Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 16-18)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فقوله { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } . والعشاء وقت غيبوبة الشفق الباقى من بقايا شعاع الشمس ، وبدء حلول الظلام والمراد بالبكاء هنا البكاء المصطنع للتمويه والخداع لأبيهم ، حتى يقنعوه - فى زعمهم - أنهم لم يقصروا فى حق أخيهم . أى وجاءوا أباهم بعد ان أقبل الليل بظلامه يتباكون ، متظاهرين بالحزن والأسى لما حدث ليوسف ، وفى الأمثال " دموع الفاجر بيديه " . { قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أى نتسابق عن طريق الرمى بالسهام ، أو على الخيل ، أو على الأقدام . يقال فلان وفلان استبقا أى تسابقا حتى ينظر أيهما يسبق الآخر . { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } أى عند الأشياء التى نتمتع بها وننتفع فى رحلتنا ، كالثياب والأطعمة ، وما يشبه ذلك . { فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } فى تلك الفترة التى تركناه فيها عند متاعنا . والمراد قتله الذئب ، ثم أكله دون أن يبقى منه شيئا ندفنه . { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } أى وما أنت بمصدق لنا فيما أخبرناك به من أن يوسف قد أكله الذئب ، حتى ولو كنا صادقين فى ذلك ، لسوء ظنك بنا ، وشدة محبتك له . وهذه الجملة الكريمة توحى بكذبهم على أبيهم ، وبمخادعتهم له ، ويكاد المريب أن يقول خذونى - كما يقولون - . ولكنهم لم يكتفوا بهذا التباكى وبهذا القول ، بل أضافوا إلى ذلك تمويها آخر حكاه القرآن فى قوله { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ … } أى بدم ذى كذب ، فهو مصدر بتقدير مضافه ، أو وصف الدم بالمصدر مبالغة ، حتى لكأنه الكذب بعينه ، والمصدر هنا بمعنى المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، أى بدم مكذوب . والمعنى وبعد أن ألقوا بيوسف فى الجب ، واحتفظوا بقميصه معهم ، ووضعوا على هذا القميص دما مصطنعا ليس من جسم يوسف ، وإنما من جسم شئ آخر قد يكون ظبيا وقد يكون خلافه . وقال - سبحانه - { عَلَىٰ قَمِيصِهِ } للإِشعار بأنه دم موضوع على ظاهر القميص وضعا متكلفا مصطنعا ، ولو كان من أثر افتراس الذئب لصاحبه ، لظهر التمزق والتخريق فى القميص ، ولتغلغل الدم فى قطعة منه . ولقد أدرك يعقوب - عليه السلام - من قسمات وجوههم ، ومن دلائل حالهم ، ومن نداء قلبه المفجوع أن يوسف لم يأكله الذئب ، وأن هؤلاء المتباكين هم الذين دبروا له مكيدة ما ، وأنهم قد اصطنعوا هذه الحيلة المكشوفة مخادعة له ، ولذا جابههم بقوله { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً … } . والتسويل التسهيل والتزيين . يقال سولت لفلان نفسه هذا الفعل أى زينته وحسنته له ، وصورته له فى صورة الشئ الحسن مع أنه قبيح . أى قال يعقوب لأبنائه بأسى ولوعة بعد أن فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا قال لهم ليس الأمر كما زعمتم من أن يوسف قد أكله الذئب ، وإنما الحق أن نفوسكم الحاقدة عليه هى التى زينت لكم أن تفعلوا معه فعلا سيئا قبيحا ، ستكشف الأيام عنه بإذن ربى ومشيئته . ونكر الأمر فى قوله { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } لاحتماله عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف ، كالقتل ، أو التغريب ، أو البيع فى الأسواق لأنه لم يكن يعلم على سبيل اليقين ما فعلوه به . وفى هذا التنكير والإِبهام - أيضا - ما فيه من التهويل والتشنيع لما اقترفوه فى حق أخيهم . وقوله { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أى فصبرى صبر جميل ، وهو الذى لا شكوى فيه لأحد سوى الله - تعالى - ولا رجاء معه إلا منه - سبحانه - . ثم أضاف إلى ذلك قوله { وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } أى والله - تعالى - هو الذى أستعين به على احتمال ما تصفون من أن ابنى يوسف قد أكله الذئب . أو المعنى والله - تعالى - وحده هو المطلوب عونه على إظهار حقيقة ما تصفون ، وإثبات كونه كذبا ، وأن يوسف مازال حيا ، وأنه - سبحانه - سيجمعنى به فى الوقت الذى يشاؤه . قال الآلوسى " أخرج ابن ابى حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أن إخوة يوسف - بعد أن ألقوا به فى الجب - أخذوا ظبيا فذبحوه ، ولطخوا بدمه قميصه ، ولما جاءوا به إلى أبيهم جعل يقلبه ويقول تا الله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا الذئب ! ! أكل ابنى ولم يمزق عليه قميصه … " . وقال القرطبى " استدل الفقهاء بهذه الآية فى إعمال الأمارات فى مسائل الفقه كالقسامة وغيرها ، وأجمعوا على أن يعقوب - عليه السلام - قد استدل على كذب أبنائه بصحة القميص ، وهكذا يجب على الحاكم أن يلحظ الأمارات والعلامات … " . وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه " وفى الآية من الفوائد أن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود وبمن يراعيه … وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة ، لم يصدق ، وأن من طلب مراده بمعصية الله - تعالى - فضحه الله - عز وجل - ، وأن القدر كائن ، وأن الحذر لا ينجى منه … " . وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ ، وتصويرها المؤثر ، ما تآمر به إخوة يوسف عليه ، وما اقترحوه لتنفيذ مكرهم ، وما قاله لهم أوسطهم عقلا ورأيا ، وما تحايلوا به على أبيهم لكى يصلوا إلى مآربهم ، وما رد به عليهم أبوهم ، وما قالوه له بعد أن نفذوا جريمتهم فى أخيهم . بأن ألقوا به فى الجب … ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، لتقص علينا مرحلة أخرى من مراحل حياة يوسف - عليه السلام - حيث حدثتنا عن انتشاله من الجب ، وعن بيعه بثمن بخس وعن وصية الذى اشتراه لامرأته ، وعن مظاهر رعاية الله - تعالى - له فقال - سبحانه - { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ … }