Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 77-83)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

- تلك هى قصة لوط مع الرسل الذين جاءوا لإِهلاك قومه ومع قومه المجرمين ، كما حكتها سورة هود . - وقد وردت هذه القصة فى سور أخرى وبأساليب متنوعة ، ومنها سورة الأعراف ، والحجر ، والشعراء ، والنمل ، والعنكبوت ، والصافات ، والذاريات ، والقمر … قال الإِمام ابن كثير ولوط ابن هاران بن آزر ، فهو ابن أخى إبراهيم ، وكان قد آمن مع عمه إبراهيم وهاجر معه إلى أرض الشام ، فبعثه الله إلى أهل بلدة سدوم وما حولها يدعوهم إلى وحدانية الله - تعالى - ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التى اخترعوها دون أن يسبقهم بها أحد من بنى آدم ولا من غيرهم ، وهو إتيان الذكور دون الإِناث ، وهذا شئ لم يكن أحد من بنى آدم يعهده ولا يألفه ولا يخطر بباله ، حتى صنع ذلك أهل سدوم - " وهم قرية بوادى الأردن عليهم لعائن الله " - وقد بدأ - سبحانه - القصة هنا بتصوير ما اعترى لوطا - عليه السلام - من ضيق وغم عندما جاءته الرسل فقال { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ … } - أى وحين جاء الملائكة إلى لوط - عليه السلام - بعد مفارقتهم لإبراهيم ، ساءه وأحزنه مجيئهم ، لأنه كان لا يعرفهم ، ويعرف أن قومه قوم سوء ، فخشى أن يعتدى قومه عليهم ، بعادتهم الشنيعة ، وهو عاجز عن الدفاع عنهم … قال ابن كثير ما ملخصه " يخبر الله - تعالى - عن قدوم رسله من الملائكة إلى لوط - عليه السلام - بعد مفارقتهم لإِبراهيم … فأتوا لوطاً - عليه السلام - وهو على ما قيل فى أرض له . وقيل فى منزله ، ووردوا عليه وهم فى أجمل صورة تكون ، على هيئة شبان حسان الوجوه ، ابتلاء من الله ، وله الحكمة والحجة البالغة ، فساءه شأنهم … " - وقوله { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } تصوير بديع لنفاد حيلته ، واغتمام نفسه وعجزه عن وجود حيلة للخروج من المكروه الذى حل بهم . قال القرطبى والذرع مصدر ذرع . وأصله أن يذرع البعير بيديه فى سيره ذرعاً على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق عن ذلك وضعف ومد عنقه . فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع . وقيل هو من ذرعه القئ أى غلبه . أى ضاق عن حبسه المكروه فى نفسه . وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم ، وما يعلمه من فسوق قومه … " . - و { ذرعا } تمييز محول عن الفاعل . أى ضاق بأمرهم ذرعه . { وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } أى وقال لوط - عليه السلام - فى ضجر وألم هذا اليوم الذى جاءنى فيه هؤلاء الضيوف ، يوم " عصيب " أى شديد هوله وكربه . وأصل العصب الشد والضغط ، فكأن هذا اليوم لشدة وقعه على نفسه قد عصب به الشر والبلاء ، أى شد به . قال صاحب تفسير التحرير والتنوير ومن بديع ترتيب هذه الجمل أنها جاءت على ترتيب حصولها فى الوجود ، فإن أول ما يسبق إلى نفس الكاره للأمر أن يساء به ويتطلب المخلص منه ، فإذا علم أنه لا مخلص له منه ضاق به ذرعاً . ثم يصدر تعبيراً عن المعانى يريح به نفسه " . - ثم بين - سبحانه - ما كان من قوم لوط - عليه السلام - عندما علموا بوجود هؤلاء الضيوف عنده فقال { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ … } - ويهرعون - بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبنى للمفعول - أى يدفع بعضهم بعضاً بشدة ، كأن سائقاً يسوقهم إلى المكان الذى فيه لوط وضيوفه . يقال هُرع الرجل وأهرع - بالبناء للمفعول فيهما - إذا أعجل وأسرع لدافع يدفعه إلى ذلك . قال الآلوسى والعامة على قراءته مبنياً للمفعول ، وقرأ جماعة يهرعون - بفتح الياء مع البناء للفاعل - من هرع - بفتح الهاء والراء - وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان ، كأن بعضه يدفع بعضاً . أى وبعد أن علم قوم لوط بوجود هؤلاء الضيوف عند نبيهم ، جاءوا إليه مسرعين يسوق بعضهم بعضاً إلى بيته من شدة الفرح ، ومن قبل هذا المجئ ، كان هؤلاء القوم الفجرة ، يرتكبون السيئات الكثيرة ، التى من أقبحها إتيانهم الرجال شهوة من دون النساء . وقد طوى القرآن الكريم ذكر الغرض الذى جاءوا من أجله ، وأشار إليه بقوله { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } للإِشعار بأن تلك الفاحشة صارت عادة من العادات المتأصلة فى نفوسهم الشاذة ، فلا يسعون إلا من أجل قضائها . ثم حكى القرآن بعد ذلك ما بادرهم به نبيهم بعد أن رأى هياجهم وتدافعهم نحو داره فقال { يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ … } … والمراد ببناته هنا زوجاتهم ونساؤهم اللائى يصلحن للزواج ، وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبى أب لأمته من حيث الشفقة وحسن التربية والتوجيه . قال ابن كثير قوله - تعالى - { يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ … } يرشدهم إلى نسائهم ، فإن النبى للأمة بمنزلة الولد ، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم ، كما قال لهم فى آية أخرى { أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } قال مجاهد لم يكن بناته ، ولكن كن من أمته ، وكل نبى أبو أمته … وقال سعيد بن جبير يعنى نساؤهم ، هن بناته وهو أب لهم … ومنهم من يرى أن المراد ببناته هنا بناته من صلبه ، وأنه عرض عليهم الزواج بهن … ويضعف هذا الرأى أن لوطا - عليه السلام - كان له بنتان أو ثلاثة - كما جاء فى بعض الروايات - وعدد المتدافعين من قومه إلى بيته كان كثيراً ، فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاثة للزواج . … ؟ ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، وقد رجحه الإِمام الرازى بأن قال ما ملخصه " وهذا القول عندى هو المختار ، ويدل عليه وجوه . منها أنه قال { هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } وبناته اللاتى من صلبه لا تكفى للجمع العظيم ، أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل … ومنها أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما " زنتا وزعورا ، وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز ، لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة … " . والمعنى أن لوطا - عليه السلام - عندما رأى تدافعهم نحو بيته لارتكاب الفاحشة التى ما سبقهم بها من أحد من العالمين ، قال لهم برجاء ورفق { يٰقَوْمِ } هؤلاء نساؤكم اللائى بمنزلة بناتى ارجعوا إليهن فاقضوا شهوتكم معهن فهن أطهر لكم نفساً وحسياً من التلوث برجس اللواط ، وأفعل التفضيل هنا وهو { أطهر } ليس على بابه ، بل هو للمبالغة فى الطهر . قال القرطبى وليس ألف أطهر للتفضيل ، حتى يتوهم أن فى نكاح الرجال طهارة ، بل هو كقولك الله أكبر - أى كبير - … ولم يكابر الله - تعالى - أحد حتى يكون الله - تعالى - أكبر منه … " ثم أضاف إلى هذا الإِرشاد لهم إرشاداً آخر فقال { فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي … } قال الجمل ولفظ الضيف فى الأصل مصدر ، ثم أطلق على الطارق ليلاً إلى المضيف ، ولذا يقع على المفرد والمذكر وضديهما بلفظ واحد ، وقد يثنى فيقال ضيفان ، ويجمع فيقال " أضياف وضيوف … " . وتخزون من الخزى وهو الإِهانة والمذلة . يقال خزى الرجل يخزى خزياً … إذا وقع فى بلية فذل بذلك . أى بعد أن أرشدهم إلى نسائهم ، أمرهم بتقوى الله ومراقبته ، فقال لهم فاتقوا الله . ولا تجعلونى مخزياً مفضوحاً أمام ضيوفى بسبب اعتدائكم عليهم ، فإن الاعتداء على الضيف كأنه اعتداء على المضيف . ويبدو أن لوطاً - عليه السلام - قد قال هذه الجملة ليلمس بها نخوتهم إن كان قد بقى فيهم بقية من نخوة ، ولكنه لما رأى إصرارهم على فجورهم وبخهم بقوله { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } يهدى إلى الرشد والفضيلة . وينهى عن الباطل والرذيلة . فيقف إلى جانبى ، ويصرفكم عن ضيوفى ؟ ولكن هذا النصح الحكيم من لوط لهم لم يحرك قلوبهم الميتة الآسنة . ولا فطرتهم الشاذة المنكوسة . بل ردوا عليه بقولهم { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } . أى قال قوم لوط له بسفاهة ووقاحة لقد علمت يا لوط علما لا شك معه ، أننا لا رغبة لنا فى النساء ، لا عن طريق الزواج ولا عن أى طريق آخر ، فالمراد بالحق هنا الرغبة والشهوة . قال الشوكانى قوله { مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أى ما لنا فيهن من شهوة ولا حاجة ، لأن من احتاج إلى شئ فكأنه حصل له فيه نوع حق ، ومعنى ما نسبوه إليه من العلم أنه قد علم منهم المكالبة على إتيان الذكور وشدة الشهوة إليهم ، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء . ويمكن أن يريدوا أنه لا حق لنا فى نكاحهن … " وقولهم { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } إشارة خبيثة منهم إلى العمل الخبيث الذى ألفوه ، وهو إتيان الذكور دون النساء أى وإنك لتعلم علماً يقينيا الشئ الذى نريده فلماذا ترجعنا ؟ ! وقولهم هذا الذى حكته الآية الكريمة عنهم ، يدل دلالة واضحة على أنهم قد بلغوا النهاية فى الخبث والوقاحة وتبلد الشعور … لذا رد عليهم لوط - عليه السلام - رد اليائس من ارعوائهم عن غيهم ، المتمنى لوجود قوة إلى جانبه تردعهم وتكف فجورهم … { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } والقوة ما يتقوى به الإِنسان على غيره . وآوى أى ألجأ وأنضوى تقول أويت إلى فلان فأنا آوى إليه أَوِيَّا أى انضممت إليه . والركن فى الأصل القطعة من البيت أو الجبل ، والمراد به هنا الشخص القوى الذى يلجأ إليه غيره لينتصر به … ولو شرطية وجوابها محذوف ، والتقدير قال لوط - عليه السلام - بعد أن رأى من قومه الاستمرار فى غيهم ، ولم يقدر على دفعهم - على سبيل التفجع والتحسر لو أن معى قوة أدفعكم بها لبطشت بكم . ويجوز أن تكون لو للتمنى فلا تحتاج إلى جواب أى ليت معى قوة أستطيع بمناصرتها لى دفع شركم . وقوله { أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } معطوف على ما قبله ، أو ليتنى أستطيع أن أجد شخصاً قوياً من ذوى المنعة والسلطان أحتمى به منكم ومن تهديدكم لى … قالوا وإنما قال لوط - عليه السلام - ذلك لأنه كان غريباً عنهم ، ولم يكن له نسب أو عشيرة فيهم . وهنا - وبعد أن بلغ الضيق بلوط ما بلغ - كشف له الملائكة عن حقيقتهم ، وبشروه بما يدخل الطمأنينة على قلبه { قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ } أى إنا رسل ربك أرسلنا إليك لنخبرك بهلاكهم ، فاطمئن فإنهم لن يصلوا إليك بسوء فى نفسك أو فينا . روى أن الملائكة لما رأوا ما لقيه لوط - عليه السلام - من الهم والكرب بسببهم قالوا له يا لوط إن ركنك لشديد … ثم ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم ، فارتدوا على أدبارهم يقولون النجاء ، وإليه الإِشارة بقوله - تعالى - فى سورة القمر { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } وقوله { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ } أى فاخرج من هذه القرية مصحوباً بالمؤمنين من أهلك فى جزء من الليل يكفى لابتعادك عن هؤلاء المجرمين . قال القرطبى قرئ " فاسر وفأسر بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان . قال - تعالى - { وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ } وقال { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ … } وقيل " فأسر " بالقطع تقال لمن سار من أول الليل … وسرى لمن سار فى آخره ، ولا يقال فى النهار إلا سار … " وقوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ … } معطوف على ما قبله وهو قوله { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ … } . أى فأسر بأهلك فى جزء من الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلى ما وراءه ، اتقاء لرؤية العذاب ، { إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } يا لوط فاتركها ولا تأخذها معك لأنها كافرة خائنة ، ولأنها سيصيبها العذاب الذى سينزل بهؤلاء المجرمين . فيهلكها معهم . قال الإِمام الرازى ما ملخصه قوله { إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو { إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } بالرفع ، وقرأ الباقون بالنصب . قال الواحدى من نصب فقد جعلها مستثناة من الأهل ، على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك أى فلا تأخذها معك … وأما الذين رفعوا فالتقدير ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم . روى عن قتادة أنه قال إنها كانت مع لوط حين خرج من القرية ، " فلما سمعت العذاب التفتت وقالت واقوماه فأصابها حجر فأهلكها " . وقوله - سبحانه - { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } بشارة أخرى للوط - عليه السلام - الذى تمنى النصرة على قومه . أى إن موعد هلاك هؤلاء المجرمين يبتدئ من طلوع الفجر وينتهى مع طلوع الشمس ، أليس الصبح بقريب من هذا الوقت الذى نحدثك فيه ؟ قال - تعالى - فى سورة الحجر { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } أى وهم داخلون فى وقت الشروق . فكان ابتداء العذاب عند طلوع الصبح وانتهاؤه وقت الشروق . والجملة الكريمة { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ … } كالتعليل للأمر بالإِسراء بأهله بسرعة ، أو جواب عما جاش بصدره من استعجاله العذاب لهؤلاء المجرمين . والاستفهام فى قوله - سبحانه - { أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } للتقرير أى بلى إنه لقريب . قال الآلوسى روى أنه - عليه السلام - سأل الملائكة عن موعد هلاك قومه فقالوا له موعدهم الصبح . فقال أريد أسرع من ذلك . فقالوا له أليس الصبح بقريب . ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ، ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين . ثم حكى - سبحانه - فى نهاية القصة ما حل بهؤلاء المجرمين من عذاب فقال { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ . مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } . أى " فلما أمرنا " بإهلاك هؤلاء القوم المفسدين { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } أى جعلنا أعلى بيوتهم أسفلها ، بأن قلبناها عليهم ، وهى عقوبة مناسبة لجريمتهم حيث قلبوا فطرتهم ، فأتوا الذكران من العالمين وتركوا ما خلق لهم ربهم من أزواجهم . … وقوله { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ } زيادة فى عقوبتهم ولعنهم . أى جعلنا أعلى قراهم أسفلها ، وأمطرنا عليها حجارة { مِّن سِجِّيلٍ } أى من حجر وطين مختلط ، قد تحجر وتصلب { مَّنْضُودٍ } أى متتابع فى النزول بدون انقطاع موضوع بعض على بعض ، من النضد وهو وضع الأشياء بعضها إلى بعض . { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } أى معلمة بعلامات من عند ربك لا يعلمها إلا هو ، ومعدة إعداداً خاصاً لإِهلاك هؤلاء القوم . { وَمَا هِيَ } أى تلك القرى المهلكة { مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } وهم مشركو مكة { بِبَعِيدٍ } أى ببعيدة عنهم ، بل هى قريبة منهم ، ويمرون عليها فى أسفارهم إلى الشام . قال - تعالى - { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ . وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أى وإنكم يا أهل مكة لتمرون على هؤلاء القوم المهلكين من قوم لوط فى وقت الصباح أى النهار ، وتمرون عليهم بالليل أفلا تعقلون ذلك فتعتبروا وتتعظوا ؟ ؟ ويجوز أن يكون الضمير فى قوله { وَمَا هِيَ } يعود إلى الحجارة التى أهلك الله بها هؤلاء القوم . أى وما هى تلك الحجارة الموصوفة بما ذكر من الظالمين ببعيد ، بل هى حاضرة مهيئة بقدرة الله - تعالى - لإِهلاك الظالمين بها . والمراد بالظالمين ما يشمل قوم لوط ، ويشمل كل من عصى الله وتجاوز حدوده ، ولم يتبع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وهكذا كانت نهاية قوم لوط ، فقد انطوت صفحتهم كما انطوت من قبلهم صفحات قوم نوح وهود وصالح - عليهم الصلاة والسلام - . هذا ومن العبر والأحكام التى نأخذها من هذه الآيات الكريمة ، أنه لا بأس على المسلم من أن يستعين بغيره لنصرة الحق الذى يدعو إليه ، ولخذلان الباطل الذى ينهى عنه . فلوط - عليه السلام - عندما رأى من قومه الإِصرار على غوايتهم ومفاسدهم تمنى لو كانت معه قوة تزجرهم وتردعهم وتمنعهم عن فسادهم . وقد علق الإِمام ابن حزم على ما جاء فى الحديث الشريف بشأن لوط - عليه السلام - فقال ما ملخصه وظن بعض الفرق أن ما جاء فى الحديث الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم - " رحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد " إنما هو من باب الإِنكار على لوط - عليه السلام - فى قوله { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } . والحق أنه لا تخالف بين القولين ، بل كلاهما حق ، لأن لوطاً - عليه السلام - إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش . من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين ، وما جهل قط لوط - عليه السلام - أنه يأوى من ربه - تعالى - إلى أمنع قوة ، وأشد ركن . ولا جناح على لوط - عليه السلام - فى طلب قوة من الناس - فقد قال الله - تعالى - { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ } وقد طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار نصرته حتى يبلغ كلام ربه ، فكيف ينكر على لوط أمراً هو فعله ؟ ! ! تالله ما أنكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أخبر أن لوطا كان يأوى إلى ركن شديد ، يعنى من نصر الله له بالملائكة ، ولم يكن لوط علم بأنه ملائكة … ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك فقصت علينا ما كان بين شعيب - عليه السلام - وقومه وكيف أنه دعاهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده بأسلوب بليغ حكيم ، ولكنهم لم يستجيبوا له ، فكانت عاقبتهم الهلاك كالذين من قبلهم قال - تعالى - { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً … }