Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 91, Ayat: 1-10)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في تلك الآيات العشر يقسم الله تعالى سبع مرات بسبع آيات كونية ، هي الشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، والسماء ، والأرض ، والنفس البشرية ، مع حالة لكل مقسم به ، وذلك على شيء واحد ، وهو فلاح من زكى تلك النفس وخيبة من دساها ، ومع كل آية جاء القسم بها توجيهاً إلى أثرها العظيم المشاهد الملموس ، الدال على القدرة الباهرة . وذلك كالآتي أولاً : { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] فالشمس وحدها آية دالة على قدرة خالقها ، لما فيها من طاقة حرارية في ذاتها تفوق كل تقدير ، وهي على الزمان بدون انتقاص ، فهي في ذاتها آية . ثم جاء وصف أثرها وهو : ضحاها ، وهو انتشار ضوئها ضحوة النهار ، وهذا وحده آية ، لأن نتيجة لحركتها ، وحركتها آية من آيات الله كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [ يس : 37 - 38 ] ، وهي الآية التي حاج بها إبراهيم عليه السلام نمروذ في قوله : { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] . ففي هذا السير قدرة باهرة ودقة متناهية ، وضحاها : نتيجة لهذا السير ، ثم ضحاها نعم جزيلة على الكون كله ، من انتشار في الأرض وانتفاع بضوئها وأشعتها . وقد قالوا : لو اقتربت درجة أو ارتفعت درجة لما استطاع أحد أن ينتفع منها بشيء ، لأنها تحرق باقترابها ، ويتجمد العالم من بعدها ، ذلك تقدير العزيز العليم . فالضحى وحده آية وهو حرها كقوله : { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُاْ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } [ طه : 119 ] ، أي بحرّ الشمس ، وقد أقسم تعالى بالضحى وحده في قوله تعالى : { وَٱلضُّحَىٰ وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [ الضحى : 1 - 2 ] . وقوله : { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 2 ] ، فهو كذلك القمر وحده آية ، وكذلك تلوه للشمس ونظام مسيره بهذه الدقة ، وهذا النظام فلا يسبقها ولا تفوته : { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] . وفي قوله تعالى : { إِذَا تَلاَهَا } أي تلا الشمس ، دلالة على سير الجميع ، وأنها سابقته وهو تاليها . فقيل : تاليها عند أول الشهر تغرب ، ويظهر من مكان غروبها . وقد قال بعض أهل الهيأة : تاليها في منزلة الحجم ، أي كبرى وهو كبير بعدها في الحجم ، وفيه نظر . ولا يخفى ما في القمر من فوائد للخليفة ، من تخفيف ظلمة الليل ، وكذلك بعض الخصائص على الزرع ، وأهم خصائصه بين الشهور بتقسيم السنة ومعرفة العبادات من صوم ، وحج ، وزكاة ، وعدد النساء ، وكفارات بصوم ، وحلول الديون ، وشروط المعاملات ، وفي كل ما له صلة بالحساب في عبادة أو معاملة . وقد جاء القسم بالقمر في المدثر في قوله : { كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ * وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } [ المدثر : 32 - 33 ] الآية ، وقوله { وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ } [ الانشقاق : 18 ] ، ما يدل على عظمة آيته ودقة دلالته . وقوله : { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } [ الشمس : 3 ] ، والنهار هو أثر من آثار ضوء الشمس . وجلاها . قيل : الضمير فيه راجع للشمس كما في الذي قبله ، ولكن اختار لبن كثير أن يكون راجعاً للأرض ، أي كشفها وأوضح كل ما فيها ليتيسر طلب المعاش والسعي ، كقوله : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] ، وقوله : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } [ الفرقان : 47 ] . وقد أقسم تعالى بالنهار إذا تجلى : أي ظهر ووضح بدون ضمير إلى غيره في قوله تعالى : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [ الليل : 1 - 2 ] ، أي في مقابلة غشاوة الليل يكون يتجلي النهار . وقد بين تعالى عظم آية النهار وعظم آية الليل ، وأنه لا يقدر على الإتيان بهما إلا الله ، كما في قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 71 - 72 ] . وقوله : { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 4 ] ، قالوا يغشى الشمس فينحجب ضياؤها ، والكلام على الليل ، كالكلام على النهار ، من حيث الآية . والدلالة على قدرته تعالى . وتقدمت النصوص الكافية وسيأتي الإقسام بالليل في قوله : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } [ الليل : 1 ] ، أي يغشى الكون كله ، كما في قوله : { وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } [ الانشقاق : 17 ] ، أي جمع واشتمل بظلامه . والضمير في يغشاها : راجع إلى الشمس ، وعليه ، قيل : إن الإقسام في هذه الأربعة راجع كله إلى الشمس في حالات مختلفة ، في ضحاها ثم تجليها ، ثم تلو القمر لها ، ثم يغشيان الليل إياها ، وهنا سؤال : كيف يغشى الليل الشمس ، مع أن الليل وهو الظلمة نتيجة لغروب الشمس عن الجهة التي فيها الليل ؟ فقيل : إن الليل يغطي ضوء الشمس ، فتتكون الظلمة ، والواقع خلاف ذلك . وهو أن الشمس ظاهرة وضوؤها منتشر ، ولكن في قسم الأرض المقابل للظلمة الموجودة ، كما أن الظلمة تكون في القسم المقابل للنهار ، وهكذا . ولذا قال ابن كثير : إن الضمير في يغشاها وجلاها راجع إلى الأرض ، إلا أن فيه مغايرة في مرجع الضمير ، والله تعالى أعلم . وقوله : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، قيل : ما ، بمعنى الذي ، وجيء بها بدلاً عن من ، التي لأولى العلم ، لإشعارها معنى الوصفية ، أي والسماء والقادر الذي بناها ، وكذلك ما بعدها في الأرض ، وما طحاها ونفس ، والحكيم العليم الذي سواها ، وما مشترك بين العالم وغيره ، كقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] ، ومثله { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] . وتقدم مراراً أحوال السماء في بنائها ورفعها ، وجعلها سبعاً طباقاً ، وقد بين في تلك النصوص كيفية بنائها ، وأنه سبحانه وتعالى بناها بقوة ، كما في قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } [ الذاريات : 47 ] ، أي بقوة ، وقوله تعالى : { وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } [ الشمس : 6 ] مثل دحاها . وقالوا : إبدال الدال طاء مشهور ، وطحا تأتي بمعنى خلق ، وبمعنى ذهب في كل شيء ، فمن الأول : @ وما تدري جذيمة من طحاها ولا من ساكن العرش الرَّفيع @@ ومن الثاني قول علقمة : @ طحا بك قلب في الحسان طروب يعيد الشباب عصر حان مشيب @@ ولا منافاة في ذلك بأنه تعالى خلقها ومدها ، وذهب بأطرافها كل مذهب ، أي في مدها . تنبيه قالوا : ذكر السماء وما بناها ، للدلالة على حدوثها ، وبالتالي على حدوث الشمس والقمر ، وأن تدبيرهما لله . وقوله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 7 - 8 ] ، قالوا : النفس تحمل كامل خلقة الإنسان بجسمه وروحه وقواه الإنسانية ، من تفكير وسلوك … إلخ . وقيل : النفس هنا بمعنى القوى المفكرة المدركة مناط الرغبة والاختيار ، وعليه فذكر النفس بالمعنى الأول ، تكون تسويتها في استواء خلقتها وتركيب أعضائها ، وهي غاية في الدلالة على القدرة والكمال والعلم ، كما في قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] ، وقال : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] ، أي من أعضاء وأجزاء وتراكيب وعدة أجهزة تبهر العقول في السمع ، وفي البصر ، وفي الشم ، وفي الذوق ، وفي الحس ، ومن داخل الجسم ما هو أعظم ، فحق أن يقسم بها . وما سواها : اي بالقدرة الباهرة ، والعلم الشاملز وذكرها بالمعنى الثاني ، فإنه في نظري أعظم من المعنى الأول ، وذلك أن القوى المدركة والمفكرة والمقدرة للأمور التي لها الاختيار ، ومنها القبول والرفض والرضى والسخط والأخذ والمنع ، فإنها عالم مستقل . وإنها كما قلنا أعظم مما تقدم ، لأن الجانب الخلقي قال تعالى فيه : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [ غافر : 57 ] ، ولكن في هذا الجانب قال : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . ومعلوم أن بعض أفراد الإنسان حملها بصدق واداها بوفاء ، ونال رضى الله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه . فهذه النفس في تسويتها لتلقى معني الخير والشر ، واستقبال الإلهام الإلهي للفجور ، والتقوى أعظم دلالة على القدرة من تلك الجمادات التي لا تبدي ولا تعيد ، والتي لا تمسك سلباً ولا إيجاباً . وهنا مثال بسيط فيما استحدث من آلات حفظ وحساب ، كالآلة الحاسبة والعقل الألكتروني ، فإنها لا تخطئ كما يقولون ، وقد بهرت العقول في صفتها ، ولكن بنظرة بسيطة نجدها أمام النفس الإنسانية كقطرة من بحر . فنقول : إنها أولاً من صنع هذه النفس ذات الإدراك النامي والاستنتاج الباهر . ثانياً : هي لا تخطئ لأنها لا تقدر أن تخطئ ، لأن الخطأ ناشئ عن اجتهاد فكري ، وهي لا اجتهاد لها ، إنما تشير وفق ما رسم لها كالمادة المسجلة في شريط ، فإن المسجل مع دقة حفظه لها فإنه لا يقدر أن يزيد ولا ينقص حرفاً واحداً . أما الإنسان فإنه يغير ويبدل ، وعندما يبدل كلمة مكان كلمة ، فلقدرته على إيجاد الكلمة الأخرى ، أو لاختياره ترك الكلمة الأولى . وهكذا هنا ، فالله تعالى هنا خلق تلك النفس أولاً ، ثم سواها على حال تقبل تلقي الإلهام بقسيمة : الفجور والتقوى ، ثم تسلك أحد الطريقين ، فكأن مجيء القسم بها بعد تلك المسميات دلالة على عظم ذاتها وقوة دلالتها على قدرة خالقها ، وما سواها مستعدة قابلة لتلقي إلهام الله إياها . تنبيه وفي مجيئها بعد الآيات الكونية . من شمس وقمر وليل ونهار ، وسماء وأرض ، لفت إلى وجوب التأمل في كل المخلوقات ، يستلهم منها الدلالة على قدرة خالقها والاستدلال على تغير الأزمان ، وحركة الأفلاك ، وإحداث السماء بالبناء أنه لا بد لهذا العالم من صانع ، ولا بد للمحدث المتجدد من فناء وعدم . كما عرض إبراهيم عليه السلام على النمروذ نماذج الاستدلال على الربوبية والألوهية ، فأشار إلى الشمس أولاً ، ثم إلى القمر ، ثم انتقل به إلى الله سبحانه . وقوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 8 ] ، إن كان ألهمها بمعنى هداها وبين لها ، فهو كما في قوله : { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] ، وقوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } [ الإنسان : 3 ] ، وهذا على الهداية العامة ، التي بمعنى الدلالة والبيان . وإن كان بمعنى التيسير والإلزام ، ففيه إشكال القدر في الخير والاختيار . وقد بحث هذا المعنى الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب بحثاً وافياً . قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] . هذا هو جواب القسم فيما تقدم ، فالواو قد حذفت منه اللام لطول ما بين المقسم به والمقسم عليه . وقد نوه عنه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } [ ص : 64 ] ، من سورة ص ، وأنهم استدلوا لهذه الآية عليه . والأصل : لقد أفلح ، فحذفت اللام لطول الفصل ، وزكاها بمعنى طهَّرها ، وأول ما يطهرها منه دنس الشرك ورجسه ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وتطهيرها منه بالإيمان ثم من المعاصي بالتقوى ، كما في قوله تعالى : { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [ النجم : 32 ] ، ثم بعمل الطاعات { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [ الأعلى : 14 - 15 ] . واختلف في مرجع الضمير في زكاها ودساها ، وهو يرجع إلى اختلافهم في { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 8 ] ، فهل يعود إلى الله تعالى ، كما في { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 7 ] ، أم يعود على العبد . ويمكن أن يستدل لكل قول ببعض النصوص . فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى : { بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 49 ] ، وقوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } [ النور : 21 ] ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند هذه الآية : " اللَّهم أئت نفسي تقواها وزكها ، أنت خير من زكاها ، وانت وليها ومولاها " . ومما استدل به للقول الثاني فكقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [ الأعلى : 14 - 15 ] ، وقوله : { وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [ فاطر : 18 ] ، وقوله : { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ } [ النازعات : 18 - 19 ] ، وقوله : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } [ عبس : 3 ] ، وكلها كما ترى محتملة ، والإشكال فيها كالإشكال فيما قبلها . والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن الجمع بين تلك النصوص كالجمع في التي قبلها ، وأن ما يتزكى به العبد من إيمان وعمل في طاعة وترك لمعصية ، فإنه بفضل من الله ، كما في قوله تعالى المصرح بذلك { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } [ النور : 21 ] . وكل النصوص التي فيها عود الضمير أو إسناد التزكية إلى العبد ، فإنها بفضل من الله ورحمة ، كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان ، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح . وترك المعاصي ، كما في قولك " لا حول ولا قوة إلا بالله " وقوله : { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] ، وقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } [ النساء : 49 ] ، إنما هو بمعنى المدح والثناء ، كما في قوله تعالى : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] ، بل إن في قوله تعالى : { بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 49 ] ، الجمع بين الأمرين ، القدري والشرعي ، { بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } بفضله ، { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } بعدله . والله تعالى أعلم .