Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 83-87)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الجمل " قوله - سبحانه - { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ … } . لما ذكر الله - تعالى - ما أتى به موسى - عليه السلام - من المعجزات العظيمة الباهرة ، أخبر - سبحانه - أنه مع مشاهدة هذه المعجزات ، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه . وإنما ذكر الله هذا تسلية لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه ، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإِيمان به ، واستمرارهم على الكفر والتكذيب ، فبين الله له أن له أسوة بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - . لأن ما جاء به موسى من المعجزات ، كان أمرا عظيما . ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه " . والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يدل عليه السياق ، والتقدير لقد أتى موسى - عليه السلام - بالمعجزات التى تشهد بصدقه ، والتى على رأسها ، أن ألقى عصاه فإذا هى تبتلع ما فعله السحرة ، ومع كل تلك البراهين الدالة على صدقه ، فما آمن به إلا ذرية من قومه . والمراد بالذرية هنا العدد القليل من الشباب ، الذين آمنوا بموسى ، بعد أن تخلف عن الإِيمان آباؤهم وأغنياؤهم . قال الآلوسى قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } أى إلا أولاد بعض بنى إسرائيل حيث دعا - عليه السلام - الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، وأجابته طائفة من شبابهم فالمراد من الذرية الشبيان لا الأطفال . والضمير فى قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود لموسى - عليه السلام - وعليه يكون المعنى فما آمن لموسى - عليه السلام - فى دعوته إلى وحدانية الله ، إلا عدد قليل من شباب قومه بنى إسرائيل ، الذين كانوا يعيشون فى مصر ، والذين كان فرعون يسومهم سوء العذاب ، أما آباؤهم وأصحاب الجاه فيهم ، فقد انحازوا إلى فرعون طمعا فى عطائه ، وخوفا من بطشه بهم . ويرى بعض المفسرين أن الضمير فى قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود إلى فرعون لا إلى موسى . فيكون المعنى فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قوم فرعون . قال ابن كثير ما ملخصه مرجحا هذا الرأى " يخبر الله - تعالى - أنه لم يؤمن بموسى - عليه السلام - مع ما جاء به الآيات والحجج ، إلا قليل من قوم فرعون ، من الذرية - وهم الشباب - ، على وجل وخوف منه ومن ملئه . قال العوفى عن ابن عباس " إن الذرية التى آمنت لموسى من قوم فرعون منهم امرأته ، ومؤمن آل فرعون ، وخازنه ، وامرأة خازنه " . ثم قال " واختار ابن جرير قول مجاهد فى الذرية ، أنها من بنى إسرائيل ، لا من قوم فرعون . لعود الضمير على أقرب مذكور . وفى هذا نظر ، لأن من المعروف أن بنى إسرائيل كلهم آمنوا بموسى . واستبشروا به ، فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به . وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل ؟ " . والذى نراه أن ما اختاره ابن جرير من عودة الضمير إلى موسى - عليه السلام - أرجح ، لأن هناك نوع خفاء فى إطلاق كلمة الذرية على من آمن من قوم فرعون ، ومنهم زوجته ، وامرأة خازنه . ولأنه لا دليل على أن بنى إسرائيل كلهم قد آمنوا بموسى ، بل الحق أن منهم من آمن به ومنهم من كفر به ، كقارون والسامرى وغيرهما . ولأن رجوع الضمير إلى موسى - هو الظاهر المتبادر من الآية ، لأنه أقرب مذكور ، وليس هناك ما يدعو إلى صرف الآية الكريمة عن هذا الظاهر . ورحم الله ابن جرير فقد قال فى ترجيحه لما ذهب إليه من عودة الضمير إلى موسى - عليه السلام - ما ملخصه وأولى هذه الأقوال عندى بتأويل الآية ، القول الذى ذكرته عن مجاهد وهو أن الذرية فى هذا الموضع ، أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بنى إسرائيل ، وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب ، لأنه لم يجر فى هذه الآية ذكر لغير موسى ، فلأن تكون الهاء فى قوله { مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها . ولأن فى قوله { عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } الدليل الواضح على أن الهاء فى قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لا من ذكر فرعون ، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه ، ولم يكن على خوف من فرعون … " . وقوله { عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ … } حال من كلمة { ذرية } و { على } هنا بمعنى مع . والضمير فى قوله { وَمَلَئِهِمْ } يعود إلى ملأ الذرية ، وهم كبار بنى إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا فى عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى - عليه السلام - . والمعنى فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قومه ، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم ، أى يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى - عليه السلام . والضمير فى { يفتنهم } يعود إلى فرعون خاصة ، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كانوا يأتمرون بأمره ، وينتهون عن نهيه ، فهم كالآلة فى يده يصرفها كيف يشاء . وجملة { أَن يَفْتِنَهُمْ } فى تأويل مصدر ، بدل اشتمال من فرعون ، أى على خوف من فرعون فتنته . وقوله { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما قبله ، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه . أى وإن فرعون المتكبر متجبر فى أرض مصر كلها ، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد فى الظلم والبغى وادعاء ما ليس له . والمتجبرون والمسرفون يحتاجون فى مقاومتهم إلى إيمان عميق ، واعتماد على الله وثيق ، وثبات يزيل المخاوف ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة ، ولذا قال موسى لأتباعه المؤمنين { يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } . أى قال موسى لقومه تطمينا لقلوبهم ، وقد رأى الخوف من فرعون يعلو وجوه بعضهم يا قوم { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ } حق الإِيمان ، وأسلمتم وجوهكم له حق الإِسلام فعليه وحده اعتمدوا ، وبجنابه وحده تمسكوا ، فإن من توكل على الله واتجه إليه ، كان الله معه بنصره وتأييده . ثم حكى القرآن الكريم جوابهم الذى يدل على صدق يقينهم فقال { فَقَالُواْ } أى مجيبين لنصيحة نبيهم { عَلَىٰ ٱللَّهِ } وحده لا على غيره { تَوَكَّلْنَا } واعتمدنا وفوضنا أمورنا إليه . { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أى يا ربنا لا تجعلنا موضوع فتنة وعذاب للقوم الظالمين . بأن تمكنهم منا فيسوموننا سوء العذاب ، وعندئذ يعتقدون أنهم على الحق ونحن على الباطل ، لأننا لو كنا على الحق - فى زعمهم - لما تمكنوا منا ، ولما انتصروا علينا . ثم أضافوا إلى هذا دعاء آخر ، أكثر صراحة من سابقه فى المباعدة بينهم وبين الظالمين فقالوا { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } . أى نحن لا نلتمس منك يا مولانا ألا تجعلنا فتنة لهم فقط ، بل نلتمس منك - أيضا - أن تنجينا من شرور القوم الكافرين ، وأن تخلصنا من سوء جوارهم ، وأن تفرق بيننا وبينهم كما فرقت بين أهل المشرق وأهل المغرب . قال الإِمام الشوكانى " وفى هذا الدعاء الذى تضرعوا به إلى الله - دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم " . وبعد هذا الدعاء المخلص ، وجه الله - تعالى - نبيه موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - إلى ما يوصل إلى نصرهما ونصر أتباعهما فقال - تعالى - { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً … } وقوله { تبوءا } من التبؤ وهو اتخاذ المباءة أى المنزل ، كالتوطن بمعنى اتخاذ الوطن . يقال بوأته وبوأت له منزلا إذا أنزلته فيه ، وهيأته له . والمعنى وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون بعد أن لج فرعون فى طغيانه وفى إنزال العذاب بالمؤمنين - أن اتخذا لقومكما المؤمنين بيوتا خاصة بهم فى مصر ، ينزلون بها ، ويستقرون فيها ، ويعتزلون فرعون وجنده ، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا . وقوله { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أى واجعلوا هذه البيوت التى حللتم بها مكانا لصلاتكم وعبادتكم ، بعد أن حال فرعون وجنده بينكم وبين أداء عباداتكم فى الأماكن المخصصة لذلك . قال القرطبى " المراد صلوا فى بيوتكم سرا لتأمنوا ، وذلك حين أخافهم فرعون ، فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد فى البيوت ، والإِقدام على الصلاة ، والدعاء ، إلى أن ينجز الله وعده ، وهو المراد بقوله { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ } وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا فى البيع والكنائس ما داموا على أمن ، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا فى بيوتهم … " . وقوله { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } أى داوموا عليها ، وأدوها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص ، فإن فى أدائها بهذه الصورة . وسيلة إلى تفريج الكروب ، وفى الحديث الشريف " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حز به أمر صلى " . وقوله { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } تذييل قصد به بعث الأمل فى نفوسهم متى أدوا ما كلفوا به . أى وبشر المؤمنين بالنصر والفلاح فى الدنيا ، وبالثواب الجزيل فى الآخرة . قال صاحب الكشاف " فإن قلت كيف نوع الخطاب فثنى أولا ، ثم جمع ، ثم وحد آخرا ؟ قلت " خوطب موسى وهارون - عليهما السلام - أن يتبوآ لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء . ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور . ثم خص موسى - عليه السلام - بالبشارة التى هى الغرض تعظيما لها ، وللمبشر بها " . ولأن بشارة الأمة - كما يقول الآلوسى - وظيفة صاحب الشريعة ، وهى من الأعظم أَسَرُّ وأوقع فى النفس . هذا ، ومن التوجيهات الحكيمة التى نأخذها من هذه الآية الكريمة ، أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح ، أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان ، إذا لم تنفع معهم النصيحة ، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة ، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة ، وعلى الأخوة الخالصة ، وأن يجعلوا توكلهم على الله وحده { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } ثم حكى القرآن الكريم بعد ذلك ، ما تضرع به موسى - عليه السلام - إلى الله - تعالى - من دعوات خاشعات ، بعد أن يئس من إيمان فرعون وملئه فقال - سبحانه - { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ … }