Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 3-4)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام الرازى ما ملخصه " اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحى والبعثة والرسالة ثم إنه - تعالى - أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة فى أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم وينذرهم … كان هذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين أحدهما إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا ، نافذ الحكم بالأمر والنهى . والثانى إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما . فلا جرم أنه - سبحانه - ذكر فى هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين . أما الأول وهو إثبات الألوهية فبقوله - تعالى { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ … } . وأما الثانى فهو إثبات المعاد والحشر والنشر بقوله { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً … } . فثبت أن هذا الترتيب فى غاية الحسن . ونهاية الكمال " . والمعنى إن ربكم ومالك أمركم - الذى عجبتم من أن يرسل إليكم رسولا منكم هو الذى خلق السماوات والأرض فى مقدار ستة أيام أى أوقات . فالمراد من اليوم معناه اللغوى وهو مطلق الوقت . وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن تلك الأيام من أيام الآخرة التى يوم منها كألف سنة مما تعدون . قال الآلوسى " وقيل هى مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام ، لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة فى مثل تلك المدة اليسيرة ، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه " . وقال بعض العلماء " ولا ندخل فى تحديد هذه الأيام الستة ، فهى لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها ، وإنما ذكرت لبيان حكمة التدبير والتقدير فى الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق ، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية . وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله ، الذى لا مصدر لإِدراكه إلا هذا المصدر ، فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه ، والمقصود بذكرها هو الإِشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام الذى يسير مع الكون من بدئه إلى منتهاه " . وقال سعيد بن جبير كان الله قادرا على أن يخلق السماوات والأرض فى لمحة ولحظة . ولكنه - سبحانه - خلقهن فى ستة أيام ، لكى يعلم عباده التثبت والتأنى فى الأمور . وقوله { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } معطوف على ما قبله ، لتأكيد مزيد قدرته وعظمته - سبحانه - . والاستواء من معانيه اللغوية الاستقرار ، ومنه قوله - تعالى - { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِي } أى استقرت ، ومن معانيه - أيضاً - الاستيلاء والقهر والسلطان ، ومنه قول الشاعر قد استوى بشر على العراق أى استولى عليه . وعرش الله - كما قال الراغب - مما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم وليس كما تذهب إليه أوهام العامة ، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى الله عن ذلك - لا محمولا " . وقد ذكر العرش فى القرآن الكريم فى إحدى وعشرين آية ، وذكر الاستواء على العرش فى سبع آيات . أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة إلى أنه صفة الله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به فيجب الإِيمان بها كام وردت وتفويض العلم بحقيقتها إلى الله - تعالى - . فعن أم سلمة - رضى الله عنها - أنها قالت فى تفسير قوله - تعالى { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } الكيف غير معقول ، والاستواء مجهول ، والإِقرار به من الإِيمان ، والجحود به كفر . وقال الإِمام مالك الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . وقال محمد بن الحسن اتفق الفقهاء جميعا على الإِيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه . وقال الإِمام الرازى " إن هذا المذهب هو الذى نقول به ونختاره ونعتمد عليه " . وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرف هذه الصفة وأمثالها عن الظاهر لاستحالة حملها على ما يفيده ظاهر اللفظ ، لأنه - سبحانه - مخالف للحوادث ، ووجوب حملها على ما يليق به - سبحانه - . وعليه فإن الاستواء هنا كناية عن القهر والعظمة والغلبة والسلطان وقوله { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } استئناف مسوق لتقرير عظمته - سبحانه - ولبيان حكمة استوائه على العرش . والتدبير معناه النظر فى أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود . والمراد به هنا التقدير الجارى على وفق الحكمة التى اقتضتها إرادة الله ومشيئته . والمراد بالأمر ما يتعلق بأمور المخلوقات كلها من إنس وجن وغير ذلك من مخلوقاته التى لا تعد ولا تحصى . أى أنه سبحانه يدبر أمر مخلوقاته تدبيرا حكيما ، حسبما تقتضيه إرادته وعبر بالمضارع فى قوله { يدبر } للإِِشارة إلى تجدد التدبير واستمراره ، إذ أنه - سبحانه - لا يهمل شئون خلقه . وقوله { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } استئناف آخر مسوق لبيان تفرده فى تدبيره وأحكامه . والشفيع مأخوذ من الشفع وهو ضم الشىء إلى مثله ، وأكثر ما يستعمل فى انضمام من هو أعلى منزلة إلى من هو أدنى منه لإِعانته على ما يريده . والاستثناء هنا مفرغ من أعم الأوقات والأحوال . أى ما من شفيع يستطيع أن يشفع لغيره فى جميع الأوقات والأحوال إلا بعد إذنه - سبحانه - . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله - سبحانه - { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فى ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } يعود إلى ذات الله - تعالى - الموصوفة بتلك الصفات الجليلة . أى ذلك الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف فى شئون خلقه وفق مشيئته ، هو الله ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ولا تشركوا معه أحدا فى ذلك . ثم ختم - سبحانه - الآية بالأمر بالتذكر فقال { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أى أتعلمون أن الله - تعالى - هو خالقكم وهو القادر على كل شىء ، ومع ذلك تستبعدون أن يكون الرسول بشرا ، فهلا تذكرتم قدرة الله وحكمته حتى تثوبوا إلى رشدكم ، وتتبعوا الحق الذى جاءكم به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وإيثار { تَذَكَّرُونَ } على تفكرون للإِيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذى لا يفتقر إلى عمق فى التفكير والبحث والتأمل . إذ أن مظاهر قدرة الله وعظمته نراها واضحة جلية فى الأنفس والآفاق . وبذلك نرى الآية الكريمة قد ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله - تعالى - وبالغ حكمته ، ونفاذ أحكامه حتى يخلص له الناس العبادة والطاعة . ثم بين - سبحانه - أن مرجع العباد جميعا إليه ، وأنه سيجازى كل إنسان بما يستحق . فقال - تعالى - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً } . أى إلى الله - تعالى - وحده مرجعكم جميعا بعد الموت ليحاسبكم على أعمالكم ، وقد وعد الله بذلك وعدا صدقا ، ولن يخلف الله وعده . قال أبو حيان وانتصب { وَعْدَ ٱللَّهِ } و { حَقّاً } على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة ، والتقدير وعد الله وعداً ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل ، وذلك كقوله " صبغة الله " و " صنع الله " والتقدير فى { حقا } حق ذلك حقا " . وقوله { إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } كالتعليل لما أفاده قوله - سبحانه - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } فإن غاية البدء والإِعادة هو الجزاء المناسب على الأعمال الدنيوية . أى إن شأنه - سبحانه - أن يبدأ الخلق عند تكوينه ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى بعد موته وفنائه . ثم بين - سبحانه - الحكمة من الإِعادة بعد الموت فقال { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } . والقسط - كما يقول الراغب - النصيب بالعدل . يقال قسط الرجل إذا جار وظلم . ومنه قوله - تعالى - { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } ويقال أقسط فلان إذا عدل ، ومنه قوله - تعالى - { وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } والحميم الماء الذى بلغ أقصى درجات الحرارة ، قال - تعالى - { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أى فعل ما فعل سبحانه من بدء الخلق وإعادتهم ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بعدله الجزاء الطيب الذى أعده لهم ، وأما الذين كفروا فيجزيهم - أيضاً - بعدله ما يستحقونه من شراب حميم يقطع أمعاءهم ، ومن عذاب مؤلم لابدانهم ، وذلك بسبب كفرهم واستحبابهم العمى على الهدى . وقوله { بِٱلْقِسْطِ } حال من فاعل { ليجزي } ليجزيهم ملتبسا بالقسط . ويصح أن يكون المعنى فعل ما فعل ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن بسبب عدلهم وتمسكهم بتكاليف دينهم ، وأما الذين كفروا فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم . قال الجمل ما ملخصه وقال - سبحانه - { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ … } بتغيير فى الأسلوب للمبالغة فى استحقاقهم للعقاب . وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإِبداء والإِعادة هو الإِثابة ، والعذاب وقع بالعرض . وأنه - تعالى - يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ، ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم . وبعد أن بين - سبحانه - جانبا من مظاهر قدرته فى خلق السماوات والأرض ، أتبع ذلك بذكر مظاهر أخرى لقدرته ، تتمثل فى خلق الشمس والقمر والليل والنهار فقال - تعالى - { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ … } .