Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 99, Ayat: 7-8)

Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في هاتين الآيتين مبحثان أحدهما في معنى من لعمومه ، والآخر في صيغة يعمل . أما الأول فهو مطروق في جميع كتب التفسير على حد قولهم : من للعموم المسلم والكافر ، مع أن الكافر لا يرى من عمل الخير شيئاً ، لقوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ، وفي حق المسلم ، قد لا يرى كل ما عمل من شر ، لقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] . وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة بتوسع في دفع إيهام الاضطراب بما يغني عن إيراده . أما المبحث الثاني فلم أر من تناوله بالبحث ، وهو في صيغة يعمل ، لأنها صيغة مضارع ، وهي للحال والاستقبال . والمقام في هذا السياق { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً } [ الزلزلة : 6 ] ، وهو يوم البعث ، وليس هناك مجال للعمل ، وكان مقتضى السياق أن يقال : فمن عمل مثقال ذرة خيراً يره . ولكن الصيغة هنا صيغة مضارع ، والمقام ليس مقام عمل ، ولكن في السياق ما يدل على أن المراد بعمل مثقال ذرة أي من الصنفين ما كان من قبل ذلك ، لقوله تعالى { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ } [ الزلزلة : 6 ] ، فهم إنما يروا في ذلك اليوم أعمالهم التي عملوها من قبل ، فتكون صيغة المضارع هنا من باب الالتفات ، حيث كان السياق أولاً من أول السورة في معرض الإخبار عن المستقبل : إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وإذا أخرجت الأرض أثقالها ، وإذا قال الإنسان ما لها . في ذلك اليوم الآتي تحدث أخبارها ، وفي ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل كما في قوله : { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ النبأ : 40 ] ، وقوله : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [ الكهف : 49 ] . ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير ، فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شراً يره في الآخرة ، ومثال الذرة : قيل : هي النملة الصغيرة ، لقول الشاعر : @ من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا @@ والإتب : قال في القاموس : الإتب بالكسر ، والمئتبة كمكنسة برد يشق ، فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين ، وقيل : هي الهباء التي ترى في أشعة الشمس ، وكلاهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما . وسيأتي زيادة إيضاح لكيفية الوزن في سورة القارعة إن شاء الله . ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها ، لأنه تعالى عمم العمل في قوله : { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ النبأ : 40 ] ، أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير ، وقد جاء النص صريحاً بذلك في قوله تعالى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] . وهنا تنبيهان : الأول من ناحية الأصول ، وهو أن النص على مثقال الذرة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فلا يمنع رؤية مثاقيل الجبال ، بل هي أولى وأحرى . وهذا عند الأصوليين ما يسمى الإلحاق بنفي الفارق ، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به ، وقد يكون مساوياً له ، فمن الأول هذه الآية وقوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 23 ] ، ومن المساوي قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ] ، فإن إحراق ماله وإغراقه ملحق بأكله ، بنفي الفارق وهو مساوٍ لأكله في عموم الإتلاف عليه ، وهو عند الشافعي ما يسمى القياس في معنى الأصل ، أي النص . التنبيه الثاني في قوله تعالى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ } [ يونس : 61 ] . رد على بعض المتكلمين في العصر الحاضر ، والمسمى بعصر الذرة ، إذ قالوا : لقد اعتبر القرآن الذرة أصغر شيء ، وأنها لا تقبل التقسيم ، كما يقول المناطقة : إنها الجوهر الفرد ، الذي لا يقبل الانقسام . وجاء العلم الحديث ، ففتنت الذرة وجعل لها أجزاء . ووجه الرد على تلك المقالة الجديدة ، على آيات من كتاب الله هو النص الصريح من مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب . فمعلوم ذلك عند الله ومثبت في كتاب ما هو أصغر من الذرة ، ولا حد لهذا الأصغر بأي نسبة كانت ، فهو شامل لتفجير الذرة ولأجزائها مهما صغرت تلك الأجزاء . سبحانك ما أعظم شأنك ، وأعظم كتابك ، وصدق الله إذ يقول : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] .