Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 98, Ayat: 7-7)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحكم هنا بالعموم ، كالحكم هناك . ولكنه هنا بالخيرية والتفضيل . أما من حيث الجنس فلا إشكال ، لأن الإنسان أفضل الأجناس { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [ الإسراء : 70 ] . وأما من حيث العموم ، فقال بعض العلماء فيها ما يدل على صالح المؤمنين أفضل من الملائكة . ولعل مما يقوي هذا الاستدلال ، هو أن بعض أفراد جنس الإنسان أفضل من عموم أفراد جنس الملائكة ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا فضل بعض أفراد الجنس لا يمنع في البعض الآخر ولكن هل بعض أفراد الأمة بعده أفضل من عموم أو بعض أفراد الملائكة ؟ هذا هو محل الخلاف . وللقرطبي مبحث في ذلك : مبناه على أصل المادة وورود النصوص من جهة أصل المادة إن كانت البرية مأخوذة من البري وهو التراب . فلا تدخل الملائكة تحت هذا التفضيل وإلا فتدخل . وأما من جهة النصوص ، فقال في سورة البقرة عند قوله : { قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } [ البقرة : 33 ] ، قال المسألة الثالثة : اختلف العلماء في هذا الباب أيهما أفضل ، الملائكة أو بنو آدم ؟ على قولين ، فذهب قول إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة ، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة . وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل ، واحتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . وقوله : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [ الأنعام : 50 ] . وبما في البخاري يقول الله : " من ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منه " وهذا نص على أن الملأ الأعلى خير من ملا الأرض . واحتج من فضل بني آدم بقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [ البينة : 7 ] ، بالهمز من بَرأَ اللهُ الْخَلقُ ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم " أخرجه أبو داود . وبأن الله يباهي بأهل عرفات الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل والله تعالى أعلم . وقال بعض العلماء : ولا طريق إلى القطع بأن الملائكة خير منهم ، لأن طريق ذلك خبر الله ، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع الأمة . وليس ها هنا شيء من ذلك خلافاً للقدرية والقاضي أبي بكر ، حيث قالوا : الملائكة أفضل . قال : وأنا من قال من أصحابنا والشيعة : إن الأنبياء أفضل ، لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، إلى آخره . ثم رد هذا الاستدلال . وقد سقنا هذا البحث لبيان الخلاف في هذه المسألة المشتمل عليها لفظ البرية ، وأعتقد أن المفاضلة جزئية لا كلية ، وذلك أن جنس البشر خلاف جنس الملائكة ، والملائكة فيهم النص بأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] ، والبشر فيهم النص { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [ الإسراء : 70 ] ، والفرق بينهما ، كالفرق بين الاسم والفعل في الدلالة . ففي الملائكة بالاسم : مكرمون ، وهو يدل على الدوام والثبوت ، وفي بني آدم كرمنا ، وهو يدل على التجدد والحدوث . وهذا هو الواقع ، فالتكريم ثابت ولازم ودائم للملائكة بخلافه في بني آدم إذ فيهم وفيهم ، ولا يبعد أن يقال : إن التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة ، إذ الملائكة تصدر عنها أعمال الخير جبلة أو بدون نوازع شر ، بخلاف بني آدم ، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج ، حيث ركبت فيه النفس اللوامة والأمارة بالسوء . ونحو ذلك من الجانب الحيواني . وازدواجية المجهود ، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها ، ويبذل الجهد في فعل الخير ، فهو يجاهد للتخليص من نوازع ثم الشر ، هو يجاهد للقيام بفعل الخير ، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد . وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك ، لما ذكر صلى الله عليه وسلم أصحابه " أن يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين ، فقالوا : خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال : " بل خمسين منكم ، لأنكم تجدون أعواناً على الخير وهم لا يجدون " . وحديث " سبق درهم مائة ألف درهم " وبين صلى الله عليه وسلم ، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة ، لأنه ثاني اثنين فقط ، والمائة ألف جزء من مجموع كثير . فالنفس التي تجود بنصف ما تملك ، ولا يتبقى لها إلا درهم ، خير بكثير ممن تنفق جزءاً ضئيلاً مما تملك ويتبقى لها المال الكثير ، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة . فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى ، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس ، ولكن تفاوتت الدوافع والعوامل لإنفاقه ، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى . والله تعالى أعلم .