Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 108-115)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الفخر الرازى اعلم أنه - تعالى - لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول صلى الله عليه وسلم - أحوال الكفار من قومه فقال { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ … } والمعنى فلا تكن ، إلا أنه حذف النون لكثرة الاستعمال ، ولأن حرف النون إذا وقع على طرف الكلام ، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرد الغنة ، فلا جرم أسقطوه … " . والمرية بكسر الميم - الشك المتفرع عن محاجة ومجادلة بين المتخاصمين . والمعنى لقد قصصنا عليك أيها الرسول الكريم الكثير من أخبار السابقين وبينا لك مصير السعداء والأشقياء … وما دام الأمر كذلك ، فلا تك فى شك من أن عبادة هؤلاء المشركين لأصنامهم إنما هى تقليد لما كان يعبده آباؤهم من قبل ، وهذه العبادة لغير الله - تعالى - ستؤدى بالجميع إلى سوء العاقبة وإلى العذاب الأليم . والخطاب وإن كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التسلية والتثبيت ، إلا أن التحذير فيه يندرج تحته كل من يصلح للخطاب . وهذا الأسلوب كثير ما يكون أوقع فى النفس ، وأشد تأثيراً فى القلب ، لأنه يشعر المخاطب بأن ما بينه الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من قبيل القضايا الموضوعية التى لا تحتاج إلى جدال مع أحد ، ومن جادل فيها فإنما يجادل فى الحق الواضح بدافع الحسد والعناد ، لأن الواقع يشهد بصحة ما بينه الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وجملة { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ } مستأنفة ، لبيان أن الخلف قد ساروا فى الجهالة والجحود على طريقة السلف . وعبر عن عبادة الآباء بالمضارع ، مع أنها كانت فى الماضى بقرينة { مِّن قَبْلُ } . للدلالة على استمرارهم على هذه العبادة الباطلة حتى موتهم ، وأن أبناءهم لم ينقطعوا عنها ، بل واصلوا السير على طريق آبائهم الضالين بدون تفكر أو تدبر . والمضاف إليه فى قوله { مِّن قَبْلُ } محذوف ، والتقدير من قبلهم . وقوله { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } تذييل قصد به تأكيد العقاب الذى سينزل بهم فى الآخرة بسبب عبادتهم لغير الله . وموفوهم من التوفية ، وهى إعطاء الشئ كاملا بدون نقص . والمراد بالنصيب هنا المقدار المعد لهم من العذاب ، وسماه نصيبا على سبيل التهكم بهم . أى وإنا لمعطو هؤلاء الذين نهجوا منهج آبائهم فى عبادة غير الله ، نصيبهم وحظهم من عذاب الآخرة كاملا بدون إنقاص شئ منه ، كما ساروا هم على طريقة سلفهم فى الضلال دون أن يغيروا شيئا منها … ومنهم من جعل المراد بالنصيب هنا ما يشمل الجزاء على الأعمال الدنوية والأخروية . قال صاحب المنار " أى ، وإنا لمعطوهم نصيبهم من جزاء أعمالهم فى الدنيا والآخرة وافيا تاما لا ينقص منه شئ ، كما وفينا آباءهم الأولين من قبل ، فإنه ما من خير يعمله أحد منهم كبِِرِّ الوالدين وصلة الأرحام … إلا ويوفيهم الله جزاءهم عليه فى الدنيا بسعة الرزق ، وكشف الضر جزاء تاما ، لا ينقصه شئ يجزون عليه فى الآخرة … " . ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن سياق الآية الكريمة يؤيده إذ الكلام فيها فى شأن جزاء الذين ساروا على نهج آبائهم فى الضلال ، وليس فى بيان الجزاء العام فى الدنيا والآخرة . ثم بين - سبحانه - أن اختلاف الناس فى الحق موجود قبل بعثة النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ … } . أى كما اختلف قومك - أيها الرسول الكريم - فى شأن القرآن الكريم فمنهم من وصفه بأنه أساطير الأولين ، فقد اختلف قوم موسى من قبلك فى شأن التوراة التى أنزلها الله على نبيهم موسى لهدايتهم ، إذ منهم من آمن بها ومنهم من كفر … وما دام الأمر كذلك ، فلا تحزن - أيها الرسول الكريم - لاختلاف قومك فى شأن القرآن الكريم ، فإن هذا الاختلاف شأن الناس فى كل زمان ومكان والمصيبة إذا عمت خفت . فالجملة الكريمة تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من مشركى قومه . وجاء الفعل { اختلف } بصيغة المبنى للمجهول ، لأن ذكر فاعل الاختلاف لا يتلعق به غرض ، وإنما الذى يتعلق به الغرض هو ما نجم عن هذا الاختلاف من كفر وضلال . ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله ورحمته بخلقه فقال { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ … } . والمراد بالكلمة التى سبقت تأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة ، وعدم إهلاكهم بعذاب الاستئصال فى الدنيا . قال الشوكانى قوله - سبحانه - { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ … } أى لولا أن الله - تعالى - قد حكم بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لما علم فى ذلك من الصلاح ، لقضى بينهم ، أى بين قومك ، أو بين قوم موسى ، فيما كانوا فيه مختلفين ، فأثيب المحق وعذب المبطل ، أو الكلمة هى أن رحمته سبحانه سبقت غضبه ، فأمهلهم ولم يعاجلهم لذلك . وقيل إن الكلمة هى أنهم لا يعذبون بعذاب الاستئصال ، وهذا من جملة التسلية له - صلى الله عليه وسلم - " . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } . والمريب اسم فاعل من أراب . يقال أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة والحيرة . أى وإن هؤلاء المختلفين فى شأن الكتاب لفى شك منه ، وهذا الشك قد أوقعهم فى الريبة والتخبط والاضطراب . وهذا شأن المعرضين عن الحق ، لا يجدون مجالا لنقده وإنكاره ، فيحملهم عنادهم وجحودهم على التشكيك فيه ، وتأويله تأويلا سقيما يدعو إلى الريبة والقلق . وبعض المفسرين يرى عودة الضمير فى قوله { وإنهم } إلى قوم موسى ، وفى قوله { منه } إلى كتابهم التوراة . وبعضهم يرى عودة الضمير الأول إلى قوم النبى - صلى الله عليه وسلم - والثانى إلى القرآن الكريم . والذى يبدو لنا أن الرأى الأول أظهر فى معىن الآية ، لأن الكلام فى موسى - عليه السلام - وقومه الذين اختلفوا فى شأن كتابهم التوراة اختلافا كبيرا ، وعود الضمير إلى المتكلم عنه أولى بالقبول . وهذا لا يمنع أن بعض المكذبين للرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا فى شك من القرآن ، أوقعهم هذا الشك فى الريبة والحيرة . فتكون الجملة الكريمة من باب التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما قاله بعض المشركين فى شأن القرآن الكريم . ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المختلفين فى شأن الكتاب ، الشاكين فى صدقه ، سوف يجمعهم الله - تعالى - مع غيرهم يوم القيامة للجزاء والحساب على أعمالهم فقال - تعالى - { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } . وقد وردت فى هذه الآية الكريمة عدة قراءات متواترة منها قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد ، إن ولما ، وقد قيل فى تخريجها إن لفظ ، { كلا } ، اسم { إن } ، والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، واللام فى ، { لما } ، هى الداخلة فى خبر { إن } وما بعد اللام هو حرف " من " الذى هو من حروف الجر ، و " ما " موصولة أو نكره موصوفة والمراد بها من يعقل ، فيكون تقدير الكلام وإن كلا " لمن ما " ، فقلبت النون ميما للإِدغام فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت واحدة منها للتخفيف ، فصارت " لما " والجار والمجرور خبر " إن " ، واللام فى { ليوفينهم } ، جواب قسم مضمر ، والجملة صلة أو صفة { لما } . والتقدير وإن كلا من أولئك المختلفين وغيرهم لمن خلق الله الذين هم بحق ربك ليوفينهم - سبحانه - جزاء أعمالهم دون أن يفلت منهم أحد ، إنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ منها . وفى الآية الكريمة توكيدات متنوعة ، حتى لا يشك فى نزول العذاب بالظالمين مهما تأجل ، وحتى لا يشك أحد - أيضا - فى أن ما عليه المشركون هو الباطل الذى لا يعرفه الحق ، وأنه الكفر الذى تلقاه الخلف عن السلف . وكان مقتضى حال الدعوة الإِسلامية فى تلك الفترة التى نزلت فيها هذه السورة - وهى فترة ما بعد حادث الإِسراء والمعراج وقبل الهجرة - يستلزم هذه التأكيدات تثبيتا لقلوب المؤمنين ، وتوهينا للشرك والمشركين . قال الإِمام الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه سمعت بعض الأفاضل قال إنه - تعالى - لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين فى هذه الآية ، ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات أولها كلمة " إن " وهى للتأكيد ، وثانيها كلمة " كل " وهى أيضا للتأكيد ، وثالثها اللام الداخلة على خبر " إن " وهى تفيد التأكيد - أيضا - ، ورابعها حرف " ما " إذا جعلناه على قول الفراء موصولا ، وخامسها القسم المضمر فإن تقدير الكلام وإن جميعهم والله ليوفينهم وسادسها اللام الثانية الداخلة على جواب القسم ، وسابعها النون المؤكدة فى قوله " ليوفينهم " . فجميع هذه المؤكدات السبعة تدل على أن أمر القيامة والحساب والجزاء حق … " ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه بالتزام الصراط المستقيم فقال - سبحانه - { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . والفاء للتفريع على ما تقدم من الأوامر والنواهى . والاستقامة - كما يقول القرطبى - هى الاستمرار فى جهة واحدة من غير أخذ فى جهة اليمين والشمال … " والطغيان مجاوزة الحد . ومنه طغى الماء ، أى ارتفع وتجاوز الحدود المناسبة . والمعنى لقد علمت - أيها الرسول الكريم - حال السعداء وحال الأشقياء ، وعرفت أن كل مكلف سيوفى جزاء أعماله . وما دام الأمر كذلك فالزم أنت ومن معك من المؤمنين طريق الاستقامة على الحق ، وداوموا على ذلك كما أمركم الله ، بدون إفراط أو تفريط ، واحذروا أن تتجاوزوا حدود الاعتدال فى كل أقوالكم وأعمالكم . ووجه - سبحانه - الأمر بالاستقامة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تنويها بشأنه ، وليبنى عليه قوله - { كَمَآ أُمِرْتَ } ، فيشير بذلك إلى أنه - عليه الصلاة والسلام - هو وحده المتلقى للأوامر الشرعية من الله - تعالى - . وقد جمع قوله - تعالى - { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } أصول الإِصلاح الدينى وفروعه ، كما جمع قوله - تعالى - " ولا تطغوا " أصول النهى عن المفاسد وفروعه ، فكانت الآية الكريمة بذلك جامعة لإِقامة المصالح ولدرء المفاسد . قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه يأمر الله - تعالى - رسوله وعباده المؤمنين فى هذه الآية بالثبات والدوام على الاستقامة ، لأن ذلك من العون على النصر على الأعداء ، وينهاهم عن الطغيان وهو البغى ، لأنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك " . وقال الآلوسى والاستقامة كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق . أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال ، لما نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم - " شمروا شمروا ، وما رؤى بعد ضاحكا " . وعن ابن عباس قال " ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية أشد من هذه الآية ولا أشق " . وفى صحيح مسلم عن سفيان " عن عبد الله الثقفى قال قلت يا رسول الله ، قل لى فى الإِسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك . قال " قل آمنت بالله ثم استقم " . وجملة { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تعليل للأمر بالاستقامة وللنهى عن الطغيان . أى الزموا المنهج القويم ، وابتعدوا عن الطغيان ، لأنه - سبحانه - مطلع على أعمالكم اطلاع المبصر ، العليم بظواهرها وبواطنها ، وسيجازيكم يوم القيامة عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب . ثم نهى - سبحانه - بعد ذلك عن الميل إلى الظالمين فقال { وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } . والركون إلى الشئ الميل إليه . يقال ركن فلان إلى فلان ، إذا مال إليه بقلبه ، واعتمد عليه فى قضاء مصالحه . والمراد بالذين ظلموا هنا ما يتناول المشركين وغيرهم من الظالمين الذين يعتدون على حقوق الغير ، ويستحلون من محارم الله . والمعنى واحذروا - أيها المؤمنون - أن تميلوا إلى الظالمين ، أو تسكنوا إليهم لأن ذلك يؤدى إلى تقوية جانبهم . وإضعاف جانب الحق والعدل . قال بعض العلماء ويستثنى من ذلك للضرورة صحبة الظالم على التقية مع حرمة الميل القلبى إليه . وقوله { فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ } أى فتصيبكم النار بسبب ميلكم إليهم ، والاعتماد عليهم ، والرضا بأفعالهم . وقوله { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } فى موضع الحال من ضمير { تمسكم } . أى والحال أنه ليس لكم من غير الله من نصراء ينصرونكم من العذاب النازل بكم ، بسبب ركونكم إلى الذين ظملوا ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم . وثم فى قوله { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } للتراخى الرتبى . أى ثم لا تجدون بعد ذلك من ينصركم بأى حال من الأحوال ، لأن الظالمين ما لهم من أنصار . قال بعض العلماء الآية أبلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم ، والتهديد عليه ، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى الذين ظلموا فكيف يكون حال من ينغمس فى حمأته ؟ ! ! ثم قال وقد وسع العلماء فى ذلك وشددوا ، والحق أن الحالات تختلف ، والأعمال بالنيات ، والتفصيل أولى . فإن كانت المخالطة لدفع منكر ، أو للاستعانة على إحقاق الحق ، أو الخير . فلا حرج فى ذلك . وإن كانت لإِيناسهم وإقرارهم على ظلمهم فلا … " ثم أرشد - سبحانه - عباده المؤمنين إلى ما يعينهم على الاستقامة وعلى عدم الركون إلى الظالمين ، فقال { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ } . والمراد بإقامتها الإِتيان بها فى أوقاتها كاملة الأركان والخشوع والإِخلاص لله رب العالمين . والمراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة . قال القرطبى لم يختلف أحد من أهل التأويل فى أن الصلاة فى هذه الآية ، المراد بها الصلوات المفروضة . وخصها بالذكر لأنها ثانية أركان الإِسلام ، وإليها يفزع فى النوائب ، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - " إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة " . وطرفى النهار أى أول النهار وآخره ، لأن طرف الشئ منتهاه من أوله أو من آخره . والنهار يتناول ما بين مطلع الفجر إلى غروب الشمس . سمى بذلك لأن الضياء ينهر فيه أى يبرز كما يبرز النهر . والصلاة التى تكون فى هذين الوقتين ، تشمل صلاة الغداة وهى صلاة الصبح ، وصلاة العشى وهى صلاة الظهر والعصر ، لأن لفظ العشى يكون من الزوال إلى الغروب . وقيل الصلاة التى تكون فى هذين الوقتين هى صلاة الصبح والمغرب . وقوله { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيلِ } معطوف على طرفى النهار . والزلف جمع زلفة كغرف وغرفة - والمراد بها الساعات القريبة من آخر النهار ، إذا الإِزلاف معناه القرب ومنه قوله - تعالى - { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ … } أى قربت منهم . وتقول أزلفنى فلان منه أى قربنى . فمعنى { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } طائفة من أوله . وصلاة الزلف تطلق على صلاتى المغرب والعشاء قال ابن كثير ما ملخصه وقوله { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } يعنى صلاة المغرب والعشاء . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هما زلفتا الليل المغرب والعشاء " . ويحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإِسراء ، فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها ، وفى أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة ، ثم نسخ فى حق الأمة ، وثبت وجوبه عليه ، ثم نسخ عنه أيضا فى قول " . وجملة { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } مسوقة مساق التعليل للأمر بإقامة الصلاة ، وأكدت بحرف { إن } للاهتمام وتحقيق الخبر ، والحسنات صفة لموصوف محذوف ، وكذلك السيئات . والمعنى إن الأعمال الحسنة - كالصلاة والزكاة والصيام والحج ، والاستغفار … يذهبن الأعمال السيئات ، أى يذهبن المؤاخذة عليها ، ويذهبن الاتجاه إليها ببركة المواظبة على الأعمال الحسنة . والمراد بالسيئات هنا صغار الذنوب ، لقوله - تعالى - { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } ولقوله - تعالى - { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ … } ولأن كبائر الذنوب لا تكفرها إلا التوبة الصادقة . وقوله { ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ } أى ذلك الذى أمرناك به من وجوب إقامة الصلاة ، ومن الاستقامة على أمر الله … فيه التذكرة النافعة ، لمن كان شأنه التذكر والاعتبار ، لا الإِعراض والعناد . وهذه الآية الكريمة من الآيات التى قال عنها بعض المفسرين بأنها مدنية ، وقد ذكرنا فى التمهيد بين يدى السورة ، أن سورة هود ترجح أنها كلها مكية ، وليس فيها آيات مدنية . ومما يؤيد أن هذه الآية مكية أنها مسوقة مع ما سبقها من آيات لتسلية النبى - صلى الله عليه وسلم - ولإِرشاده وأتباعه إلى ما يعينهم على الاستقامة ، وعدم الركون إلى الظالمين . ولأن بعض الروايات التى وردت فى شأنها لم تذكر أنها نزلت فى المدينة ، بل ذكرت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلاها على السائل ، ومن هذه الروايات ما رواه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى وابن جرير - وهذا لفظه - عن ابن مسعود قال " جاء رجل إلى البني - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إنى وجدت امرأة فى بستان ، ففعلت بها كل شئ ، غير أنى لم أجامعها ، فافعل بى ما شئت ، فلم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ، فذهب الرجل ، فقال عمر لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ، فأتبعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصره ثم قال ردوه على فردوه عليه فقرأ عليه { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ … } الآية ، فقال معاذ - وفى رواية عمر - يا رسول الله ، أله وحده أم للناس كافة ؟ فقال بل للناس كافة " والروايات التى ورد فيها فأنزل عليه هذه الآية ، فى الإِمكان أن تؤول أن المراد أنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضية السائل ، لجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب سوى الكبائر . هذا ، ثم ختم - سبحانه - هذه التوجيهات الحكيمة بقوله { وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } . أى واصبر أيها الرسول الكريم أنت ومن معك من المؤمنين على مشاق التكاليف التى كلفكم الله - تعالى - بها ، فإنه - سبحانه - لا يضيع أجر من أحسن عملا ، بل موفى الصابرين أجرهم بغير حساب . قال الآلوسى ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبى - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت عامة فى المعنى ، والمناهى جمعت للأمة ، للدلالة على عظم منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند ربه . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآيات الدالة على سنن الله - تعالى - فى خلقه ، وعلى الحكم التى من أجلها ساق الله - تعالى - تلك القصص فى كتابه فقال - تعالى - { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ … } .