن تتخذ عيداً . ولكنه صادف عيداً أو عيدين ، فهو تكريم لليوم بمناسبة ما نزل فيه من إكمال الدين وإتمام النعمة . قوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } الأمشاج . الأخلاط ، كما قال تعالى { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } [ الطارق : 6 - 7 ] . قوله تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } . بين تعالى أنه هدى الإنسان السبيل ، وهو بعد الهداية إما شاكراً وإما كفوراً . وهذه الهداية هداية بيان وإرشاد ، كما في قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [ فصلت : 17 ] كما أن الهداية الحقيقية بخلق التوفيق فضلاً من الله على من شاء ، كما تقدم عند قوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الجمع بين الآيتين ، ومعنى الهداية العامة والخاصة .