Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 11-12)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال صاحب المنار " هاتان الآيتان فى بيان شأن من شئون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم فى حياتهم الدنيا من خير وشر ، ونفع وضر ، وشعورهم بالحاجة إلى الله - تعالى - واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها ، واستعجالهم الأمور قبل أوانها وهو تعريض بالمشركين ، وحجة على ما يأتون من شرك وما ينكرون من أمر البعث ، متمم لما قبله ، ولذلك عطف عليه . وقوله { يعجل } من التعجيل بمعنى طلب الشىء قبل وقته المحدد له والاستعجال طلب التعجيل بالشىء . والأجل الوقت المحدد لانقضاء المدة . وأجل الإِنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره . والمراد بالناس هنا - عند عدد من المفسرين - المشركون الذين وصفهم الله - تعالى - قبل ذلك بأنهم لا يرجون لقاءه ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها . ولقد حكى القرآن فى كثير من آياته ، أن المشركين قد استعجلوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى نزول العذاب ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } وقوله - تعالى - { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والمعنى ولو يعجل الله - تعالى - لهؤلاء المشركين العقوبة التى طلبوها ، تعجيلا مثل استعجالهم الحصول على الخير { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أى لأميتوا وأهلكوا جميعاً ، ولكن الله - تعالى - الرحيم بخلقه ، الحكيم فى أفعاله ، لا يعجل لهم العقوبة التى طلبوها كما يعجل لهم طلب الخير لحكمة هو يعلمها فقد يكون من بين هؤلاء المتعجلين للعقوبة من يدخل فى الإِسلام ، ويتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - . قال الإِمام الرازى " فقد بين - سبحانه - فى هذه الآية أنهم لا مصلحة لهم فى تعجيل إيصال الشر إليهم ، لأنه - تعالى - " لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا ، ولا صلاح فى إماتتهم ، فربما آمنوا بعد ذلك ، وربما خرج من أصلابهم من كان مؤمناً ، وذلك يقتضى أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر " . ومن العلماء من يرى أن المراد بالناس هنا ما يشمل المشركين وغيرهم ، وأن الآية الكريمة تحكى لونا من ألوان لطف الله بعباده ورحمته بهم . ومن المفسرين الذين اقتصروا على هذا الاتجاه فى تفسيرهم الإِمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية يخبر - تعالى - عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم ، أو أموالهم أو أولادهم بالشر فى حال ضجرهم وغضبهم ، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك ، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة ، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والسخاء ، ولهذا قال { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ . … } أى لو استجاب لهم جميع ما دعوه به فى ذلك لأهلكهم . ثم قال ولكن لا ينبغى الإِكثار من ذلك ، كما جاء فى الحديث الذى رواه الحافظ أبو بكر البزار فى مسنده عن جابر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم " . وقال مجاهد فى تفسير هذه الآية هو قول الإِنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه اللهم لا تبارك فيه والعنه ، فلو يعجل لهم الاستجابة فى ذلك كما يستجاب لهم فى الخير لأهلكهم . أما الإِمام الآلوسى فقد حكى هذين الوجهين ، ورجح الأول منهما فقال " قوله { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ … } وهم الذين لا يرجون لقاء الله - تعالى - المذكورون فى قوله { ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا … } والمراد لو يعجل الله لهم الشر الذى كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء … " ، وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه قال " هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له ، وفيه حمل الناس على العموم ، والمختار الأول ، ويؤيده ما قيل من أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث حين قال { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والذى يبدو لنا أن كون لفظ الناس للجنس أولى ، ويدخل فيه المشركون دخولا أوليا ، لأنه لا توجد قرينة تمنع من إرادة ذلك ، وحتى لو صح ما قيل أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقوله { ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ } منصوب على المصدرية ، والأصل ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ، فحذف تعجيلا وصفته المضافة ، وأقيم المضاف إليه مقامها . ثم بين - سبحانه - ما يشير إلى الحكمة فى عدم تعجيل العقوبة فقال { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } . والطغيان مجاوزة الحد فى كل شىء ، ومنه طغى الماء إذا ارتفع وتجاوز حده . ويعمهون من العمه ، يقال عمه - كفرح ومنع - عمها ، إذا تحير وتردد فهو عمه وعامه . أى لا نعجل للناس ما طلبوه من عقوبات ، وإنما نترك الذين لا يرجون لقاءنا إلى يوم القيامة ، على سبيل الإِمهال والاستدراج فى الدنيا فى طغيانهم يتحيرون ويترددون ، بحيث تلتبس عليهم الأمور فلا يعرفون الخير من الشر . ثم صور - سبحانه - طبيعة الإِنسان فى حالتى العسر واليسر فقال { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ . … } . والمس اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة . والضر ما يصيب الإِنسان من سوء الحال فى نفسه أو بدنه أو غيرهما مما يحبه ويشتهيه . والمعنى { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ } عن طريق المرض أو الفقر أو غيرها { دَعَانَا } بإلحاح وتضرع لكى نكشفه عنه ، فهو تارة يدعونا وهو مضطجع على جنبه ، وتارة يدعونا وهو قاعد ، وتارة يدعونا وهو قائم على قدميه . { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } وما أصابه من سوء { مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ } أى مضى واستمر فى غفلته الأولى حتى لكأنه لم تنزل به كروب ، ولم يسبق له أن دعانا بإلحاح لكشفها . وخص - سبحانه - هذه الأحوال بالذكر ، لعدم خلو الإِنسان عنها فى العادة . وقيل يصح أن يراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار ، لأنها قد تكون خفيفة فيدعو الله وهو قائم ، وقد تكون متوسطة فيدعوه وهو قاعد ، وقد تكون ثقيلة فيدعوه وهو نائم . ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية " فإن قلت فما فائدة ذكر هذه الأحوال ؟ قلت معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر ، فهو يدعونا فى حالاته كلها ، سواء أكان منبطحا عاجزاً عن النهوض ، أم كان قاعداً لا يقدر على القيام ، أم كان قائما لا يطيق المشى . ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشد حالا وهو صاحب الفراش ، ومنهم من هو أخف ، وهو القادر على القعود ، ومنهم المستطيع للقيام ، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء ، لأن الإِنسان للجنس … " وفى التعبير بالمس إشارة إلى أن ما أصابه من ضر حتى لو كان يسيراً فإنه لا يترك الدعاء والابتهال إلى الله بأن يكشفه عنه . وقوله { لجنبه } فى موضع الحال من فاعل { دعانا } و { أو } لتنويع الأحوال ، أو لأصناف المضار . والتعبير بقوله - سبحانه { مر } يمثل أدق تصوير لطبيعة الإِنسان الذى يدعو الله عند البلاء ، وينساه عند الرخاء ، فهو فى حالة البلاء يدعو الله فى كل الأحوال ، فإذا ما انكشف عنه البلاء مر واندفع فى تيار الحياة . بدون كابح ، ولا زاجر ، ولا مبالاة ، وبدون توقف ليتدبر أو ليعتبر … ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى كما زين لهذا الإِنسان الدعاء عند البلاء والإِعراض عند الرخاء ، زين لهؤلاء المسرفين المتجاوزين لحدود الله ، ما كانوا يعملونه من إعراض عن ذكره ، ومن غفلة عن حكمته وعن سننه فى كونه . قال الآلوسى " وفى الآية ذم لمن يترك الدعاء فى الرخاء ، ويهرع إليه فى الشدة ، واللائق بحال العاقل التضرع إلى مولاه فى السراء والضراء ، فإن ذلك أرجى للإِجابة . ففى الحديث الشريف " تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة " . وأخرج أبو الشيخ عن أبى الدرداء قال ادع الله يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك . وفى حديث للترمذى عن أبى هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإِسناد " من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكروب ، فليكثر من الدعاء عند الرخاء " . وقال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية " وقد ذم الله - تعالى - من هذه طريقته وصفته فى الدعاء . أما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك ، - لأنه يدعو الله فى الشدة والرخاء - ، وفى الحديث الشريف " عجباً لأمر المؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيراً له إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " . وبعد أن بين - سبحانه - جانباً من شأنه مع الناس ومن شأنهم معه . أتبع ذلك ببيان مصير الأمم الظالمة ليكون فى ذلك عبرة وعظة فقال - تعالى - { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا … } .