Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 50-60)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تلك هى قصة هود - عليه السلام - مع قومه كما حكتها هذه السورة ، وقد وردت قصته معهم فى سور أخرى منها سورة الأعراف ، والشعراء ، والأحقاف . وينتهى نسب هود إلى نوح - عليهما السلام - فهو - كما قال بعض المؤرخين - هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوض بن إِرم بن سام بن نوح . وقومه هم قبيلة عاد - نسبة إلى أبيهم الذى كان يسمى بهذا الاسم - ، وكانت مساكنهم بالأحقاف - جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل - ، وهذا المكان يسمى الآن بالربع الخالى جنوب الجزيرة العربية . وكان قوم هود - عليه السلام - يعبدون الأصنام ، فأرسله الله إليهم لهدايتهم . ويقال إن هودا - عليه السلام - قد أرسله الله إلى عاد الأولى ، أما عاد الثانية فهم قوم صالح ، وبينهما زهاء مائة سنة . وقوله - سبحانه - { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ … } معطوف على قصة نوح التى سبق الحديث عنها . أى وكما أرسلنا نوحا إلى قومه ليأمرهم بعبادة الله وحده ، أرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هوداً ، فقال لهم ما قاله كل نبى لقومه { يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ … } . ووصفه - سبحانه - بأنه { أخاهم } لأنه من قبيلتهم فى النسب ، أو لأنه أخوهم فى الإِنسانية وناداهم بقوله { يٰقَوْمِ } زيادة فى التلطف معهم ، استجلابا لقلوبهم ، وترضية لنفوسهم ، وجملة { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } فى معنى العلة لما قبله . أى أنا آمركم بعبادة الله وحده ، لأنه ليس هناك إله آخر يستحق العبادة سواه ، فهو الذى خلقكم ورزقكم ، وهو الذى يحييكم ويميتكم . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } . والافتراء الكذب المتعمد الذى لا شبهة لصاحبه فى النطق به . أى ما أنتم إلا معتمدون للكذب فى جعلكم الألوهية لغير الله - تعالى - . ثم بين لهم بعد ذلك أنه لا يريد منهم جزاء ولا شكورا فى مقابل دعوته إياهم إلى الحق فقال { يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ … } وفطرنى أى خلقنى وأبدعنى على غير مثال سابق ، يقال فطر الأمر . أى ابتدأه وأنشأه . وفطر الله الخلق أى خلقهم وأوجدهم . وأصل الفطر الشق ، ثم استعمل فى الخلق والإِنشاء مجازا . والمعنى ويا قوم لا أريد منكم على ما أدعوكم إليه أجرا منكم ، وإنما أجرى تكفل به الله الذى خلقنى بقدرته ، فهو وحده الذى أطلب منه الأجر والعطاء . ومقصده من هذا القول ، إزالته ما عسى أن يكون قد حاك فى نفوسهم ، من أنه ما دعاهم إلى ما دعاهم إليه ، إلا أنه رجل يبتغى منهم الأجر الذى يجعله موسرا فيهم . . والهمزة فى قوله { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } للاستفهام الإِنكارى ، وهى داخله على محذوف . أى أتجهلون ما هو واضح من الأمور ، فلا تعقلون أن أجر الناصحين المخلصين ، إنما هو من الله - تعالى - رب العالمين ورازقهم . ثم أرشدهم إلى ما يؤدى إلى زيادة غناهم وقوتهم ، وحذرهم من سوء عاقبة البطر والأشر فقال { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } . والاستغفار طلب المغفرة من الله - تعالى - وعدم المؤاخذة على الخطايا والتوبة العزم على الإِقلاع عن الذنب ، مع الندم على ما حصل منه فى الماضى . أى ويا قوم استغفروا ربكم مما فرط منكم من شرك وعصيان ، ثم عودوا إليه بالتوبة الصادقة النصوح . وثم هنا للترتيب الرتبى ، لأن الإِقلاع عن الذنب مع المداومة على ذلك مقدم على طلب المغفرة . وجملة { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } جواب الأمر فى قوله { ٱسْتَغْفِرُواْ } . والمراد بالسماء هنا السحاب أو المطر ، تسمية للشئ باسم مصدره . ومدرارا مأخوذ من الدر أى سيلان اللبن وكثرته . ثم استعير للمطر الغزير يقال درت السماء بالمطر تدر وتدر درا … إذا كثر نزول المطر منها . وهو حال من السماء ، ولم يؤنث مع أنه حال من مؤنث ، باعتبار أن المراد بالسماء هنا المطر أو السحاب . والمعنى أن هودا - عليه السلام - قال لقومه يا قوم اعبدوا الله واستغفروه وتوبوا إليه … فإنكم إن فعلتم ذلك أرسل الله - تعالى - عليكم المطر غزيرا متتابعا فى أوقات حاجتكم إليه لتشربوا منه وتسقوا به دوابكم وزروعكم . وجملة { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ } معطوفة على ما قبلها . أى وأيضا إن فعلتم ذلك زادكم الله - تعالى - عزا إلى عزكم ، وشدة إلى شدتكم التى عرفتم بها ، ووهبكم الأموال الطائلة ، والذرية الكثيرة . قال الآلوسى " رغبهم - عليه السلام - بكثرة المطر ، وزيادة القوة ، لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات . وقيل " حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين ، فوعدهم هود على الاستغفار والتوبة كثرة الأمطار ، ومضاعفة القوة بالتناسل … " . ثم حذرهم من مقابلة نعم الله بالكفر والجحود فقال { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } والتولى هو الإِعراض عن الشئ بإصرار وعناد . أى ولا تتولوا عما دعوتكم إليه وأنتم مصرون على ما أنتم عليه من إجرام وجحود وعناد . وإلى هنا يكون هود - عليه السلام - قد وضح لقومه دعوته ، ورغبهم فى الاستجابة لها ، وحذرهم من الإِعراض عنها ، وناداهم بلفظ - يا قوم - ثلاث مرات ، توددوا إليهم ، وتذكيرا لهم بآصرة القرابة التى تجمعهم وإياه . لعل ذلك يستثير مشاعرهم ، ويحقق اطمئنانهم إليه ، فإن الرائد لا يكذب أهله . ولكن قوم هود - عليه السلام - قابلوا كل ذلك بالتطاول عليه ، والسخرية منه فقالوا { قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ … } . والبينة ما يتبين به الحق من الباطل . أى قالوا له يا هود إنك لم تجئنا بحجة تقنعنا بأنك على الحق فيما تدعو إليه ، وترضى نفوسنا وطباعنا وعاداتنا . ثم أضافوا إلى ذلك قولهم { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } . أى وما نحن بتاركى آلهتنا بسبب قولك لنا الخالى عن الدليل اتركوا عبادتها واجعلوا عبادتكم لله وحده . ثم أكدوا إصرارهم على كفرهم بقولهم { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أى بمستجيبين لك ومصدقين . ثم أضافوا إلى إصرارهم هذا استخفافا به وبما يدعو إليه فقالوا " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء … " ومعنى اعتراك أصابك ومسك . يقال عراه الأمر واعتراه أى أصابه ، وأصله من قولهم عراه يعروه ، أى غشيه وأصابه . ومنه قول الشاعر @ وإنى لتعرونى لذكراك هزة … @@ أى تصيبنى . أى ما نحن تباركى آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمتبعين ، بل عليك أن تيأس يأسا تاما من استجابتنا لك ، وحالتك التى نراها بأعيننا تجعلنا نقول لك إن سبك لآلهتنا جعل بعضها - لا كلها - يتسلط عليك ، ويوجه قدرته نحوك ، فيصيبك بالجنون والهذيان والأمراض . ولم يقولوا " اعتراك آلهتنا بسوء " بل قالوا { بَعْضُ آلِهَتِنَا } تهديدا له وإشارة إلى أنه لو تصدت له جميع الآلهة لأهلكته إهلاكا . وهكذا نراهم قد ردوا على نبيهم ومرشدهم بأربعة ردود ، تدرجوا فيها من السئ إلى الأسوأ ، ومن القبيح إلى الأقبح … مما يدل على توغلهم فى الطغيان ، وبلوغهم النهاية فى العناد والكفر والجحود . قال صاحب الكشاف ما ملخصه " ان نقول الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء … " أى مسك بجنون لسبك إياها ، وصدك عنها ، وعداوتك لها ، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء ، فمن ثم صرت تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين . ثم قال . وقد دلت ردودهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد ، لا يبالون بالبهت ، ولا يلتفتون إلى النصح ، ولا تلين شكيمتهم للرشد . وهذا الأخير دال على جهل مفرط ، وبله متناه ، حيث اعتقدوا فى حجارة أنها تنتصر وتنتقم … " والآن وبعد أن استمع هود - عليه السلام - إلى ردودهم القبيحة ماذا كان موقفه منهم ؟ لقد كان موقفه منهم موقف المتبرئ من شركهم ، والمتحدى لطغيانهم والمعتمد على الله - تعالى - وحده فى الانتصار عليهم ، ولقد حكى القرآن رده عليهم فقال { قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أى قال هود - عليه السلام - للطغاة من قومه بعزة وثقة { إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ } الذى لا رب سواه على براءتى من عبادتكم لغيره . { واشهدوا } أنتم أيضا على { أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ } . أى على براءتى من كل عبادة تعبدونها لغير الله - تعالى - لأنها عبادة باطلة . يحتقرها العقلاء ، ويتنزه عنها كل إنسان يحترم نفسه . فأنت تراه فى هذه الآية الكريمة يعلن احتقاره لآلهتهم ، وبراءته من شركهم ، واستخفافه بأصنامهم التى زعموا أن بعضها قد أصابه بسوء ، ويوثق هذه البراءة بإشهاد الله - تعالى - وإشهادهم . وذلك كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به أشهد الله وأشهدك على أنى فعلت بك كذا وكذا ، وقلت فى حقك كذا وكذا … فافعل أنت ما بدا لك ! ! ثم ينتقل من براءته من شركهم ، إلى تحديهم بثقة واطمئنان فيقول { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } . أى لقد أعلنت أمامكم بكل قوة ووضوح أنى برئ من شرككم ، وها أنذا فى مواجهتكم ، فانضموا إلى آلهتكم ، وحاربونى بما شئتم من ألوان المحاربة والأذى بدون تريث أو إمهال ، فإنى لن أكف عن الجهر بدعوتى ، ولن أتراجع عن احتقار الباطل الذى أنتم عليه . وهذا - كما يقول صاحب الكشاف - من أعظم الآيات ، أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشا إلى إراقة دمه ، يرمونه عن قوس واحدة وذلك لثقته بربه ، وأنه يعصمه منهم ، فلا تنشب فيه مخالبهم … ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان السبب الذى دعاه إلى البراءة من شركهم ، وإلى عدم المبالاة بهم فقال - كما حكى القرآن عنه - { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ … } . أى إنى فوضت أمرى إلى الله الذى هو ربى وربكم ، ومالك أمرى وأمركم ، والذى لا يقع فى هذا الكون شئ إلا بإرادته ومشيئته . وفى قوله { رَبِّي وَرَبِّكُمْ } مواجهة لهم بالحقيقة التى ينكرونها ، لإِفهامهم أن إنكارهم لا قيمة له ، وأنه إنكار عن جحود وعناد … فهو - سبحانه - ربهم سواء أقبلوا ذلك أم رفضوه . وقوله { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } تصوير بديع لشمول قدرته - سبحانه - والأخذ هو التناول للشئ عن طريق الغلبة والقهر . والناصية منبت الشعر فى مقدم الرأس ، ويطلق على الشعر النابت نفسه . قال الإِمام الرازى واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع قالوا ما ناصية فلان إلا بيد فلان . أى أنه مطيع له ، لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته . وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا فى القرآن بما يعرفون … والمعنى إنى اعتمدت على الله ربى وربكم ما من دابة تدب على وجه الأرض إلا والله - تعالى - مالكها وقاهر لها ، وقادر عليها ، ومتصرف فيها كما يتصرف المالك فى ملكه . وفى هذا التعبير الحكيم صورة حسية بديعة تناسب المقام ، كما تناسب غلظة قوم هود وشدتهم . وصلابة أجسامم وبنيتهم ، وجفاف حسهم ومشاعرهم … فكأنه - عليه السلام - يقول لهم إنكم مهما بلغتم من القوة والبطش ، فما أنتم إلا دواب من تلك الدواب التى يأخذ ربى بناصيتها ، ويقهرها بقوته قهراً يهلكها - إذا شاء ذلك - فكيف أخشى دوابا مثلكم مع توكلى على الله ربى وربكم ؟ ! ثم يتبع هذا الوصف الدال على شمول قدرة الله - تعالى - بوصف آخر يدل على عدالته وتنزهه عن الظلم فيقول { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . أى إن ربى قد اقتضت سنته أن يسلك فى أحكامه طريق الحق والعدل وما دام الأمر كذلك فلن يسلطكم على لأنه - حاشاه - أن يسلط من كان متمسكا بالباطل ، على من كان متمسكا بالحق . واكتفى هنا بإضافة الرب إلى نفسه ، للإشارة إلى أن لطفه - سبحانه - يشمل هودا وحده ولا يشملهم ، لأنهم أشركوا معه فى العبادة آلهة أخرى . ثم ختم هود - عليه السلام - رده على قومه ، بتحذيرهم من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم فقال { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ … } أى فإن تتولوا عن دعوتى ، وتعرضوا عن الحق الذى جئتكم به من عند ربى ، فتكون عاقبتكم خسرا ، وأمركم فرطا . أما أنا فقد أديت واجبى ، وأبلغتكم ما أرسلت به إليكم من عند ربى بدون تكاسل أو تقصير . وقوله { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً } وعيد لهم بإهلاكهم وإحلال غيرهم محلهم . أى وهو - سبحانه - سيهلككم بسبب إصراركم على كفركم فى الوقت الذى يشاؤه ، ويستخلف من بعدكم قوما آخرين سواكم ، يرثون دياركم وأموالكم ، ولن تضروا الله شيئا من الضرر بسبب إصراركم على كفركم ، وإنما أنتم الذين تضرون أنفسكم بتعريضها للدمار فى الدنيا ، وللعذاب الدائم فى الآخرة . وقوله { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أى إن ربى قائم على كل شئ بالحفظ والرقابة والهيمنة ، وقد اقتضت سنته - سبحانه - أن يحفظ رسله وأولياءه ، وأن يخذل أعداءه . وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد ساقت لنا بأسلوب بليغ حكيم ، جانبا من الحوار الذى دار بين هود وقومه وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، فماذا كانت نتيجة هذا الحوار والجدال ؟ لقد كانت نتيجته إنجاء هود والذين آمنوا معه ، وإهلاك أعدائهم . قال - تعالى - { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ . وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ . وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } والمراد بالأمر فى قوله - سبحانه - { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } الأمر بنزول العذاب بهم . أى وحين جاء أمرنا بتحقيق وعيدنا فى قوم هود ، وبتنفيذ ما أردناه من إهلاكهم وتدميرهم { نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } تنجية مصحوبة { برحمة } عظيمة كائنة { منا } بسبب إيمانهم وعملهم الصالح . { وَنَجَّيْنَاهُمْ } كذلك { مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } أى من عذاب ضخم شديد مضاعف ترك هؤلاء الطغاة وراءه صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية . ووصف العذاب بأنه غليظ ، بهذا التصوير المحسوس ، يتناسب كل التناسب مع جو هذه القصة ، ومع ما عرف عن قوم هود من ضخامة فى الأجسام ، ومن تفاخر بالقوة . قال تعالى - { فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً … } وكان عذابهم كما جاء فى آيات أخرى بالريح العقيم ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ … } واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { وَتِلْكَ عَادٌ … } يعود إلى القبيلة أو إلى آثارهم التى خلفوها من بعدهم . أى وتلك هى قصة قبيلة عاد مع نبيها هود - عليه السلام - وتلك هى عاقبتها وكانت الإِشارة للبعيد تحقيرا لهم ، وتهوينا من شأنهم بعد أن انتهوا ، وبعدوا عن الأنظار والأفكار ، وقد كانوا يقولون من أشد منا قوة . وقوله { جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ … } بيان لجرائمهم التى استحقوا بسببها العذاب الغليظ . والجحد الإِنكار الشديد للحق الواضح . وآيات ربهم الحجج والبراهين التى جاء بها الأنبياء من ربهم للدلالة على صدقهم . والجبار هو الشخص المتعالى المتعاظم على الناس ، المترفع عن الاستجابة للحق . والعنيد المعاند الطاغى الذى يعرف الحق ولكنه لا يتبعه . أى وتلك هى قصة قبيلة عاد مع نبيها ، كفروا بآيات ربهم الدالة على صدق أنبيائه ، وعصوا رسله الذين جاءوا لهدايتهم ، واتبع سفلتهم وعوامهم أمر كل رئيس متجبر متكبر معاند منهم ، بدون تفكر أو تدبر . وقال - سبحانه - { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } مع أنهم قد عصوا رسولا واحدا هو هود - عليه السلام - ، للإِشارة إلى أن معصيتهم لهذا الرسول كأنها معصية للرسل جميعا ، لأنهم قد جاءوا برسالة واحدة فى جوهرها وهى عبادة الله - تعالى - وحده ، والتقيد بأوامره ونواهيه . والإِشارة أيضا إلى ضخامة جرائمهم ، وإبراز شناعتها حيث عصوا رسلا لا رسولا . وقد وصفهم - سبحانه - فى هذه الآية بثلاث صفات هى أعظم الصفات فى القبح والشناعة أولها جحودهم لآيات ربهم . وثانيها عصيانهم لرسله . وثالثها اتباعهم أمر رؤسائهم الطغاة . ثم ختم - سبحانه - قصتهم مع نبيهم فى هذه السورة بقوله { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } . والإِتْباع اقتفاء أثر الشئ بحيث لا يفوته . يقال أتبع فلان فلانا إذا اقتفى أثره لكى يدركه أو يسير على نهجه . واللعنة الطرد بإهانة وتحقير . أى أنهم هلكوا مشيعين ومتبوعين باللعن والطرد من رحمة الله فى الدنيا والآخرة . وقوله { أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } تسجيل لحقيقة حالهم ، ودعاء عليهم بدوام الهلاك ، وتأكيد لسخط الله عليهم . أى ألا إن قوم عاد كفروا بنعم ربهم عليهم ، ألا سحقا وبعدا لهم عن رحمة الله ، جزاء جحودهم للحق ، وإصرارهم على الكفر ، واستحبابهم العمى على الهدى . وتكرير حرف التنبيه " ألا " وإعادة لفظ " عاد " للمبالغة فى تهويل حالهم وللحض على الاعتبار والاتعاظ بمآلهم . هذا ، ومن العبر البارزة فى هذه القصة 1 - أن الداعى إلى الله ، عليه أن يذكر المدعوين بما يستثير مشاعرهم ، ويحقق اطمئنانهم إليه ، ويرغبهم فى اتباع الحق ، ببيان أن اتباعهم لهذا الحق سيؤدى إلى زيادة غناهم وقوتهم وأمنهم وسعادتهم . وأن الانحراف عنه سيؤدى إلى فقرهم وضعفهم وهلاكهم . انظر إلى قول هود - عليه السلام - { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } . 2 - وأن الداعى إلى الله - عندما يخلص لله دعوته ، ويعتمد عليه - سبحانه - فى تبليغ رسالته ، ويغار عليها كما يغار على عرضه أو أشد . فإنه فى هذه الحالة سيقف فى وجه الطغاة المناوئين للحق ، كالطود الأشم ، دون مبالاة بتهديدهم ووعيدهم … لأنه قد آوى إلى ركن شديد . وهذه العبرة من أبرز العبر فى قصة هود عليه السلام . ألا تراه وهو رجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا طغاة ، إذا بطشوا بطشوا جبارين ، يدلون بقوتهم ويقولون فى زهو وغرور من أشد منا قوة . ومع كل ذلك عندما يتطاولون على عقيدته ويراهم قد أصروا على عصيانه . يواجههم بقوله { إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ … } أرأيت كيف واجه هود - عليه السلام - هؤلاء الغلاظ الشداد بالحق الذى يؤمن به دون مبالاة بوعيدهم أو تهديدهم … ؟ وهكذا الإِيمان بالحق عندما يختلط بالقلب … يجعل الإِنسان يجهر به دون أن يخشى أحداً إلا الله - تعالى - . ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم فتحدثت عن قصة صالح - عليه السلام - مع قومه ، فقال - تعالى - { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً … } .