Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 40-44)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فقوله - سبحانه - { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ … } بيان لمرحلة جديدة من مراحل قصة نوح - عليه السلام - مع قومه . و { حتى } هنا حرف غاية لقوله - تعالى - قبل ذلك { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ … إلخ } . والمراد بالأمر فى قوله - سبحانه - { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا … } حلول وقت نزول العذاب بهم ، فهو مفرد الأمور ، أى حتى إذا حل بهم وقت عذابنا … قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين . ويصح أن يكون المراد به الأمر بالشئ على أنه مفرد الأوامر ، فيكون المعنى حتى إذا جاء أمرنا لنوح بركوب السفينة ، وللأرض بتفجير عيونها ، وللسماء بإنزال أمطارها … قلنا احمل فيها … وجملة ، وفار التنور ، معطوفة على { جَآءَ أَمْرُنَا } وكلمة { فار } من الفور والفوران ، وهو شدة الغليان للماء وغيره . قال صاحب المنار ما ملخصه " والفور والفوران ضرب من الحركة والارتفاع والقوى ، يقال فى الماء إذا غلا وارتفع … ويقال فى النار إذا هاجت قال - تعالى - { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ } ومن المجاز فار الغضب ، إذا اشتد … وللمفسرين فى المراد بلفظ { التنور } أقوال منها أن المراد به الشئ الذى يخبز فيه الخبز ، وهو ما يسمى بالموقد أو الكانون … ومنها أن المراد به وجه الأرض … ومنها أن المراد به موضع اجتماع الماء فى السفينة … ومنها أن المراد به طلوع الفجر من قولهم تنور الفجر … ومنها أن المراد به أعالى الأرض والمواضع المرتفعة فيها … وقيل إن الكلام على سبيل المجاز ، والمراد بقوله - سبحانه - { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } التمثيل بحضور العذاب ، كقولهم ، حمى الوطيس ، إذا اشتد القتال . وأرجح هذه الأقوال أولها ، لأن التنور فى اللغة يطلق على الشئ الذى يخبز فيه ، وفورانه معناه نبع الماء منه بشدة مع الارتفاع والغليان ، كما يفور الماء فى القدر عند الغليان ، ولعل ذلك كان علامة لنوح - عليه السلام - على اقتراب وقت الطوفان . وقد رجح هذا القول المحققون من المفسرين ، فقد قال الإِمام ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى معنى التنور " وأولى الأقوال عندنا بتأويل قوله { التنور } قول من قال هو التنور الذى يخبز فيه ، لأن هذا هو المعروف من كلام العرب ، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب ، إلا أن تقوم حجة على شئ منه بخلاف ذلك ، فيسلم لها . وذلك لأنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإِفهامهم معنى ما خاطبهم به . أى قلنا لنوح حين جاء عذابنا قومه … وفار التنور الذى جعلنا فورانه بالماء آية مجئ عذابنا … احمل فيها - أى السفينة من كل زوجين اثنين . . وقال الإِمام الرازى ما ملخصه فإن قيل فما الأصح من هذه الأقوال - فى معنى التنور … ؟ قلنا الأصل حمل الكلام على حقيقته ، ولفظ التنور حقيقة فى الموضع الذى يخبز فيه ، فوجب حمل اللفظ عليه … ثم قال والذى روى من أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة ، وقد وعد الله - تعالى - المؤمنين النجاة فلا بد أن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين " فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة " . وجملة { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ } جواب إذا . ولفظ { زوجين } تثنية زوج ، والمراد به هنا الذكر والأنثى من كل نوع . قراءة الجمهور { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } بدون تنوين للفظ كل ، وإضافته إلى زوجين . وقرأ حفص { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } بتنوين لفظ كل وهو تنوين عوض عن مضاف إليه ، والتقدير احمل فيها من كل نوع من أنواع المخلوقات التى أنت فى حاجة إليها ذكرا وأنثى . ويكون لفظ { زوجين } مفعولا لقوله { احمل } واثنين صفة له . والمراد بأهله أهل بيته كزوجته وأولاده ، وأكثر ما يطلق لفظ الأهل على الزوجة ، كما فى قوله - { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً … } والمراد بأهله من كان مؤمنا منهم . وجملة { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } استثناء من الأهل . أى احمل فيها أهلك إلا من سبق عليه قضاؤنا بكفره منهم فلا تحمله . والمراد بمن سبق عليه القول زوجته التى جاء ذكرها فى سورة التحريم فى قوله - تعالى - { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا … } وابنه الذى أبى أن يركب معه السفينة . قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الجملة والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة ، وفى رواية والقه وابنه منها واسمه كنعان … وكانا كافرين " وجملة { وَمَنْ آمَنَ } معطوفة على قوله { وَأَهْلَكَ } أى واحمل معك من آمن بك من قومك . والمعنى للآية الكريمة لقد امتثل نوح أمر ربه له بصنع السفينة ، حتى إذا ما تم صنعها ، وحان وقت نزول العذاب بالكافرين من قومه ، وتحققت العلامات الدالة على ذلك ، قال الله - تعالى - لنوح احمل فيها من كل نوع من أنواع المخلوقات التى أنت فى حاجة إليها ذكر و أنثى ، واحمل فيها أيضا من آمن بك من أهل بيتك دون من لم يؤمن ، واحمل فيها كذلك جميع المؤمنين الذين اتبعوا دعوتك من غير أهل بيتك . وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على قلة عدد من آمن به فقال { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } . أى وما آمن معه إلا عدد قليل من قومه بعد أن لبث فيهم قرونا متطاولة يدعوهم إلى الدين الحق ليلا ونهارا ، وسرا وعلانية . قال الآلوسى بعد أن ساق أقوالا فى عدد من آمن بنوح - عليه السلام - من قومه … والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين زوجته ، وبنوه الثلاثة ونساؤهم ، واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم … " ثم حكى - سبحانه - ما قاله نوح للمؤمنين عند ركوبهم السفينة فقال { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } . ومجريها ومرساها ، قرأهما الجمهور بضم الميمين فيهما ، وهما مصدران من جرى وأرسى . والباء فى { بِسْمِ ٱللَّهِ } للملابسة ، والآية الكريمة معطوفة على جملة ، قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين . أى قلنا له ذلك فامتثل أمرنا ، وقال لمن معه من المؤمين سلموا أمركم لمشيئة الله - تعالى - وقولوا عند ركوب السفينة باسم الله جريها فى هذا الطوفان العظيم ، وباسم الله إرساءها فى المكان الذى يريد الله - تعالى - إرساءها فيه . قال الشيخ الفاضل ابن عاشور وعدى فعل { اركبوا } بفى ، جريا على الأسلوب الفصيح ، فإنه يقال ركب الدابة إذا علاها . وأما ركوب الفلك فيعدى بفى ، لأن إطلاق الركوب عليه مجاز ، وإنما هو جلوس واستقرار ، فلا يقال ركب السفينة فأرادوا التفرقة بين الركوب الحقيقى والركوب المشابه له ، وهى تفرقة حسنة " . وجملة { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليل للأمر بالركوب المصاحب لذكر الله - تعالى - أى إن ربى لعظيم المغفرة ولعظيم الرحمة لمن كان مطيعا له مخلصا فى عبادته . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه يقول الله - تعالى - إخبارا عن نوح أنه قال للذين أمر بحملهم معه فى السفينة { ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا … } وقال - سبحانه - فى موضع آخر { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ . وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ } ولهذا تستحب التسمية فى ابتداء الأمور عند الركوب فى السفينة وعلى الدابة . فقد روى الطبرانى عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال " أمان أمتى من الغرق إذا ركبوا فى السفن أن يقولوا بسم الله الملك … بسم الله مجريها ومرساهها ، إن ربى لغفور رحيم " . ثم بين - سبحانه - حال السفينة وهى تمخر بهم عباب الماء فقال { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } . والموج ما ارتفع من ماء البحر عند اضطرابه . وأصله من ماج الشئ يموج إذا اضطرب ومنه قوله - تعالى - { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال صاحب الكشاف فإن قلت . بم اتصل قوله - تعالى - { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ } ؟ قلت اتصل بمحذوف دل عليه اركبوا فيها باسم الله ، كأنه قيل فركبوا فيها وهم يقولون باسم الله ، وهى تجرى بهم . أى تجرى بهم وهم فيها فى موج كالجبال ، يريد موج الطوفان ، شبه كل موجه بالجبل فى تراكمها وارتفاعها … وقوله - سبحانه - { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } تصوير لتلك اللحظة الرهيبة الحاسمة التى أبصر فيها نوح - عليه السلام - ابنه الكافر وهو منعزل عنه وعن جماعة المؤمنين . والمعزل مكان العزلة ، أى الانفراد . أى وقبل أن يشتد الطوفان وترتفع أمواجه ، رأى نوح ابنه كنعان ، وكان هذا الابن فى مكان منعزل ، فقال له نوح بعاطفة الأبوة الناصحة الملهوفة يا بنى اركب معنا فى السفينة ، ولا تكن مع القوم الكافرين الذين سيلفهم الطوفان بين أمواجه عما قريب . ولكن هذه النصيحة الغالية من الأب الحزين على مصير ابنه . لم تجد أذنا واعية من هذا الابن العاق المغرور ، بل رد على أبيه { قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي … } . أى قال سألتجئ إلى جبل من الجبال الشاهقة ، لكى أتحصن به من وصول الماء إلى . وهنا يرد عليه أبوه الرد الأخير فيقول - كما حكى القرآن عنه - { قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ … } أى قال نوح لابنه لا معصوم اليوم من عذاب الله إلا من رحمه - سبحانه - بلطفه وإحسانه ، وأما الجبال وأما الحصون … وأما غيرهما من وسائل النجاة ، فسيعلوها الطوفان ، ولن تغنى عن المحتمى بها شيئا . وعبر عن العذاب بأمر الله ، تهويلا لشأنه . وقوله { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } بيان للعاقبة السيئة التى آل إليها أمر الابن الكافر . أى وحال وفصل الموج بهديره وسرعته بين الابن وأبيه ، فكانت النتيجة أن صار الابن الكافر من بين الكافرين المغرقين . والتعبير بقوله { وَحَالَ … } يشعر بسرعة فيضان الماء واشتداده ، حتى لكأن هذه السرعة لم تمهلهما ليكملا حديثهما . والتعبير بقوله { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } يشير إلى أنه لم يغرق وحده ، وإنما غرق هو وغرق معه كل من كان على شاكلته فى الكفر . وهكذا تصور لنا هذه الآية الكريمة ما دار بين نوح وابنه من محاورات فى تلك اللحظات الحاسمة المؤثرة ، التى يبذل فيها كل أب ما يستطيع بذله من جهود لنجاة ابنه من هذا المصير المؤلم . وبعد أن غرق الكافرون ، ونجا نوح ومن معه من المؤمنين ، وجه الله - تعالى - أمره إلى الأرض وإلى السماء … فقال { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } . أى وبعد أن أدى الطوفان وظيفته فأغرق بأمر الله - تعالى - الكافرين ، قال الله - تعالى - للأرض { يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ } . أى اشربى أيتها الأرض ما على وجهك من ماء ، وابتعليه بسرعة فى باطنك كما يبتلع الإِنسان طعامه فى بطنه بدون استقرار فى الفم . وقال - سبحانه - للسماء { وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي } أى أمسكى عن إرسال المطر يقال أقلع فلان عن فعله إقلاعا ، إذا كف عنه وترك فعله . ويقال أقلعت الحمى عن فلان ، إذا تركته . فامتثلتا - أى الأرض والسماء - لأمر الله - فى الحال ، فهو القائل وقوله الحق { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } وقوله { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } أى نقص ونضب . يقال غاض الماء يغيض ، إذا قل ونقص . والمراد به هنا الماء الذى نشأ عن الطوفان . وقوله { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } أى تم ونفذ ما وعد الله - تعالى - به نبيه نوحا - عليه السلام - من إهلاكه للقوم الظالمين . والضمير فى قوله { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ } للسفينة ، والجودى ، جبل بشمال العراق بالقرب من مدينة الموصل . وقيل هو جبل بالشام . أى واستقرت السفينة التى تحمل نوحا والمؤمنين بدعوته ، على الجبل المعروف بهذا الاسم ، بعد أن أهلك الله أعداءهم . قال ابن كثير ما ملخصه وكان خروجهم من السفينة فى يوم عاشوراء من المحرم ، فقد روى الإِمام أحمد عن أبى هريرة قال " مر النبى - صلى الله عليه وسلم - بأناس من اليهود ، وقد صاموا يوم عاشوراء ، فقال لهم ما هذا الصوم ؟ قالوا ، هذا اليوم الذى نجى الله موسى وبنى إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون . وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودى . فصامه نوح وموسى - عليه السلام - شكرا لله . فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - " أنا أحق بموسى ، وأحق بصوم هذا اليوم " فصامه ، وقال لأصحابه من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه ، ومن كان قد أصاب من غذاء أهله ، فليتم بقية يومه " . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله وقيل بعدا للقوم الظالمين . أى هلاكا وسحقا وطردا من رحمة الله - تعالى - للقوم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإِيمان ، والضلالة على الهداية . قال الجمل { وبعدا } مصدر بعد - بكسر العين - ، يقال بعد بعدا - بضم فسكون - وبعداً - بفتحتين - إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك ، وخص بدعاء السوء ، وهو منصوب على المصدر بفعل مقدر . أى وقيل بعداً بعدا … " هذا وقد تكلم بعض العلماء عن أوجه البلاغة والفصاحة فى هذه الآية كلاما طويلا ، نكتفى بذكر جانب مما قاله فى ذلك الشيخ القاسمى فى تفسيره . قال - رحمه الله - ما ملخصه " هذه الآية بلغت من أسرار الإِعجاز غايتها ، وحوت من بدائع الفوائد نهايتها . وقد اهتم علماء البيان بإبراز ذلك ، ومن أوسعهم مجالا فى مضمار معارفها الإِمام " السكاكى " فقد أطال وأطنب فى كتابه " المفتاح " فى الحديث عنها . فقد قال - عليه الرحمة - فى بحث البلاغة والفصاحة وإذ قد وقفت على البلاغة ، وعثرت على الفصاحة ، فأذكر لك على سبيل الأنموذج ، آية أكشف لك فيها من وجوهها ما عسى أن يكون مستورا عنك ، وهذه الآية هى قوله - تعالى - { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ … } . والنظر فى هذه الآية من أربع جهات من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعانى ، ومن جهة الفصاحة المعنوية ، ومن جهة الفصاحة اللفظية . أما النظر فيها من جهة علم البيان … فتقول إنه - عز سلطانه - لما أراد أن يبين معنى هو أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض لما أراد ذلك بنى الكلام على التشبيه ، بأن شبه الأرض والسماء بالمأمور الذى لا يتأتى منه أن يعصى أمره … وكأنهما عقلاء مميزون فقال { يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي … } . ثم قال { ماءك } بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز ، تشبيها لاتصال الماء بالأرض ، باتصال الملك بالمالك . ثم اختار لاحتباس المطر لفظ الإِقلاع الذى هو ترك الفاعل للفعل . وأما النظر فيها من حيث علم المعانى … فذلك أنه اختير { يا } دون سائر أخواتها ، لكونها أكثر فى الاستعمال … واختير لفظ " ابلعى " على " ابتلعى " لكونه أخصر . ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع منه ، حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم . وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهى كما ترى . نظم للمعانى لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة ، لا تعقيد يعثر الفكر فى طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها ، وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة فى تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك ، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك . وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية ، مستعملة جارية على قوانين اللغة ، سليمة من التنافر ، بعيدة عن البشاعة . ولا تظن الآية مقصورة على ما ذكرت ، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت . ثم ختم - سبحانه - قصة نوح مع قومه فى هذه السورة ، بتلك الضراعة التى تضرع بها نوح - عليه السلام - بشأن ولده ، وبذلك الرد الحكيم الذى رد به الخالق - عز وجل - على نوح - عليه السلام ، وبتعقيب على القصة يدل على وحدانية الله - تعالى - ، وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه قال - تعالى - { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبنِي مِنْ أَهْلِي … }