Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 92, Ayat: 4-10)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تقدم في السورة الأولى قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] ، وكلاهما بالسعي إليه والعمل من أجله ، وهنا يقول : إن سعيكم مهما كان لشتى ، أي متباعد بعض عن بعض . والشتات : التباعد والافتراق ، وشتى : جمع شتيت ، كمرض ومريض ، وقتلى وقتيل ونحوه ، ومنه قول الشاعر : @ قد يجمع الله الشتيتين بعد ما يظنان كل الظن ألا تلاقيا @@ وهذا جواب القسم ، وفي القسم ما يشعر بالارتباط به ، كبعد ما بين الليل والنهار ، وما بين الذكر والأنثى ، فهما مختلفان تماماً ، وهكذا هما مفترقان في النتائج والوسائل ، كبعد ما بين فلاح من زكاها ، وخيبة من دساها المتقدم في السورة قبلها . ثم فصل هذا الشتات في التفصيل الآتي { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } [ الليل : 5 - 10 ] . وما أبعد ما بين العطاء والبخل والتصديق والتكذيب واليسرى والعسرى ، وقد أطلق أعطى ليعم كل عطاء من ماله وجاهه وجهده حتى الكلمة الطيبة ، بل حتى طلاقة الوجه ، كما في الحديث : " ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق " . والحسنى : قيل المجازاة على الأعمال . وقيل : للخلف على الإنفاق . وقيل : لا إله إلاَّ الله . وقيل : الجنة . والذي يشهد له القرآن هو الأخير لقوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] ، فقالوا : الحسنى هي الجنة ، والزيادة النظر إلى وجهه الكريم ، وهذا المعنى يشمل كل المعاني لأنها أحسن خلف لكل ما ينفق العبد ، وخير وأحسن مجازاة على أي عمل مهما كان ، ولا يتوصل إليها إلا بلا إله إلا الله . وقوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } وقوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } بعد ذكر أعطى واتقى في الأولى ، وبخل واستغنى في الثانية . قيل : هو دلالة على أن فعل الطاعة ييسر إلى طاعة أخرى ، وفعل المعصية يدفع إلى معصية أخرى . قال ابن كثير : مثل قوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] . ثم قال : والآيات في هذا المعنى كثيرة ، دالة على أن الله عزّ وجلّ ، يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ، وكل ذلك بقدر مقدر . والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة . وذكر عن أبي بكر عند أحمد ، وعن علي عند البخاري ، وعبد الله بن عمر عند أحمد ، وعدد كثير بروايات متعددة ، أشملها وأصحها حديث علي عند البخاري قال علي : " كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال : " " ما منكم من أحد إلاّ وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار " فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل ؟ " فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، ثم قرأ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } [ الليل5 - 7 ] - إلى قوله - { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } [ الليل : 10 ] " فهي من الآيات التي لها تعلق ببحث القدر . وتقدم مراراً بحث هذه المسألة . والعلم عند الله تعالى . تنبيه قال أبو حيان : جاء قوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } على سبيل المقابلة ، لأن العسرى على سبيل المقابلة ، لأن العسرى لا تيسير فيها . 1هـ . وهذا من حيث الأسلوب ممكن ، ولكن لا يبعد أن يكون معنى التيسير موجوداً بالفعل ، إذ المشاهد أن من خذلهم الله - عياذاً بالله - يوجد منهم إقبال وقبول وارتياح ، لما يكون أثقل وأشق ما يكون على غيرهم ، ويرون ما هم فيه سهلاً ميسراً لا غضاضة عليهم فيه ، بل وقد يستمرؤون الحرام ويستطعمونه . كما ذكر لي شخص : أن لصَّاً قد كفَّ عن السرقة حياءً من الناس ، وبعد أن كثر ماله وكبر سنه أعطى رجلاً دراهم ليسرق له من زرع جاره ، فذهب الرجل ودار من جهة أخرى وأتاه بثمرة من زرعه هو ، أي زرع اللص نفسه ، فلما أكلها تفلها ، وقال : ليس فيه طعمة المسروق ، فمن أين أتيت به ؟ قال : أتيت من زرعك ، ألا تستحي من نفسك ، تسرق وعندك ما يغنيك . فخجل وكف . وقد جاء عن عمر نقيض ذلك تماماً ، وهو أنه طلب من غلامه أن يسقيه مما في شكوته من لبنه ، فلما طعمه استنكر طعمه ، فقال للغلام : من أين هذا ؟ فقال : مررت على إبل الصدقة فحلبوا لي منها ، وها هو ذا ، وضع عمر إصبعه في فيه ، واستقاء ما شرب . إنها حساسية الحرام استنكرها عمر ، وأحسن بالحرام فاستقاءه ، وهذا وذاك بتيسير من الله تعالى ، وصدق صلى الله عليه وسلم " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " . ونحن نشاهد في الأمور العادية أصحاب المهن والحرف كل واحد راضٍ بعمله وميسر له ، وهكذا نظام الكون كله ، والذي يهم هنا أن كلاً من الطاعة أو المعصية له أثر كبير على ما بعده . تنبيه قيل : إن هذه المقارنة بين : من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى ، واقعة بين أبي بكر رضي الله عنه ، وبين غيره من المشركين . ومعلوم أن العبرة بعموم اللفظ فهي عامة في كل من أعطى واتقى وصدق ، أو بخل واستغنى وكذب . والله تعالى أعلم .