Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 71-73)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام الرازى " اعلم أنه - سبحانه - لما بالغ فى تقرير الدلائل والبينات وفى الجواب عن الشبه والسؤالات ، شرع بعد ذلك فى بيان بعض قصص الأنبياء - عليهم السلام - لوجوه أحدها أن الكلام إذا طال فى تقرير نوع من أنواع العلوم ، فربما حصل نوع من أنواع الملالة ، فإذا انتقل الإِنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر ، انشرح صدره ، ووجد فى نفسه رغبة جديدة . وثانيها ليكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، أسوة بمن سلف من الأنبياء ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع أن معاملة الكفار لأنبيائهم سيئة … خف ذلك على قلبه ، لأن المصيبة إذا عمت خفت . وثالثها أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص ، وعلموا أن العاقبة للمتقين كان ذلك سببا فى انكسار قلوبهم ، ووقوع الخوف والوجل فى نفوسهم . وحينئذ يقلعون عن أنواع الإِيذاء والسفاهة … " . ونوح - عليه السلام - واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر فى القرآن فى ثلاثة وأربعين موضعا . وكان قومه يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم نوحاً ليدلهم على طريق الرشاد . وقد تكررت قصته مع قومه فى سورة الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، ونوح … بصورة أكثر تفضيلاً . أما هنا فى سورة يونس فقد جاءت بصورة مجملة ، لأن الغرض منها هنا ، إبراز جانب التحدى من نوع لقومه ، بعد أن مكث فيهم زماناً طويلاً ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة غيره . والمعنى واتل - يا محمد - على مسامع هؤلاء المشركين الذين مردوا على افتراء الكذب ، نبأ نوح - عليه السلام - مع قومه المغترين بأموالهم وكثرتهم ليتدبروا ما فى هذا النبأ من عظات وعبر . وليعلموا أن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يجعل العاقبة للمتقين . والمقصود من هذه التلاوة ، دعوة مشركى مكة وأمثالهم ، إلى التدبر فيما جرى للظالمين من قبلهم ، لعلهم بسبب هذا التدبر والتأمل يثوبون إلى رشدهم ويتبعون الدين الحق الذى جاءهم به نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقوله { يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ … } بيان لما قاله لهم بعد أن مكث فيهم زمنا طويلا ، ، وسمع منهم ما سمع من استهزاء بدعوته ، ، وتطاول على أتباعه . أى قال نوح لقومه بعد أن دعاهم ليلا ونهارا يا قوم إن كان { كَبُرَ عَلَيْكُمْ } . أى شق وعظم عليكم { مَّقَامِي } فيكم ووجودى بين أظهركم عمرا طويلا { وَتَذْكِيرِي } إياكم بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، ، والتى تستلزم منكم إخلاص العبادة له والشكر لنعمه . إن كان كبر عليكم ذلك فعلى الله وحده توكلت ، وإليه وحده فوضت أمرى ولن يصرفنى عن الاستمرار فى تبليغ ما أمرنى بتبليغه وعد أو وعيد منكم . وخاطبهم - عليه السلام - بقوله { يٰقَوْمِ } استمالة لقلوبهم ، وإشعار لهم بأنهم أهله وأقرباؤه الذين يحب لهم الخير ، ويكره لهم الشر . وجملة { فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ } جواب الشرط . وقيل جواب الشرط محذوف والتقدير إن كان كبر عليكم ذلك فافعلوا ما شئتم فإنى على الله وحده توكلت فى تبليغ دعوته لكم . وقوله { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } معطوف على ما قبله . والفعل { أجمعوا } بقطع الهمزة مأخوذ من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه عزما مؤكدا ووطنت نفسك على المضى فيه بدون تردد أو تقاعس . والمراد بالأمر هنا المكر والكيد والعداوة وما يشبه ذلك . والمراد بشركائهم أصنامهم التى عبدوها من دون الله وظنوا فيها النفع والضرر والتمسوا فيها العون والنصرة . والمعنى أن نوحا - عليه السلام - قد قال لقومه بصراحة ووضوح يا قوم إن كان قد شق عليكم مقامى فيكم ، وتذكيرى بآيات الله الدالة على وحدانيته فأجمعوا ما تريدون جمعه من مكر وكيد بى ، ثم ادعوا شركاءكم ليساعدوكم فى ذلك فإنى ماض فى طريقى الذى أمرنى الله به ، بدون مبالاة بمكركم وبدون اهتمام بكيدكم . قال الآلوسى " وقوله { وَشُرَكَآءَكُمْ } منصوب على أنه مفعول معه لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم . وقيل إنه منصوب بالعطف على قوله { أَمْرَكُمْ } بحذف المضاف أى فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم . وقرأ نافع فاجمعوا بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع وعطف الشركاء على الأمر فى هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال جمعت شركائى ، كما يقال جمعت أمرى … " وقوله { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه . وكلمة { غُمَّةً } بمعنى الستر والخفاء . يقال غم على فلان الأمر أى خفى عليه واستتر . ومنه الحديث الشريف " صوموا لرؤيته - أى الهلال - وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " أى فإن استتر وخفى عليكم الهلال وحال دون رؤيتكم له حائل من غيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما . أى أجمعوا ما تريدون جمعه لى من مكر وكيد واستعينوا على ذلك بشركائكم ثم لا يكن أمركم ، الذى أجمعتم على تنفيذه فيه شىء من الستر أو الخفاء أو الالتباس الذى يجعلكم مترددين فى المضى فيه أو متقاعسين عن مجاهرتى بما تريدون فعله معى . ومنهم من يرى أن كلمة { غُمَّةً } هنا بمعنى الغم كالكربة بمعنى الكرب أى ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم بسبب مقامى فيكم وتذكيرى إياكم بآيات الله . وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين فقال " فإن قلت ما معنى الأمرين أمرهم الذى يجمعونه وأمرهم الذى لا يكون عليهم غمة ؟ قلت أما الأمر الأول فالقصد إلى إهلاكه يعنى فاجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه ، وابذلوا وسعكم فى كيدى . وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده به ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا . وأما الثانى ففيه وجهان أحدهما أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم ، المكروهة عندهم . يعنى ثم أهلكونى لئلا يكون عيشكم بسببى غصة عليكم . وحالكم عليكم غمة . أى غما وهما . والغم والغمة كالكرب والكربة . وثانيهما أن يراد به ما أريد بالأمر الأول . والغمة السترة من غمة إذا ستره ، وفى الحديث " لا غمة في فرائض الله " أى لا تستر ولكن يجاهر بها . يعنى ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا عليكم . ولكن مكشوفا مشهورا تجاهروننى به " . وقوله { ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } زيادة فى تحديهم وإثارتهم . والقضاء هنا بمعنى الأداء ، من قولهم قضى المدين للدائن دينه ، إذا أداه إليه ، وقضى فلان الصلاة . أى أداها بعد مضى وقتها . أى ثم أدوا إلى ذلك الامر الذى تريدون أداءه من إيذائى أو إهلاكى بدون إنظار أو إمهال . ويصح أن يكون القضاء هنا بمعنى الحكم ، أى ثم احكموا على بما تريدون من أحكام ، ولا تتركوا لى مهلة فى تنفيذها ، بل نفذوها على فى الحال . فأنت ترى فى هذه الآية الكريمة كيف أن نوحا - عليه السلام - كان فى نهاية الشجاعة فى مخاطبته لقومه ، بعد أن مكث فيهم مكث وهو يدعوهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده . فهو - أولا - يصارحهم بأنه ماض فى طريقه الذى أمره الله بالمضى فيه ، وهو تذكيرهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له سواء أشق عليهم هذا التذكير أم لم يشق ، وأنه لا اعتماد له على أحد إلا على الله وحده . وهو - ثانيا - يتحداهم بأن يجمعوا أمرهم وأمر شركائهم وأن يأخذوا أهبتهم لكيده وحربه . وهو - ثالثا - يطالبهم بأن يتخذوا قراراتهم بدون تستر أو خفاء ، فإن الأمر لا يحتاج إلى غموض أو تردد ، لأن حاله معهم قد أصبح واضحا وصريحا . وهو - رابعا - يأمرهم بأن يبلغوه ما توصلوا إليه من قرارات وأحكام وأن ينفذوها عليه بدون تريث