Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 75-78)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { ثُمَّ بَعَثْنَا … } معطوف على ما قبله وهو قوله ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ … من باب عطف القصة على القصة ، وهو من قبيل عطف الخاص على العام ، لما فى هذا الخاص من عبر وعظات . والمعنى ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الكرام الذين جاءوا لأقوامهم بالأدلة والبينات . { مُّوسَىٰ وَهَارُونَ } عليهما السلام … { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ } الذى قال لقومه " أنا ربكم الأعلى " وإلى { ملئه } أى خاصته وأشراف مملكته وأركان دولته ، ولذلك اقتصر عليهم ، لأن غيرهم كالتابع لهم . { بِآيَاتِنَا } أى بعثناهما إليهم مؤيدين بآياتنا ، الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا وعلى صدقهما فيما يبلغانه عنا من هدايات وتوجيهات . ويرى كثير من المفسرين أن المراد بقوله { بِآيَاتِنَا } الآيات التسع التى جاء ذكرها فى قوله تعالى فى سورة الإِسراء { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ … } قال الجمل " وتقدم فى الأعراف منها ثمانية ، ثنتان فى قوله - تعالى - { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } وقوله { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } وواحدة فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } وخمسة فى قوله - تعالى - { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ … } والتاسعة فى هذه السورة - سورة يونس - فى قوله - تعالى - { رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ } ثم بين - سبحانه - موقف فرعون وملئه من دعوة موسى لهم فقال { فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } . والاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق ، والفاء فصيحة ، والتقدير ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى وهارون إلى فرعون وملئه ، فأتياهم ليبلغاهم دعوة الله ، ويأمراهم بإخلاص العبادة له ، فاستكبروا عن طاعتهما ، وأعجبوا بأنفسهم ، وكانوا قوما شأنهم وديدنهم الإِجرام ، وهو ارتكاب ما عظم من الذنوب ، وقبح من الأفعال . ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة " فاستكبروا عن قبولها ، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ، ويتعظموا عن تقبلها " . ثم بين - سبحانه - ما تفوهوا به من أباطيل عندما جاءهم موسى بدعوته فقال { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } . أى فلما وصل إليهم الحق الذى جاءهم به موسى - عليه السلام - من عندنا لا من غيرنا { قالوا } على سبيل العناد والحقد والغرور { إِنَّ هَـٰذَا } الذى جئت به يا موسى { لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } أى لسحر واضح ظاهر لا يحتاج إلى تأمل أو تفكير . والتعبير بقوله { جَآءَهُمُ } يفيد أن الحق قد وصل إليهم بدون تعب منهم ، فكان من الواجب عليهم - لو كانوا يعقلون - أن يتقبلوه بسرور واقتناع . وفى قوله { مِنْ عِندِنَا } تصوير لشناعة الجريمة التى ارتكبوها فى جانب الحق ، الذى جاءهم من عند الله - تعالى - لا من عند غيره . والمراد بالحق هنا الآيات والمعجزات التي جاءهم بها موسى - عليه السلام - لتكون دليلا على صدقه فيما يبلغه عن ربه . وقولهم - كما حكى القرآن عنهم - { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } بالقسم المؤكد يدل على تبجحهم الذميم ، وكذبهم الأثيم ، حيث وصفوا الحق الذى لا باطل معه بأنه سحر واضح ، وهكذا عندما تقسو القلوب وتفسق النفوس ، تتحول الحقائق فى زعمها إلى أكاذيب وأباطيل . ثم حكى القرآن الكريم رد موسى - عليه السلام - على مفترياتهم فقال { قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـٰذَا وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ } . وفى الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام ، والتقدير قال موسى لفرعون وملئه منكرا عليهم غرورهم وكذبهم ، { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ } الذى هو أبعد ما يكون عن السحر ، حين مشاهدتكم له . أتقولون عنه { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } . يا سبحان الله ! ! أفلا عقل لكم يحجزكم عن هذا القول الذى يدل على الجهالة والغباء ، انظروا وتأملوا { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } الذى ترون حقيقته بأعينكم ، وترتجف من عظمته قلوبكم ، والحال أنه { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ } فى أى عمل من شأنه أن يهدى إلى الخير والحق . فقد حذفت جملة { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } لدلالة قوله { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } عليه . قال صاحب الكشاف " فإن قلت هم قطعوا بقولهم إن هذا لسحر مبين ، على أنه سحر فكيف قيل لهم أتقولون أسحر هذا ؟ قلت فيه أوجه أن يكون معنى قوله { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ } أتعيبونه وتطعنون فيه ، وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، من قولهم فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول ، إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه . وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } كأنه قيل أتقولون ما تقولون يعنى قولهم إن هذا لسحر مبين ، ثم قيل أسحر هذا ؟ وأن يكون جملة قوله " أسحر هذا ولا يفلح الساحرون " حكاية لكلامهم ، كأنهم قالوا أجئتما إلينا بالسحر تطلبان به الفلاح { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ … } . وقال الجمل " قوله - تعالى - { قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ … } أى قال جملا ثلاثة الأولى { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } والثانية { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } والثالثة { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ } . وقوله { الحق } أى فى شأنه ولأجله ، وقوله { لَمَّا جَآءَكُمْ } أى حين مجيئه إياكم من أول الأمر من غير تأمل وتدبر ، وهذا مما ينافى القول المذكور . وقوله { قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } هنا مقول القول محذوف لدلالة ما قبله عليه ، وإِشارة إلى أنه لا ينبغى أن يتفوه به . وقوله - سبحانه - حكاية عن موسى { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } مبتدأ وخبر ، وهو استفهام إنكار مستأنف من جهته - عليه السلام - تكذيبا لقولهم ، وتوبيخا إثر توبيخ ، وتجهيلا بعد تجهيل " . وقوله { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ } جملة حالية من ضمير المخاطبين ، وقد جئ بها تأكيدا للإِنكار السابق ، وما فيه من معنى التوبيخ والتجهيل . أى أتقولون للحق إنه سحر ، والحال أنه لا يفلح فاعله ، أى لا يظفر بمطلوب ، ولا ينجو من مكروه ، وأنا قد أفلحت ، وفزت بالحجة ، ونجوت من الهلكة . ثم كشف القرآن الكريم عن حقيقة الدوافع التي جعلتهم يصفون الحق بأنه سحر مبين فقال - تعالى - { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } . واللفت الصرف واللى يقال لفته يلفته لفتا ، أى صرفه عن وجهته إلى ذات اليمين أو الشمال . أى قال فرعون وملؤه لموسى - عليه السلام - بعد أن جاءهم بالحق المبين أجئتنا يا موسى بما جئتنا به { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أى لتصرفنا عن الدين الذى وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لك ولأخيك هارون { ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ } أى السيادة والرياسة والزعامة الدينية والدنيوية فى الأرض بصفة عامة ، وفى أرض مصر بصفة خاصة . ثم أكدوا إنكارهم لما جاءهم به موسى - عليه السلام - من الدين الحق فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أى وما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به ، لأن تصديقنا لكما يخرجنا عن الدين الذى وجدنا عليه آباءنا ، وينزع منا ملكنا الذى تتمتع بكبريائه خاصتنا ، وتعيش تحت سلطانه وقهره عامتنا . وأفردوا موسى - عليه السلام - بالخطاب فى قولهم { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا … } لأنه هو الذى كان يجابههم بالحجج التى تقطع دابر باطلهم ، ويرد على أكاذيبهم بما يفضحهم ويكشف عن غرورهم وغبائهم . وجمعوا بين موسى وهارون - عليهما السلام - فى قولهم { وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } باعتبار شمول الكبرياء والرياسة والملك لهما ، وباعتبار أن الإِيمان بأحدهما يستلزم الإِيمان بالآخر . هذا ، والذى يتدبر هذه الآية الكريمة ، يرى أن التهمة التى وجهها فرعون وملؤه إلى موسى وهارون - عليهما السلام - هى تهمة قديمة جديدة فقوم نوح - مثلا - يمتنعون عن قبول دعوته ، لأنه فى نظرهم جاء بما جاء به بقصد التفضل عليهم ، وفى هذا يقول القرآن الكريم { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أى يريد أن تكون له السيادة والفضل عليكم ، فيكون زعيما وأنتم له تابعون . ولقد أفاض فى شرح هذا المعنى صاحب الظلال - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال ما ملخصه وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة ، التى يقوم عليها نظامهم السياسى والاقتصادى ، وهو الخوف على السلطان فى الأرض ، هذا السلطان الذى يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة . إنها العلة القديمة الجديدة التى تدفع بالطغاة إلى مقاومة دعوات الإِصلاح ورمى الدعاة بأشنع التهم والفجور فى مقاومة الدعوات والدعاة … إنها هى " الكبرياء فى الأرض " وما تقوم عليه من معتقدات باطلة ، يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة فى قلوب الجماهير ، بكل ما فيها من زيف وفساد ، وأوهام وخرافات ، لأن تفتح القلوب على العقيدة الصحيحة ، خطر على القيم الجاهلية الموروثة . وما كان رجال من أذكياء قريش - مثلا - ليخطئوا إدراك ما فى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من صدق وسمو ، وما فى عقيدة الشرك من تهافت وفساد ، ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة ، القائمة على ما فى تلك العقيدة من خرافات وتقاليد ، كما خشى الملأ من قوم فرعون على سلطانهم فى الأرض ، فقالوا متبجحين { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } . ثم حكت الآيات الكريمة بعد ذلك ما طلبه فرعون من ملئه ، وما دار بين موسى - عليه السلام - وبين السحرة من محاورات فقال - تعالى - { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ٱئْتُونِي … } .