Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 84-95)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تلك هى قصة شعيب - عليه السلام - كما حكتها هذه السورة الكريمة ، وقد وردت هذه القصة فى سور أخرى منها سورتى الأعراف والشعراء … ومدين اسم للقبيلة التى تنتسب إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - . وكانوا يسكنون فى المنطقة التى تسمى معان وتقع بين حدود الحجاز والشام . وأهل مدين يسمون أيضاً بأصحاب الأيكة . والأيكة منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية معان ، وكان يسكنها بعض الناس فأرسل الله شعيباً إليهم جميعاً . وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم ، فهو أخوهم فى النسب . وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر شعيب قال " ذلك خطيب الأنبياء " لحسن مراجعته لقومه ، وقوة حجته . وكان قومه يعبدون الأصنام . ويطففون فى الكيل والميزان … فدعاهم إلى عبادة الله وحده ، ونهاهم عن الخيانة وسوء الأخلاق . ويرى بعض العلماء أن شعيباً أرسل إلى أمتين أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة وأصحاب الأيكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، وأن الله - تعالى - لم يبعث نبياً مرتين سوى شعيب - عليه السلام - . ولكن المحققين من العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة ، فأهل مدين هم أصحاب الأيكة ، أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة - أى السحابة - وأن كل عذاب كان كالمقدمة للآخر . هذا ، وقوله - سبحانه - { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً … } معطوف على ما سبقه من قصة صالح - عليه السلام - عطف القصة على القصة . أى وكما أرسلنا صالحاً - عليه السلام - إلى ثمود ، فقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيباً - عليه السلام - فقال لهم مقالة كل نبى لقومه يا قوم اعبدوا الله وحده ، فإنكم لا إله لكم على الحقيقة سواه ، فهو الذى خلقكم ، وهو الذى رزقكم ، وهو الذى إليه مرجعكم … ثم بعد أن أمرهم بإخلاص العبادة لله ، نهاهم عن التطفيف فى الكيل والميزان فقال { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } والمكيال والميزان اسمان للآلة التى يكال بها ويوزن . ونقص الكيل والميزان يكون من وجهين أحدهما أن يكون الاستنقاص من جهتهم إذا باعوا لغيرهم . وثانيهما أن يكون الاستنقاص من جهة غيرهم إذا اشتروا منه ، بأن يأخذوا منه أكثر من حقهم . فكأنه - عليه السلام - يقول لهم لا تنقصوا المكيال والميزان لا عند الأخذ ولا عند الإعطاء ، فلا تعطوا غيركم أقل من حقه إذا بعتم ، ولا تأخذوا منه أكثر من حقكم إذا اشتريتم . وإلى هذين الأمرين أشار قوله - تعالى - { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ … } ثم بين لهم الأسباب التى دعته إلى أمرهم ونهيهم فقال { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } . والخير كلمة جامعة لكل ما يرضى الإِنسان ويغنيه ويسره . ومحيط أى شامل بحيث لا يستطيع أحد الإِفلات منه . كما يحيط الظرف بالمظروف … أى أخلصوا لله عبادتكم ، والتزموا العدل فى معاملاتكم ، فإنى أراكم تملكون الوفير من المال ، وتعيشون فى رغد من العيش ، وفى بسطة من الرزق ، ومن كان كذلك فمن الواجب عليه أن يقابل هذه النعم بالشكر لواهبها وهو الله - تعالى - وأن يستعملها استعمالاً يرضيه ، وأن يعطى كل ذى حق حقه . وإنى - أيضاً - أخاف عليكم إذا ما تماديتم فى مخالفة ما آمركم به وما أنهاكم عنه ، عذاب يوم أهواله وآلامه شاملة لكل ظالم ، بحيث لا يستطيع أن يهرب منها … قال الشوكانى وصف - سبحانه - اليوم بالإِحاطة ، والمراد العذاب لأن العذاب واقع فى اليوم ، ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم ، أنهم لا يشذ منهم أحد عنه ، ولا يجدون منه ملجأ ولا مهربا " . فأنت ترى أن شعيباً - عليه السلام - بعد أن أمرهم بما يصلح عقيدتهم ونهاهم عما يفسد معاملاتهم وأخلاقهم … ذكرهم بما هم فيه من نعمة وغنى قطعاً لعذرهم حتى لا يقولوا له نحن فى حاجة إلى تطفيف المكيال والميزان لفقرنا ، ثم أخبرهم بأنه ما حمله على هذا النصح لهم إلا خوفه عليهم . ثم واصل شعيب - عليه السلام - نصحه لقومه ، فأمرهم بالوفاء بعد أن نهاهم عن النقص على سبيل التأكيد ، وزيادة الترغيب فى دعوته فقال { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } … أى ويا قوم أوفوا عند معاملاتكم أدوات كيلكم وأدوات وزنكم ، ملتزمين فى كل أحوالكم العدل والقسط . { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ … } أى ولا تنقصوهم شيئاً من حقوقهم . يقال بخس فلان فلاناً حقه إذا ظلمه وانتقصه . وهو يشمل النقص والعيب فى كل شئ … والجملة الكريمة تعميم بعد تخصيص ، لكى تشمل غير المكيل والموزون كالمزروع والمعدود ، والجيد والردئ … قال الجمل ما ملخصه وقد كرر - سبحانه - نهيهم عن النقص والبخس وأمرهم بالوفاء … لأن القوم لما كانوا مصرين على ذلك العمل القبيح ، وهو تطفيف الكيل والميزان ومنع الناس حقوقهم ، احتيج فى المنع منه إلى المبالغة فى التأكيد ، ولا شك أن التكرير يفيد شدة الاهتمام والعناية بالمأمور والمنهى عنه ، فلهذا كرر ذلك ليقوى الزجر والمنع من ذلك الفعل … " وقوله { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } تحذير لهم من البطر والغرور واستعمال نعم الله فى غير ما خلقت له . قال ابن جرير " وأصل العثى شدة الإِفساد ، بل هو أشد الإِفساد . يقال عثى فلان فى الأرض يعنى - كرضى يرضى - إذا تجاوز فى الإِفساد … " أى ولا تسعوا فى أرض الله بالفساد ، وتقابلوا نعمه بالمعاصى ، فتسلب عنكم ثم أرشدهم إلى أن ما عند الله خير وأبقى مما يجمعونه عن الطريق الحرام فقال { بَقِيَّةُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } . ولفظ { بقية } اسم مصدر من الفعل بقى ، ضد فنى . وإضافتها إلى الله - تعالى - إضافة تشريف وتيمن . أى ما يبقيه الله لكم من رزق حلال ، ومن حال صالح ، ومن ذكر حسن ، ومن أمن وبركة فى حياتكم … بسبب التزامكم بالقسط فى معاملاتكم ، هو خير لكم من المال الكثير الذى تجمعونه عن طريق بخس الناس أشياءهم . وجملة " إن كنتم مؤمنين " معترضة لبيان أن هذه الخيرية لا تتم إلا مع الإِيمان . أى ما يبقيه الله لكم من الحلال … هو خير لكم ، إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم ، أما إذا لم تكونوا كذلك فلن تكون بقية الله خيرا لكم ، لأنها لا تكون إلا للمؤمنين ، فاستجيبوا لنصيحتى لتسعدوا فى دنياكم وآخرتكم . وجملة " وما أنا عليكم بحفيظ " تحذير لهم من مخالفته بعد أن أدى ما عليه من بلاغ . أى وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ لكم أعمالكم وأحاسبكم عليها ، وأجازيكم بها الجزاء الذى تستحقونه ، وإنما أنا ناصح ومبلغ ما أمرنى ربى بتبليغه ، وهو وحده - سبحانه - الذى سيتولى مجازاتكم . وإلى هنا نجد شعيباً - عليه السلام - قد أرشد قومه إلى ما يصلحهم فى عقائدهم ، وفى معاملاتهم ، وفى صلاتهم بعضهم ببعض ، وفى سلوكهم الشخصى ، بأسلوب حكيم جامع لكل ما يسعد ويهدى للتى هى أقوم … فماذا كان رد قومه عليه ؟ لقد كان ردهم عليه - كما حكاه القرآن الكريم - طافحا بالاستهزاء به ، والسخرية منه ، فقد قالوا له { يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } . أى قال قوم شعيب له - على سبيل التهكم والاستهزاء - يا شعيب أصلاتك - التى تزعم أن ربك كلفك بها والتى أنت تكثر منها - تأمرك أن نترك عبادة الأصنام التى وجدنا عليها آباءنا ؟ والاستفهام للإِنكار والتعجب من شأنه … وأسندوا الأمر إلى الصلاة من بين سائر العبادات التى كان يفعلها ، لأنه - عليه السلام - كان كثير الصلاة ، وكانوا إذا رأوا يصلى سخروا منه . وجملة " أو أن نفعل فى أموالنا ما نشاء " إنكار منهم لترك ما تعودوه من نقص الكيل والميزان بعد إنكارهم لترك عبادة الأصنام . أى أصلاتك تأمرك أن نترك عبادة الأصنام ، وتأمرك أن نترك ما تعودنا فعله فى أموالنا من التطفيف فى الكيل والميزان … إن كانت صلاتك تأمرك بذلك ، فهى فى نظرنا صلاة باطلة ، لا وزن لها عندنا ، بل نحن نراها لوناً من ألوان جنونك وهذيانك . وجملة " إنك لأنت الحليم الرشيد " زيادة منهم فى السخرية منه - عليه السلام - وفى التهكم عليه ، فكأنهم - قبحهم الله - يقولون له كيف تأمرنا بترك عبادة الأصنام ، وبترك النقص فى الكيل والميزان ، مع علمك اليقينى بأن هذين الأمرين قد بنينا عليهما حياتنا ، ومع زعمك لنا بأنك الحليم الذى يتأنى ويتروى فى أحكامه ، الرشيد الذى يرشد غيره إلى ما ينفعه ؟ إن هذين الوصفين لا يليقان بك ، ما دمت تأمرنا بذلك ، وإنما اللائق بك أضدادهما ، أى الجهالة والسفه والعجلة فى الأحكام . قال صاحب الكشاف وأرادوا بقولهم { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } نسبته إلى غاية السفه والغى ، فعكسوا ليتهكموا به ، كما يتهكم بالشحيح الذى لا يبض حجره ، فيقال له لو أبصرك حاتم لسجد لك . وقيل معناه إنك للمتواصف بالحلم والرشد فى قومك . يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك وما اشتهرت به … " . هكذا رد قوم شعيب عليه ، وهو رد يحمل السخرية فى كل مقطع من مقاطعه ، ولكنها سخرية الشخص الذى انطمست بصيرته ، وقبحت سريرته ! ! ومع كل هذه السفاهة ترى شعيبا - عليه السلام - وهو خطيب الأنبياء - يتغاضى عن سفاهاتهم ، لأنه يحس بقصورهم وجهلهم ، كما يحس بقوة الحق الذى أتاهم به من عند ربه ، فيرد عليهم بقوله { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي … } والبينة ما يتبين به الحق من الباطل ، ويتميز به الهدى من الضلال . أى قال شعيب لقومه بأسلوب مهذب حكيم يا قوم أخبرونى إن كنت على حجة واضحة ، وبصيرة مستنيرة منحنى إياها ربى ومالك أمرى . { وَرَزَقَنِي مِنْهُ } - سبحانه - ، { رِزْقاً حَسَناً } يتمثل فى النبوة التى كرمنى بها ، وفى المال الحلال الذى بين يدى ، وفى الحياة الطيبة التى أحياها . وجواب الشرط محذوف والتقدير أخبرونى إن كنت كذلك ، هل يليق بى بعد ذلك أن أخالف أمره مسايرة لأهوائكم ؟ كلا إنه لا يليق بى ذلك ، وإنما اللائق بى أن أبلغ جميع ما أمرنى بتبليغه دون خوف أو تقصير . ثم يكشف لهم عن أخلاقه وسلوكه معهم فيقول { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ … } أى ما أريد بأمرى لكم بعبادة الله وحده ، وبنهيى إياكم عن التطفيف والبخس ، مجرد مخالفتكم ومنازعتكم ومعاكستكم ، أو أن آمركم بشئ ثم لا أفعله ، أو أنهاكم عنه ثم أفعله ، من أجل تحقيق منفعة دنيوية … كلا ، كلا إنى لا أريد شيئا من ذلك وإنما أنا إنسان يطابق قولى فعلى ، وأختار لكم ما أختاره لنفسى . قال صاحب الكشاف ما ملخصه قوله { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يقال خالفنى فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه . وخالفنى عنه إذا ولى عنه وأنت تقصده . ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفنى إلى الماء ، يريد أنه ذهب إليه واردا ، وهو ذهب عنه صادراً ، ومنه قوله - سبحانه - { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعنى ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التى نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم " . وقال الإِمام ابن كثير ، وعن مسروق أن امرأة جاءت إلى ابن مسعود - رضى الله عنه - فقالت له أأنت الذى تنهى عن الواصلة - أى التى تصل شعرها بشعر آخر - ؟ قال نعم . فقالت فلعله فى بعض نسائك ، فقال ما حفظت إذاً وصية العبد الصالح { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } . ثم بين لهم أنه ما يريد لهم إلا الإِصلاح فيقول { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ … } أى ما أريد بما أنصحكم به إلا إصلاحكم وسعادتكم ، وما دمت أستطيع ذلك ، وأقدر عليه ، فلن أقصر فى إسداء الهداية لكم . ثم يفوض الأمور إلى الله - تعالى - فيقول { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . أى وما توفيقى فيما أدعوكم إليه من خير أو أنهاكم عنه من شر إلا بتأييد الله وعونه ، فهو وحده الذى عليه أتوكل وأعتمد فى كل شئونى ، وهو وحده الذى إليه أرجع فى كل أمورى . ثم يواصل شعيب - عليه السلام - نصحه لقومه ، فينتقل بهم إلى تذكيرهم بمصارع السابقين ، محذرا إياهم من أن يكون مصيرهم كمصير الظالمين من قبلهم فيقول { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ … } ومعنى { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } لا يحملنكم ، مأخوذ من جرمه على كذا ، إذا حمله عليه . أو بمعنى لا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب ، غير أنه لا يكون إلا فى كسب مَا لاَ خير فيه ، ومنه الجريمة ، وهى اقتراف الجرم والذنب . وأصل الجرم قطع الثمرة من الشجرة ، وأطلق على الكسب ، لأن الكاسب لشئ ينقطع له . وقوله { شِقَاقِيۤ } من الشقاق بمعنى الخلاف والعداوة ، كأن لك واحد من المتعاديين فى شق غير الشق الذى يكون فيه الآخر ، والشق الجانب . والمعنى ويا قوم لا تحملنكم عداوتكم لى ، على افتراء الكذب على ، وعلى التمادى فى عصيانى ومحاربتى . فإن ذلك سيؤدى بكم إلى أن يصيبكم العذاب الذى أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح . وقوله { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } تذكير لهم بأقرب المهلكين إليهم . أى إذا كنتم تتعظوا بما أصاب قوم نوح من غرق ، وبما أصاب قوم هود من ريح دمرتهم ، وبما أصاب قوم صالح من صيحة أهلكتهم ، فاتعظوا بما أصاب قوم لوط من عذاب جعل أعلى مساكنهم أسفلها ، وهم ليسوا بعيدين عنكم لا فى الزمان ولا فى المكان . والمراد بالبعد - في قوله { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } - بعد الزمن والمكان والنسب . فزمن لوط - عليه السلام - غير بعيد من زمن شعيب - عليه السلام - . وديار قوم لوط قريبة من ديار قوم شعيب ، إذ منازل مدين عند عقبة أيلة بجوار معان مما يلى الحجاز ، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت . وكان مدين بن إبراهيم - عليهما السلام - وهو جد قبيلة شعيب ، المسماة باسمه ، متزوجا بابنة لوط " . ثم فتح لهم بعد ذلك باب الأمل فى رحمة الله ، إن هم تابوا إليه - سبحانه - وأنابوا فقال { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } . أى واستغفروا ربكم من كل ما فرط منكم من ذنوب ثم توبوا إليه توبة صادقة نصوحا { إِنَّ رَبِّي } ومالك أمرى { رَحِيمٌ } أى واسع الرحمة لمن تاب إليه ، { وَدُودٌ } أى كثير الود والمحبة لمن أطاعه . وهكذا نجد شعيبا - عليه السلام - وهو خطيب الأنبياء - يلون لقومه النصح ، وينوع لهم المواعظ ، ويطوف بهم فى مجالات الترغيب والترهيب … ولكن القوم كانوا قد بلغوا من الفساد نهايته ، ومن الجهل أقصاه … فقد ردوا على هذه النصائح الغالية بقولهم { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ … } أى قال قوم شعيب له على سبيل التحدى والتكذيب يا شعيب إننا لا نفهم الكثير من قولك ، لأنه قول لم نألفه ولم تتقبله نفوسنا ، ولقد أطلت فى دعوتنا إلى عبادة الله وترك النقص فى الكيل والميزان حتى مللنا دعوتك وسئمناها ، وصارت ثقيلة على مسامعنا ، وخافية على عقولنا … فمرادهم بهذه الجملة الاستهانة به ، والصدود عنه ، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه لا أدرى ما تقوله ، ولا أفهم ما تتفوه به من ألفاظ . قال أبو السعود ما ملخصه والفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه ، أى ما نفهم مرادك وإنما قالوا ذلك بعد أن سمعوا منه دلائل الحق البين على أحسن وجه وأبلغه ، وضاقت عليهم الحيل ، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا … كما هو ديدن المفحم المحجوج ، يقابل النصائح البينات بالسب والإِبراق والإِرعاد … إذ جعلوا كلامه المشتمل على الحكم من قبيل ما لا يفهم معناه … " . ثم قالوا له - ثانيا - { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } أى لا قوة لك إلى جانب قوتنا ، ولا قدرة عندك على مقاومتنا إن أردنا قتلك أو طردك من قريتنا . ثم قالوا له … ثالثا - { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } ورهط الرجل قومه وعشيرته الأقربون . ومنه الراهط لجحر اليربوع ، لأنه يحتمى فيه … ولفظ الرهط اسم جمع يطلق غالبا على العصابة دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة . أى ولولا عشيرتك التى هى على ملتنا وشريعتنا لرجمناك بالحجارة حتى تموت ، ولكن مجاملتنا لعشيرتك التى كفرت بك هى التى جعلتنا نبقى عليك . ثم قالوا له - رابعا - { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أى وما أنت علينا بمكرم أو محبوب أو قوى حتى نمتنع عن رجمك ، بل أنت فينا الضعيف المكروه . . وهنا نجد شعيبا - عليه السلام - ينتقل فى أسلوب مخاطبته لهم من اللين إلى الشدة ، ومن التلطف إلى الإِنكار ، دفاعا عن جلال ربه - سبحانه - فيقول لهم { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ … } أى أرهطى وعشيرتى الأقربون ، الذين من أجلهم لم ترجمونى ، أعز وأكرم عندكم من الله - تعالى - الذى هو خالقكم ورازقكم ومميتكم ومحييكم . { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أى وجعلتم أوامره ونواهيه التى جئتكم بها من لدنه - سبحانه - كالشئ المنبوذ المهمل الملقى من وراء الظهر بسبب كفركم وطغيانكم { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أى إن ربى قد أحاط علمه بأقوالكم وأعمالكم السيئة ، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من عذاب مهين . ثم زاد فى توبيخهم وتهديدهم فقال { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } والمكانة مصدر مكن ككرم ، يقال مكن فلان من الشئ مكانه ، إذا تمكن منه أبلغ تمكن ، والأمر فى قوله { اعملوا } للتهديد والوعيد . أى اعملوا كل ما فى إمكانكم عمله معى ، وابذلوا فى تهديدى ووعيدى ما شئتم ، فإن ذلك لن يضيرنى ، وكيف يضيرنى وأنا المتوكل على الله المعتمد على عونه ورعايته … ؟ وإنى سأقابل عملكم السئ هذا بعمل آخر حسن من جانبى ، وهو الدعوة إلى وحدانية الله - تعالى - وإلى مكارم الأخلاق . وقوله { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ … } استئناف مؤكد لتهديده لهم . أى اعملوا ما شئتم وأنا سأعمل ما شئت فإنكم بعد ذلك سوف تعلمون من منا الذى سينزل به عذاب يخزيه ويفضحه ويهينه ، ومن منا الذى هو كاذب فى قوله وعمله . { وَٱرْتَقِبُوۤاْ } عاقبة تكذيبكم للحق { إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أى إنى معكم منتظر ومراقب لما سيفعله الله - تعالى - بكم . وبذلك نرى شعيبا - عليه السلام - فى هاتين الآيتين ، قد استعمل مع قومه أسلوبا آخر فى المخاطبة ، يمتاز بالشدة عليهم والتهديد لهم ، لا غضبا لنفسه ، وإنما لأجل حرمات الله - تعالى - ، والدفاع عن دينه . ولم يطل انتظار شعيب - عليه السلام - ومراقبته لما يحدث لقومه ، بل جاء عقاب الله - تعالى - لهم بسرعة وحسم ، بعد أن لجوا فى طغيانهم ، وقد حكى - سبحانه - ذلك فقال { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا … } أى وحين جاء أمرنا بعذابهم ، وحل أوان هذا العذاب ، نجينا نبينا شعيبا ونجينا الذين آمنوا به وصدقوه ، حالة كونهم مصحوبين برحمة عظيمة كائنة منا لا من غيرنا . { وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } من قومه { الصَّيْحَةُ } التى زلزلتهم وأهلكتهم { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ } التى كانوا يسكنونها . { جَاثِمِينَ } أى هامدين ميتين لا تحس لهم حركة ، ولا تسمع لهم ركزا … من الجثوم وهو للناس والطير بمنزلة البروك للإِبل ، يقال ، جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم إذا وقع على صدره ولزم مكانه فلم يبرحه . { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } أى كأن هؤلاء الهلكى من قوم شعيب ، لم يعيشوا فى ديارهم قبل ذلك عيشة ملؤها الرغد والرخاء والأمان … يقال غنى فلان بالمكان ، إذا أقام به وعاش فيه فى نعمة ورغد … { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } أى ألا هلاكا مصحوبا بالخزى واللعنة والطرد من رحمة الله لقبيلة مدين ، كما هلكت من قبلهم قبيلة ثمود . وهكذا طويت صفحة أخرى من صفحات الظالمين وهم قوم شعيب … عليهم السلام - كما طويت من قبلهم صفحات قوم نوح وهود وصالح ولوط - عليهم السلام - . هذا ، ومن أهم العبر والعظات التى تتجلى واضحة فى قصة شعيب مع قومه كما جاءت فى هذه السورة الكريمة أن الداعى إلى الله لكى ينجح فى دعوته ، عليه أن ينوع خطابه للمدعوين ، بحيث يشتمل توجيهه على الترغيب والترهيب ، وعلى الأسباب وما تؤدى إليه من نتائج ، وعلى ما يقنع العقل ويقنع العاطفة … ففى هذه القصة نجد شعيبا - عليه السلام - يبدأ دعوته بأمر قومه بعبادة الله - تعالى - ، ثم ينهاهم عن أبرز الرذائل التى كانت منتشرة وهى نقص المكيال والميزان ، ثم يبين لهم الأسباب التى حملته على ذلك { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } . ثم ينهاهم نهيا عاما عن الإِفساد فى الأرض { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } . ثم يرشدهم إلى أن الرزق الحلال مع الإِيمان والاستقامة ، خير لهم من التشبع بزينة الحياة الدنيا بدون تمييز بين ما هو صالح وما هو طالح " وبقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين … " ثم يذكرهم بأنه لا يأمرهم إلا بما يأمر به نفسه ، ولا ينهاهم إلا عما ينهاها عنه وأنه ليس ممن يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ … } . ثم يذكرهم بمصارع السابقين ، ويحذرهم من أن يسلكوا مسلكهم ، لأنهم لو فعلوا ذلك لهلكوا كما هلك الذين من قبلهم { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ … } . ثم يفتح لهم باب الأمل فى عفو الله عنهم متى استغفروه وتابوا إليه { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } . ثم تراه يثور عليهم عندما يراهم يتجاوزون حدودهم بالنسبة لله - تعالى - وللحق الذى جاءهم به من عنده - سبحانه - { أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ . وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ … } . وهكذا نجد شعيبا - عليه السلام - وهو خطيب الأنبياء كما وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرشد قومه إلى ما يصلحهم ويسعدهم بأسلوب حكيم ، جامع لكل ألوان التأثير ، والتوجيه السديد . وليت الدعاة إلى الله فى كل زمان ومكان يتعلمون من قصة شعيب … عليه السلام - مع قومه أسلوب الدعوة إلى الله - تعالى . ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن قصص الأنبياء مع أقوامهم ، بالإِشارة إلى قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملته ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا … }