Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 45-49)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والمراد بالنداء فى قوله - سبحانه - { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ … } الدعاء والضراعة إلى الله - تعالى - . والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها . أى وبعد أن تخلف ابن نوح عليه السلام عن الركوب معه فى السفينة ، وقضى الأمر بهلاك الكافرين ونجاة المؤمنين … تضرع نوح - عليه السلام - إلى ربه فقال فى استعطاف ورجاء يا رب ! إن ابنى " كنعان " { مِنْ أَهْلِي } فهو قطعة منى ، فأسألك أن ترحمه برحمتك { وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } أى وإن كل وعد تعده لعبادك هو الوعد الحق وأنت - يا ربى - قد وعدتنى بنجاة أهلى إلا من سبق عليه القول منهم ، لكنى فى هذا الموقف العصيب أطمع فى عفوك عن ابنى وفى رحمتك له . وقوله { وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } أى وأنت يا إلهى - لا راد لما تحكم به ، ولا معقب لحكمك ، وحكمك هو الحق والعدل ، وهو المنزه عن الخطأ والمحاباة ، لأنه صادر عن كمال العلم والحكمة . واكتفى نوح - عليه السلام - بأن يقول { رَبِّ إِنَّ ٱبنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } دون أن يصرح بمطلوبه وهو نجاة ابنه تأدباً مع الله - تعالى - وحياء منه - سبحانه - واعتقاداً منه بأنه - سبحانه - عليم بما يريده ، وخبير بما يجول فى نفسه . وهذا لون من الأدب السامى ، سلكه الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام - فى مخاطبتهم لربهم - عز وجل - ومن أولى منهم بذلك ؟ ! ! ولعل نوحا - عليه السلام - عندما تضرع إلى ربه - سبحانه - بهذا الدعاء لم يكن يعلم أن طلب الرحمة أو النجاة لابنه الكافر ممنوع ، فكان حاله فى ذلك كحال النبى - صلى الله عليه وسلم - عندما قال لعمه أبى طالب " لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك " واستمر يستغفر له إلى أن نزل قوله - تعالى - { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ … } وقال الشيخ القاسمى وإنما قال نوح ذلك - أى رب إن ابنى من أهلى … ألخ - لفهمه - من الأهل ذوى القرابة الصورية ، والرحمة النسبية ، وغفل - لفرط التأسف على ابنه - عن استثنائه - تعالى - بقوله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } ولم يتحقق أن ابنه هو الذى سبق عليه القول ، فاستعطف ربه بالاسترحام ، وعرض بقوله { وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } إلى أن العالم العادل الحكيم لا يخلف وعده . وقوله - سبحانه - { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ … } رد من الله - تعالى - على نوح فيما طلبه منه . أى قال الله - تعالى - مجيبا لنوح - عليه السلام - فيما سأله إياه يا نوح إن ابنك هذا { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } لأن مدار الأهلية مبنى على القرابة الدينية ، وقد انقطعت بالكفر ، فلا علاقة بين مسلم وكافر . أو ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم ، بل هو ممن سبق عليه القول بسبب كفره . فالمراد نفى أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، وليس المراد نفى أن يكون من صلبه ، لأن ظاهر الآية يدل على أنه ابنه من صلبه ، ومن قال بغير ذلك فقوله ساقط ولا يلتفت إليه ، لخلوه عن الدليل . قال ابن كثير وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب فى تفسير هذا إلا أنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن زنية . وقال ابن عباس وغير واحد من السلف ما زنت امرأة نبى قط ، ثم قال وقوله { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أى الذين وعدتك بنجاتهم . وقول ابن عباس فى هذا هو الحق الذى لا محيد عنه فإن الله - تعالى - أغير من أن يمكن امرأة نبى من الفاحشة . وجملة { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } تعليل لنفى الأهلية . وقد قرأ الجمهور عمل بفتح الميم وتنوين اللام - على أنه مصدر مبالغة فى ذمه حتى لكأنه هو نفس العمل غير الصالح وأصل الكلام إنه ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف للمبالغة بجعله عين عمله الفاسد لمداومته عليه . وقرأ الكسائى ويعقوب { عمل } بوزن فرح بصيغة الفعل الماضى - أى إنه عمل غير صالح وهو الكفر والعصيان ، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه . قال صاحب الكشاف وقوله { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } تعليل لانتفاء كونه من أهله . وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وأن نسيبك فى دينك ومعتقدك من الأباعد فى المنصب وإن كان حبشيا وكنت قرشيا لصيقك وخصيصك ، ومن لم يكن على دينك وإن كان أمس أقاربك رحما فهو أبعد بعيد منك . وقال الفخر الرازى هذه الآية تدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب ، فإن فى هذه الصورة كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ، ولكن لما انتفت قرابة الدين ، لا جرم نفاه الله - تعالى - بـأبلغ الألفاظ وهو قوله { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } . والفاء فى قوله { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ … } للتفريع . أى ما دمت قد وقفت على حقيقة الحال ، فلا تلتمس منى ملتمسا لا تعلم على وجه اليقين ، أصواب هو أم غير صواب ، بل عليك أن تتثبت من صحة ما تطلبه ، قبل أن تقدم على طلبه . وجملة { إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } تأكيد لما قبلها ، ونهى له عن مثل هذا السؤال فى المستقبل ، بعد أن أعلمه بحقيقة حال ابنه . أى إن أنهاك يا نوح عن أن تكون من القوم الجاهلين ، الذين يسألون عن أشياء لا يتحققون وجه الصواب فيها . وهنا بين الله - تعالى - أن نوحا - عليه السلام - قد تنبه إلى ما أرشده إليه ربه ، فبادر بطلب العفو والصفح منه - سبحانه - فقال { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ … } . أى قال نوح - عليه السلام - ملتمسا الصفح من ربه رب إن أستجير بك ، وأحتمى بجنابك من أن أسألك شيئا بعد الآن ، ليس عندى علم صحيح بأنه جائز ولائق { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي } ما فرط منى من قول ، وما صدر عنى من فعل . { وَتَرْحَمْنِيۤ } برحمتك الواسعة التى وسعت كل شئ . { أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } الذين خسروا أنفسهم بالاحتجاب عن علمك وحكمتك . ثم بشر - سبحانه - نبيه نوحا - عليه السلام - بقبول توبته فقال { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ … } والسلام التحية المقرونة بالأمان والاطمئنان ، وأصله السلامة ، والباء فيه للمصاحبة والبركات . جمع بركة وهى ثبوت الخير ونماؤه وزيادته ، واشتقاقها من البرك ، وهو صدر البعير . يقال برك البعير إذا ألقى بركه أى صدره على الأرض وثبت . ومنه البركة لثبوت الماء فيها . والأمم جمع أمة ، وهى الجماعة الكثيرة من الناس ، يجمعها نسب واحد أو لغة واحدة ، أو موطن واحد . أى قال الله - تعالى - مبشرا نوحا - عليه السلام - بقبول توبته يا نوح اهبط من السفينة مصحوبا منا بالأمان مما تكره ، وبالخيرات النامية والنعم الثابتة عليك ، وعلى أمم متشعبة ومتفرعة وناشئة من الأمم المؤمنة التى ستهبط معك ، بعد أن أنجاكم الله - تعالى - بفضله ورحمته من العذاب ، الذى حل بالكافرين من قومك . وكان مقتضى الظاهر أن يقال قال يا نوح اهبط بسلام … ولكن جاء التعبير بقيل ، مسايرة للتعبيرات السابقة فى أجزاء القصة ، مثل قوله - سبحانه - { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ … } وقوله { وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } وقوله { ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ … } فيه إشارة إلى أنه كان قبل الهبوط فى ضيافة الله ورعايته ، وأنه لولا عناية الله به وبمن معه من المؤمنين ، لما نجت السفينة من ذلك الطوفان العظيم . والتعبير بقوله { منا } لزيادة التكريم ، وتأكيد السلام . أى انزل بسلام ناشئ من عندنا ، وليس من عند غيرنا لأن كل سلام من غيرنا لا قيمة له بجانب سلامنا . وقوله { عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } متعلق بسلام وبركات . وفى هذا إِشارة إلى أنه - سبحانه - سيجعل من ذرية نوح ومن ذرية من معه من المؤمنين ، أمما كثيرة ستكون محل كرامة الله وأمانه وبركاته . وقوله - سبحانه - { وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } كلام مستأنف مسوق للاحتراز والتحذير من سوء عاقبة المخالفة لأمر الله . أى أن الأمم التى ستكون من نسلك ومن نسل أتباعك يا نوح على قسمين قسم منهم له منا السلام ، وعليه البركات بسبب إيمانه وعمله الصالح . وقسم آخر سنمتعه فى الدنيا وبالكثير من زينتها وخيراتها ، ثم يصيبه يوم القيامة عذاب أليم بسبب جحوده لنعمنا ، وعصيانه لرسلنا . فعلى كل عاقل أن يجتهد فى أن يكون من القسم الأول ، وأن يتجنب القسم الثانى . ثم اختتم الله - تعالى - قصة نوح - عليه السلام - مع قومه فى هذه السورة ، بقوله { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } واسم الإِشارة { تلك } يعود إلى ما قصه الله - تعالى - من قصة نوح مع قومه فى هذه السورة . والأنباء جمع نبأ وهو الخبر الهام . والغيب مصدر غاب ، وهو مالا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل . أى تلك القصة التى قصصناها عليك يا محمد بهذا الأسلوب الحكيم ، من أخبار الغيب الماضية ، التى لا يعلم دقائقها وتفاصيلها أحد سوانا . ونحن { نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } ونعرفك بها عن طريق وحينا الصادق الأمين . وهذه القصة وأمثالها { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ } أنت يا محمد ، وما كان يعلمها { قومك } أيضا ، بهذه الصورة الصادقة الحكيمة ، الخالية من الأساطير والأكاذيب . { مِن قَبْلِ } هذا الوقت الذى أوحيناها إليك فيه . وما دام الأمر كذلك { فَٱصْبِرْ } صبرا جميلا على تبليغ رسالتك ، وعلى أذى قومك كما صبر أخوك نوح من قبل . وجملة { إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } تعليل للأمر بالصبر . والعاقبة الحالة التى تعقب حالة قبلها ، وقد شاعت عند الإِطلاق فى حالة الخير كما فى قوله - تعالى - { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ } وأل فيها للجنس ، واللام فى قوله { لِلْمُتَّقِينَ } للاختصاص . أى أن العاقبة الحسنة الطيبة فى الدنيا والآخرة ، للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل مالا يرضى الله - تعالى - وليست لغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى . والآية الكريمة تعقيب حكيم على قصة نوح - عليه السلام - قصد به الامتنان على النبى - صلى الله عليه وسلم - والموعظة ، والتسلية . فالامتنان نراه فى قوله - تعالى - { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } . والموعظة نراها فى قوله - سبحانه - { فاصبر } . والتسلية نراها فى قوله - عز وجل - { إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } . وبعد ، فهذه قصة نوح - عليه السلام - كما وردت فى هذه السورة الكريمة ، ومن العبر والعظات والهدايات والحقائق التى نأخذها منها ما يأتى 1 - الدلالة على صدق النبى - عليه السلام - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - ، فقد أخبرنا عن قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، وعن غيرها من القصص ، التى هى من أنباء الغيب ، والتى لا يعلم حقيقتها وتفاصيلها أحد سوى الله - عز وجل - . 2 - أن نوحا - عليه السلام - قد سلك فى دعوته إلى الله - تعالى - أحسن الأساليب وأحكمها ، فقد دعا قومه إلى عبادة الله - تعالى - وحده فى الليل وفى النهار ، وفى السر وفى العلانية ، وأقام لهم ألوانا من الأدلة على صدقه ، ورغبهم فى الإِيمان بشتى ألوان الترغيب ، وحذرهم من الكفر بشتى أنواع التحذير ، وصبر على آذاهم صبرا جميلا ، ورد على سفاهاتهم وأقوالهم بمنطق سليم ، أبطل به حججهم … مما جعلهم يكفون عن مناقشته ، ويلجأون إلى التحدى والتعنت . وما أحوج الدعاة إلى الله - عز وجل - إلى التماس العبرة والعظة من قصة نوح مع قومه . 3 - أن النسب مهما شرف وعظم لن ينفع صاحبه عند الله ، إلا إذا كان معه الإِيمان والعمل الصالح ، وأن الإِيمان والصلاح ليسا مرتبطين بالوراثة والأنساب لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت ذرية نوح ومن معه من المؤمنين الذين نجوا معه فى السفينة . كلها من المؤمنين الصالحين ، مع أن المشاهد غير ذلك . ورحم الله الإِمام القرطبى فقد قال - ما ملخصه - عند تفسيره لقوله - تعالى - { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ … } " وفى هذه الآية تسلية للآباء فى فساد أبنائهم وإن كان الآباء صالحين " ، فقد روى أن ابنا لمالك بن أنس ارتكب أمرا لا يليق بمسلم ، فعلم بذلك مالك فقال " الأدب أدب الله ، لا أدب الأباء والأمهات ، والخير خير الله ، لا خير الآباء والأمهات … " 4 - أن سؤال نوح - عليه السلام - ما سأله لابنه لم يكن - كما قال صاحب المنار معصية لله - تعالى - خالف فيها أمره أو نهيه ، وإنما كان خطأ فى اجتهاده رأى بنية صالحة . وإنما عدها الله - تعالى - ذنبا له لأنها كانت دون مقام العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه ، هبطت بضعفه البشرى ، وما غرس فى الفطرة من الرحمة والرأفة بالأولاد إلى اتباع الظن ، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء ، فيقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم آنا بعد آن ، بما يصعدون به فى معارج العرفان . 5 - إن القرآن فى إيراده للقصص والأخبار ، لا يهتم إلا بإبراز النافع المفيد منها ، أما ما عدا ذلك مما لا فائدة من ذكره ، فيهمل القرآن الحديث عنه . فمثلا فى قصة نوح - عليه السلام - هنا ، لم يتعرض القرآن لبيان المدة التى قضاها نوح فى صنع السفينة ، ولا لبيان طول السفينة وعرضها وارتفاعها ، ولا لتفاصيل الأنواع التى حملها معه فى السفينة ، ولا لبيان الفترة التى عاشها نوح ومن معه فيها . ولا لبيان المكان الذى هبط فيه نوح بعد أن استوت السفينة على الجودى . . ولا لبيان الزمان الذى استغرقه الطوفان فوق الأرض . وما ورد فى ذلك من أقوال وأخبار ، أكثرها من الإِسرائيليات التى لا يؤيدها دليل من الشرع أو العقل . ومن المسائل التى تكلم عنها كثير من العلماء ، وذهبوا بشأنها مذاهب شتى مسألة الطوفان . وقد أصدر الأستاذ الإِمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فتوى فى هذا الشأن ، ملخصها كما يقول صاحب المنار أن ظواهر القرآن الكريم والأحاديث أن الطوفان كان عاما شاملا لقوم نوح الذين لم يكن فى الأرض غيرهم فيجب اعتقاده ، ولكنه لا يقتضى أن يكون عاما للأرض ، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملأون الأرض . وهذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن ، ولذلك لم يبينها بنص قطعى ، فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهر النصوص ، ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية ، فإن أثبت العلم خلافه لا يضرنا ، لأنه لا ينقض نصا قطعيا عندنا . 6 - أن سنة الله - تعالى - فى خلقه لا تتخلف ولا تتبدل وهى أن العاقبة للمتقين ، مهما طال الصراع بين الحق والباطل ، وبين الأخيار والأشرار . فلقد لبث نوح - عليه السلام - فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وقد لقى خلال تلك المدة الطويلة ما لقى من الأذى … ولكن كانت النتيجة فى النهاية نجاته ومن معه من المؤمنين ، وإغراق أعدائه بالطوفان العظيم . ولقد أفاض صاحب الظلال - رحمه الله - وهو يتحدث عن هذا المعنى فقال ما ملخصه " ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح ، لنرى قيمة الحفنة المسلمة فى ميزان الله - سبحانه - . إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح - عليه السلام - تذكر بعض الروايات ، أنهم اثنا عشر ، هم كانوا حصيلة دعوة نوح فى ألف سنة إلا خمسين عاما . إن هذه الحفنة - وهى ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل - ، قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون ، وأن يجرى لها ذلك الطوفان الذى يغمر كل شئ … وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هى وارثة الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها . وهذه هى عبرة الحادث الكونى العظيم . إنه لا ينبغى لأحد يواجه الجاهلية بالإِسلام ، أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله - سبحانه - بالربوبية . كما أنه لا ينبغى له أن يقبس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى ، وهو عبده الذى يستنصر به حين يغلب فيدعوه { أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } إن القوى فى حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة … إن الجاهلية تملك قواها … ولكن الداعى إلى الله يستند إلى قوة الله . والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء - وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب ! ! . والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم أن يؤدوا واجبهم كاملا ، ثم يتركوا الأمور لله فى طمأنينة وثقة . وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين ، وأن يجأروا إليه وحده كما جأر عبده الصالح نوح { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } ثم عليهم أن ينتظروا فرج الله القريب ، وانتظار الفرج من الله عبادة ، فهم على هذا الانتظار مأجورون … والعاقبة للمتقين . ثم تابعت السورة الكريمة حديثها عن قصة هود - عليه السلام - مع قومه ، بعد حديثها عن قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، فقال - تعالى - { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً … } .