Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 19-22)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فقوله - سبحانه - { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ … } شروع فى الحديث عما جرى ليوسف من أحداث بعد أن ألقى به إخوته فى الجب . والسيارة جماعة المسافرين ، وكانوا - كما قيل - متجهين من بلاد الشام إلى مصر . والوارد هو الذى يرد الماء ليستقى للناس الذين معه . ويقع هذا اللفظ على الفرد والجماعة . فيقال لكل من يرد الماء وارد ، كما يقال للماء مورود . وقوله { فَأَدْلَىٰ } من الإِدلاء بمعنى إرسال الدلو فى البئر لأخذ الماء . والدلو إناء معروف يوضع فيه الماء . وفى الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام ، والتقدير وبعد أن ألقى إخوة يوسف به فى الجب وتركوه وانصرفوا لشأنهم ، جاءت إلى ذلك المكان قافلة من المسافرين ، فأرسلوا واردهم ليبحث لهم عن ماء ليستقوا ، فوجد جبا ، فأدلى دلوه فيه ، فتعلق به يوسف ، فلما خرج ورآه فرح به وقال يا بشرى هذا غلام . وأوقع النداء على البشرى ، للتعبير عن ابتهاجه وسروره ، حتى لكأنها شخص عاقل يستحق النداء ، أى يا بشارتى أقبلى فهذا أوان إقبالك . وقيل المنادى محذوف والتقدير يا رفاقى فى السفر أبشروا فهذا غلام ، وقد خرج من الجب . وقرأ أهل المدينة ومكة يا بشراى هذا غلام . بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم . والضمير المنصوب وهو الهاء فى قوله { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } يعود إلى يوسف . أما الضمير المرفوع فيعود إلى السيارة ، وأسر من الإِسرار الذى هو ضد الإِعلان . والبضاعة عرضو التجارة ومتاعها . وهذا اللفظ مأخوذ من البضع بمعنى القطع ، وأصله جملة من اللحم تبضع أى تقطع . وهو حال من الضمير المنصوب فى { وأسروه } . والمعنى وأخفى جماعة المسافرين خبر التقاط يوسف من الجب مخافة أن يطلبه أحد من السكان المجاورين للجب ، واعتبره بضاعة سرية لهم ، وعزموا على بيعه على أنه من العبيد الأرقاء . ولعل يوسف - عليه السلام - قد أخبرهم بقصته بعد إخراجه من الجب . ولكنهم لم يلتفتوا إلى ما أخبرهم به طمعا فى بيعه والانتفاع بثمنه . ومن المفسرين من يرى أن الضمير المرفوع فى قوله { وأسروه } يعود على الوارد ورفاقه ، فيكون المعنى وأسر الوارد ومن معه أمر يوسف عن بقية أفراد القافلة ، مخافة أن يشاركوهم فى ثمنه إذا علموا خبره ، وزعموا أن أهل هذا المكان الذى به الجب دفعوه إليهم ليبيعوه لهم فى مصر على أنه بضاعة لهم . ومنهم من يرى أن الضمير السابق يعود إلى إخوة يوسف . قال الشوكانى ما ملخصه وذلك أن يهوذا كان يأتى إلى يوسف كل يوم بالطعام ، فأتاه يوم خروجه من الجب فلم يجده ، فأخبر إخوته بذلك ، فأتوا إلى السيارة وقالوا لهم " إن الغلام الذى معكم عبد لنا قد أبق ، فاشتروه منهم بثمن بخس ، وسكت يوسف مخافة أن يأخذه إخوته فيقتلوه " . وعلى هذا الرأى يكون معنى { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أخفى إخوة يوسف كونه أخا لهم ، واعتبروه عرضا من عروض التجارة القابلة للبيع والشراء . ويكون المراد بقوله - تعالى - بعد ذلك { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } الشراء الحقيقى ، بمعنى أن السيارة اشتروا يوسف من إخوته بثمن بخس . والحق أن الرأى الأول هو الذى تطمئن إليه النفس ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية ، ولأنه بعيد عن التكلف الذى يرى واضحا فى القولين الثانى والثالث . وقوله { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أى لا يخفى عليه شئ من إسرارهم . ومن عملهم السئ فى حق يوسف . حيث إنهم استرقوه وباعوه بثمن بخس ، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، كما جاء فى الحديث الشريف . وقوله - سبحانه - { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِين } بيان لما فعله السيارة بيوسف بعد أن أسروه بضاعة . وقوله { شروه } هنا بمعنى باعوه . والبخس النقص ، يقال بخس فلان فلانا حقه ، إذا نقصه وعابه . وهو هنا بمعنى المبخوس . و { دراهم } جمع درهم ، وهى بدل من { ثمن } . و { معدودة } صفة لدراهم ، وهى كناية عن كونها قليلة ، لأن الشئ القليل يسهل عده ، بخلاف الشئ الكثير ، فإنه فى الغالب يوزن وزنا . والمعنى أن هؤلاء المسافرين بعد أن أخذوا يوسف ليجعلوه عرضا من عروض تجارتهم ، باعوه فى الأسواق بثمن قليل تافه ، وهو عبارة عن دراهم معدودة ، ذكر بعضهم أنها لا تزيد على عشرين درهما . وقوله { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ } بيان لعدم حرصهم على بقائه معهم ، إذ أصل الزهد قلة الرغبة فى الشئ ، تقول زهدت فى هذا الشئ ، إذا كنت كارها له غير مقبل عليه . أى وكان هؤلاء الذين باعوه من الزاهدين فى بقائه معهم ، الراغبين فى التخلص منه بأقل ثمن قبل أن يظهر من يطالبهم به . قال الآلوسى ما ملخصه " وزهدهم فيه سببه أنهم التقطوه من الجب ، والملتقط للشئ متهاون به لا يبالى أن يبيعه بأى ثمن خوفا من أن يعرض له مستحق ينزعه منه … " وقوله - سبحانه - { وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً … } بيان لبعض مظاهر رعاية الله - تعالى - ليوسف - عليه السلام - . والذى اشتراه ، قالوا إنه كان رئيس الشرطة لملك مصر فى ذلك الوقت ولقبه القرآن بالعزيز كما سيأتى فى قوله - تعالى - { قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ … } و { مِن مِّصْرَ } صفة لقوله { ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ } . وامرأته المراد بها زوجته ، واسمها كما قيل زليخا أو راعيل . ومثواه من المثوى وهو مكان الإِقامة والاستقرار . يقال ثوى فلان بمكان كذا ، إذا أطال الإِقامة به . ومنه قوله - تعالى - { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ … } أى مقيما معهم . أى وقال الرجل المصرى الذى اشترى يوسف لامرأته اجعلى محل إقامته كريما ، وأنزليه منزلا حسنا مرضيا . وهذا كناية عن وصيته لها بإكرامه على أبلغ وجه ، لأن من أكرم المحل بتنظيفه وتهيئته تهيئة حسنة فقد أكرم صاحبه . قال صاحب الكشاف قوله { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } أى اجعلى منزله ومقامه عندنا كريما أى حسنا مرضيا بدليل قوله بعد ذلك { إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ } والمراد تفقديه بالإِحسان ، وتعهديه بحسن الملكة ، حتى تكون نفسه طيبة فى صحبتنا ، ساكنة فى كنفنا . ويقال للرجل كيف أبو مثواك وأم مثواك ؟ لمن ينزل به من رجل أو امرأة ، يراد هلى تطيب نفسك بثوائك عنده وهل يراعى حق نزولك به ؟ واللام فى { لامرأته } متعلق بقال … " . وقوله { عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً … } بيان لسبب أمره لها بإكرام مثواه . أى عسى هذا الغلام أن ينفعنا فى قضاء مصالحنا ، وفى مختلف شئوننا ، أو نتبناه فيكون منا بمنزلة الولد ، فإنى أرى فيه علامات الرشد والنجابة ، وأمارات الأدب وحسن الخلق . قالوا وهذه الجملة { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } توحى بأنهما لم يكن عندهما أولاد . والكاف فى قوله - سبحانه - { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ } فى محل نصب ، على أنه نعت لمصدر محذوف والإِشارة إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته ، وانتشاله من الجب ، ومحبة العزيز له … و " مكنا " من التمكين بمعنى التثبيت ، والمراد بالأرض أرض مصر التى نزل فيها . أى ومثل ذلك التمكين البديع الدال على رعايتنا له ، مكنا ليوسف فى أرض مصر ، حتى صار أهلا للأمر والنهى فيها . وقوله - سبحانه - { وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } علة لمعلل محذوف ، فكأنه قيل وفعلنا ذلك التمكين له ، لنعلمه من تأويل الأحاديث ، بأن نهبه من صدق اليقين ، واستنارة العقل ، ما يجعله يدرك معنى الكلام إدراكا سليما ، ويفسر الرؤى تفسيرا صحيحا صادقا . وقوله { وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } تذييل قصد به بيان قدرة الله - تعالى - ونفاذ مشيئته . فأمر الله هنا هو ما قدره وأراده . أى والله - تعالى - متمم ما قدره وأراده ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ولا ينازعه منازع ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك حق العلم ، فيما يأتون ويذرون من أقوال وأفعال . والتعبير بقوله { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } احتراس لإِنصاف ومدح القلة من الناس الذين يعطيهم الله - تعالى - من فضله ما يجعلهم لا يندرجون فى الكثرة التى لا تعلم ، بل هو - سبحانه - يعطيهم من فضله ما يجعلهم يعلمون مالا يعلمه غيرهم . ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر إنعامه على يوسف فقال { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } . والأشد قوة الإِنسان ، وبلوغه النهاية فى ذلك ، مأخوذ من الشدة بمعنى القوة والارتفاع ، يقال شد النهار إذا ارتفع . ويرى بعضهم أنه مفرد جاء بصيغة الجمع ويرى آخرون أنه جمع لا واحد له من لفظه وقيل هو جمع شدة كأنعم ونعمة . والمعنى وحين بلغ يوسف - عليه السلام - منتهى شدته وقوته ، وهى السن التى كان فيها - على ما قيل - ما بين الثلاثين والأربعين . { آتيناه } أى أعطيناه بفضلنا وإحساننا . { حكما } أى حكمة ، وهى الإِصابة فى القول والعمل أو هى النبوة . و { علما } أى فقها فى الدين ، وفهما سليما لتفسير الرؤى ، وإدراكا واسعا لشئون الدين والدنيا . وقوله { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أى ومثل هذا الجزاء الحسن والعطاء الكريم ، نعطى ونجازى الذين يحسنون أداء ما كلفهم الله - تعالى - به ، فكل من أحسن فى أقواله وأعماله أحسن الله - تعالى - جزاءه . ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، لتحدثنا عن مرحلة من أدق المراحل وأخطرها ، فى حياة يوسف - عليه السلام - وهى مرحلة التعرض للفتن والمؤامرات بعد أن بلغ أشده ، وآتاه الله - تعالى - حكما وعلما ، وقد واجه يوسف - عليه السلام - هذه الفتن بقلب سليم ، وخلق قويم ، فنجاه الله - تعالى - منها . استمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى بأسلوبها البليغ ما فعلته معه امرأة العزيز من ترغيب وترهيب ، وإغراء وتهديد … فتقول { وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ … }