Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 97, Ayat: 1-1)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الضمير في أنزلناه للقرآن قطعاً . وحكى الألوسي عليه الإجماع ، وقال : ما يفيد أن هناك قولاً ضعيفاً لا يعتبر من أنه لجبريل . وما قاله عن الضعف لهذا القول ، يشهد له السياق ، وهو قوله تعالى : { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا } [ القدر : 4 ] . والمشهور : أن الروح هنا هو جبريل عليه السلام ، فيكون الضمير في أنزلنا لغيره ، وجيء بضمير الغيبة ، تعظيماً لشأن القرآن ، وإشعاراً بعلو قدره . وقد يقال : ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، ثم جاءت { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } [ القدر : 1 ] ، أي القرآن المقروء ، والضمير المتصل في إنا ، ونا في إنا أنزلناه مستعمل للجمع وللتعظيم ، ومثلها نحن ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، والمراد بهما هنا التعظيم قطعاً لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع . فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] ، والمراد به القرآن قطعاً ، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى . وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا ، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه ، ومثله { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } [ الكوثر : 1 ] ، وقوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً } [ نوح : 1 ] ، { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ } [ ق : 43 ] ، وإنزال القرآن منة عظمى . وقد دل تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ } [ ص : 29 ] ، فقال : كتاب أنزلناه بضمير التعظيم ، ثم قال في وصف الكتاب : مبارك . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند الكلام على آية صۤ هذه { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } [ ص : 29 ] . والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ الإفراد ، فمن صيغ الجمع ما تقدم ، ومن صيغ الإفراد قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، وقوله : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ، وقوله : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] . ويلاحظ في صيغ الإفراد : أنها في مواضع التعظيم والإجلال ، كالأول في مقام خلق البشر من طين ، ولا يقدر عليه إلا الله . والثاني : في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه ، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو الإفراد ، ففيها كلها تعظيم لله سبحانه وتعالى سواء بنصها ، وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق . ثم اختلف في المُنزلِ ليلة القدر ، هل هو الكل أو البعض ؟ فقيل : وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي بداية الوحي بالقرآن ، وهو مروي عن ابن عباس ، قال : " ثم تتالى نزول الوحي ، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة " . وقيل : المنزل في تلك الليلة ، هو جميع القرآن جملة واحدة ، وكله إلى سماء الدنيا ، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً حسب الوقائع . وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا ، وقد اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ] ، وحكاه الألوسي وحكى عليه الإجماع . وعن ابن حجر في فتح الباري ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول يجمع فيه بين القولين الأخيرين ، وهو أنه لا منافاة بين القولين ، ويمكن الجمع بينهما ، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وبدء نزول أوله { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، في ليلة القدر . وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول كيفية نزول القرآن ، وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن ، وأن جبريل نقله من اللوح المحفوظ ، وأن الله لم يتكلم به ، عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك ، وكتب جوابه وطبع ، فكان كافياً . وقد نقل فيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبين أن الله تعالى تكلم به عند وحيه ، ورد على كل شبهة في ذلك . والواقع أنه لا تعارض كما تقدم ، بين كوه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً ، لأن كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم . ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثابة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة القرآن ، فأصبح القرآن موجوداً في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه ، وموجوداً في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً . ومعلوم أنه الآن هو أيضاً موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجماً بقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله : { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [ القدر : 4 ] ، أي في كل ليلة قدر . وقد جاء { أَنزَلْنَاهُ } ، فتدل على الجملة . وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق ، وهو العلي الكبير " الحديث في صحيح البخاري . وفي أبي داود وغيره " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان " . وعلى هذا يكون القرآن موجوداً في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون ، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر ، ثم نزل منجماً في عشرين سنة . وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله ، فيسمعه جبريل عليه السلام عن الله تعالى . ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث . والله تعالى أعلم . وقد قدمنا الكلام على صور كيفية نزول الوحي وتلقي الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي . وقيل : معنى { أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } ، أي أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر تعظيماً لها ، فلم تكن ظرفاً على هذا الوجه . والواقع : أن هذا القول وإن كان من حيث الأسلوب ممكناً إلا أن ما بعده يغني عنه ، لأن إعظام ليلة القدر وبيان منزلتها قد نزل فيها قرآن فعلاً ، وهو ما بعدها مباشرة في قوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [ القدر : 2 - 3 ] ، إلى آخر السورة . وعليه ، فيكون أول السورة في شأن إنزال القرآن وبيان ظرف إنزاله ، وآخر السورة في ليلة القدر وبيان منزلتها . وقد ذكرت ليلة القدر مبهمة ، ولكن جاء في القرآن ما يعين الشهر التي هي فيه ، وهو شهر رمضان لقوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ] . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان بيان ذلك ، وأنها الليلة التي فيها يبرم كل أمر حكيم ، وليست ليلة النصف من شعبان كما يزعم بعض الناس . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان الحكمة من إنزاله مفرقاً عند قوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلأَلْبَابِ } [ ص : 29 ] .