أو انتظار ، حتى لا يتركوا له فرصة للاستعداد للنجاة من مكرهم . وهكذا نرى نوحا - عليه السلام - يتحدى قومه تحديا صريحا مثيرا . حتى إنه ليغريهم بنفسه ، ويفتح لهم الطريق لإِيذائه وإهلاكه - إن استطاعوا ذلك - . وما لجأ - عليه السلام - إلى هذا التحدى الواضح المثير إلا لأنه كان معتمدا على الله - تعالى - الذى تتضاءل أمام قوته كل قوة وتتهاوا إزاء سطوته كل سطوة ويتصاغر كل تدبير وتقدير أمام تدبيره وتقديره . وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق للدعاة فى كل زمان تلك المواقف المشرفة لرسل الله - عليهم الصلاة والسلام - لكى يقتدوا بهم فى شجاعتهم ، وفى اعتمادهم على الله وحده ، وفى ثباتهم أمام الباطل مهما بلغت قوته ، واشتد جبروته . ومتى فعلوا ذلك ، كانت العاقبة لهم لأنه - سبحانه - تعهد أن ينصر من ينصره . ولنمض مع القصة حتى النهاية لنرى الدليل على ذلك فقد حكى - سبحانه - ما دار بين نوح وبين قومه بعد هذا التحدى السافر لهم فقال { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أى فإن أعرضتم - أيها الناس - عن قولى ، وعن تذكيرى إياكم بآيات الله بعد وقوفكم على أمرى وعلى حقيقة حالى . فما سألتكم من أجر ، أى فإنى ما سألتكم فى مقابل تذكيرى لكم ، أو دعوتى إياكم إلى الحق ، ومن أجر تؤدونه لى - { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } وحده ، فهو الذى يثيبنى على قولى وعملى وهو الذى يعطينى من الخير ما يغنينى عن أجركم وعطائكم وهو - سبحانه - الذى أمرنى { أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أى المنقادين لأمره . المتبعين لهديه ، المستسلمين لقضائه وقدره . ثم بين - سبحانه - العاقبة الطيبة التى آل إليها أمر نوح عليه السلام والعاقبة السيئة التى انتهى إليها حال قومه فقال { فَكَذَّبُوهُ } أى فكذب قوم نوح نبيهم نوحا بعد أن دعاهم إلى الحق ليلا ونهارا وسرا وعلانية . فماذا كانت نتيجة هذا التكذيب ؟ كانت نتيجته كما حكته السورة الكريمة { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ } أى فنجينا نوحا ومن معه من المؤمنين ، بأن أمرناهم أن يركبوا فى السفينة التى صنعوها بأمر الله ، حتى لا يغرقهم الطوفان الذى أغرق المكذبين . وقوله { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } أى وجعلنا هؤلاء الناجين خلفاء فى الأرض لأولئك المغرقين الذين كذبوا نبيهم نوحا - عليه السلام - وعموا وصموا عن الحق الذى جاءهم به ودعاهم إليه . هذه هى عاقبة نوح والمؤمنين معه أما عاقبة من كذبوه فقد بينها - سبحانه - فى قوله { وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أى وأغرقنا بالطوفان الذين كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا . { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ } أى فانظر وتأمل - أيها العاقل - كيف كانت نتيجة تكذيب هؤلاء المنذرين الذين لم تنفع معهم النذر والآيات التى جاءهم بها نبيهم نوح - عليه السلام - . فالمراد بالأمر بالنظر هنا التأمل والاتعاظ والاعتبار لا مجرد النظر الخالى عن ذلك . وهكذا نجد أن من العبر والعظات التى من أجلها ساق الله - تعالى - قصة نوح - عليه السلام - بهذه الصورة الموجزة هنا إبراز ما كان عليه نوح - عليه السلام - من شجاعة وقوة وهو يبلغ رسالة الله إلى الناس ، واعتماده التام على خالقه ، وتوكله عليه وحده وتحديه السافر للمكذبين الذين وضعوا العراقيل والعقبات فى طريق دعوته ، وتحريضه لهم بمثيرات القول على مهاجمته إن كان فى إمكانهم ذلك ومصارحته لهم بأنه فى غنى عن أموالهم لأن خالقه - سبحانه - قد أغناه عنهم ، وبيان أن سنة الله لا تتخلف ولا تتبدل وهذه السنة تتمثل فى أنه - سبحانه - قد جعل حسن العاقبة للمؤمنين وسوء العاقبة للمكذبين . ثم حكت السورة الكريمة أن الله - تعالى - قد أرسل رسلا كثيرين بعد نوح - عليه السلام - فكان موقف أقوامهم منهم مشابها لموقف قوم نوح منه ، فقال - تعالى - { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ … } .