Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 5-6)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ففى هاتين الآيتين - كما يقول الآلوسى - تنبيه على الاستدلال على وجوده - تعالى - ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته . بآثار صنيعه فى النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر ، وبيان لبعض أفراد التدبير الذى أشير إليه إشارة إجمالية ، وإرشاد إلى أنه - سبحانه - حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع ، فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى " . وقوله { جعل } يجوز أن يكون بمعنى أنشأ وأبدع ، فيكون لفظ { ضياء } حال من المفعول ، ويجوز أن يكون بمعنى صير فيكون اللفظ المذكور مفعولا ثانيا . وقوله { ضياء } جمع ضوء كسوط وسياط ، وحوض حياض ، وقيل هو مصدر ضاء يضوء ضياء كقام يقوم قياما ، وصام يصوم صياما ، وعلى كلا الوجهين فالكلام على حذف مضاف . والمعنى الله - تعالى - وحده هو الذى جعل لكم الشمس ذات ضياء ، وجعل لكم القمر ذا نور ، لكى تنتفعوا بهما فى مختلف شئونكم . قال الجمل " وخص الشمس بالضياء لأنه أقوى وأكمل من النور ، وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما إذا تساويا لم يعرف الليل من النهار ، فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل وأقوى من النور المختص بالقمر " . هذا دليل . ومما يدل على التفرقة بين الشمس والقمر فى نورهما قوله - تعالى - { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } وقوله - سبحانه - { تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } وقوله { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } معطوف على ما قبله . والتقدير جعل الشىء أو الأشياء على مقادير مخصوصة فى الزمان أو المكان أو غيرهما قال - تعالى - { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ } المنازل جمع منزل ، وهى أماكن النزول ، وهى - كما يقول بعضهم - ثمانية وعشرون منزلا ، وتنقسم إلى اثنى عشر برجا وهى الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت ، لكل برج منها منزلان وثلث منزل ، وينزل القمر فى كل ليلة منزلا منها إلى انقضاء ثمانية وعشرين . ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما ، ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما . والضمير فى قوله { وقَدَّرَهُ } يعود إلى القمر ، كما فى قوله - تعالى - { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } أى والله - تعالى - هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا ، وقدر للقمر منازل ينزل فيها فى كل ليلة على هيئة خاصة ، وطريقة بديعة تدل على قدرة الله وحكمته . قالوا وكانت عودة الضمير إلى القمر وحده ، لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ، ولأنه العمدة فى تواريخ العرب ، ولأن أحكام الشرع منوطة به فى الأغلب . وجوز بعضهم أن يكون الضمير للشمس والقمر معا ، أى وقدر لهما منازل ، أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانها فى السير ، ولا يتعدى أحدهما على الآخر كما قال - تعالى - { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وإنما وحد الضمير للإيجاز كما فى قوله - تعالى - { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } وقوله { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } بيان للحكمة من الخلق والتقدير . أى جعل - سبحانه - الشمس ضياء ، والقمر نورا ، وقدره منازل ، لتعلموا عدد السنين التى يفيدكم علمها فى مصالحكم الدينية والدنيوية ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية يخبر الله - تعالى - عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء ، وجعل شعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل ، وقدر القمر منازل ، فأول ما يبدو القمر يكون صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ، ثم يشرع فى النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى . فبالشمس تعرف الأيام ، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام " . واسم الإِشارة فى قوله { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } يعود إلى المذكور من جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل . أى ما خلق الله ذلك الذى ذكره لكم إلا خلقا ملتبسا بالحق ، ومقترنا بالحكمة البالغة التى تقتضيها مصالحكم . وقوله { يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } استئناف مسوق لبيان المنتفعين بهذه الدلائل الدالة على قدرة الله ووحدانيته ورحمته بعباده . أى يفصل - سبحانه - ويوضح البراهين الدالة على قدرته لقوم يعلمون الحق ، فيستجيبون له ، ويكثرون من طاعة الله وشكره على ما خلق وأنعم . ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان قدرته ورحمته فقال { إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } طولا وقصرا ، وحرا وبردا ، وتعاقبا دقيقا لا يسبق أحدهما معه الآخر { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } من أنواع الإنس والجن والحيوان والنبات والنجوم وغير ذلك من المخلوقات التى لا تعد ولا تحصى … إن فى كل ذلك الذى خلقه { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } أى لدلائل عظيمة كثيرة دالة على قدرة الله ورحمته ووحدانيته ، لقوم يتقون الله - تعالى - فيحذرون عقابه ، ويرجون رحمته . وخص - سبحانه - المتقين بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بنتائج التدبر فى هذه الدلائل . وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد سلك أنجع الوسائل فى مخاطبة الفطرة البشرية ، حيث لفت الأنظار إلى ما اشتمل عليه هذا الكون من مخلوقات شاهدة محسوسة ، تدل على وحدانية الله ، وقدرته النافذة ، ورحمته السابغة بعباده . * * * ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله من عذاب للكافرين ، وما أعده من ثواب للطائعين ، فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ … } .