Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 69-82)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - سبحانه - { وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ … } شروع فى بيان ما دار بين يوسف - عليه السلام - وبين شقيقه " بنيامين " بعد أن حضر مع إخوته . وقوله { آوى } من الإِيواء بمعنى الضم . يقال آوى فلان فلاناً إذا ضمه إلى نفسه ، ويقال تأوت الطير وتآوت ، إذا تضامت وتجمعت . وقوله { فَلاَ تَبْتَئِسْ } افتعال من البؤس وهو الشدة والضر . يقال بَئِس - كسَمِع - فلان بؤساً وبئوساً ، إذا اشتد حزنه وهمه . والمعنى وحين دخل إخوة يوسف عليه ، ما كان منه إلا أن ضم إليه شقيقه وقال له مطمئناً ومواسياً إنى أنا أخوك الشقيق . فلا تحزن بسبب ما فعله إخوتنا معنا من الحسد والأذى ، فإن الله - تعالى - قد عوض صبرنا خيراً ، وأعطانا الكثير من خيره وإحسانه . قال الإِمام ابن كثير يخبر الله - تعالى - عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه " بنيامين " وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته وأفاض عليهم الصلة والإِحسان ، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له وقال { فَلاَ تَبْتَئِسْ } أى لا تأسف على ما صنعوا بى ، وأمره بكتمان هذا عنهم ، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززا مكرماً معظماً . ثم بين - سبحانه - ما فعله يوسف - عليه السلام - مع إخوته ، لكى يبقى أخاه معه فلا يسافر معهم عند رحيلهم فقال { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ … } والجهاز كما سبق أن بينا ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع … والسقاية إناء كان الملك يشرب فيه ، وعادة ما يكون من معدن نفيس ولقد كان يوسف - عليه السلام - يكتال به فى ذلك الوقت نظراً لقلة الطعام وندرته . وهذه السقاية هى التى أطلق عليها القرآن بعد ذلك لفظ الصواع أى وحين أعطى يوسف إخوته ما هم فى حاجة إليه من زاد وطعام ، أوعز إلى بعض فتيانه أن يدسوا الصواع فى متاع أخيه " بنيامين " دون أن يشعر بهم أحد … وقوله { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } بيان لما قاله بعض أعوان يوسف لإِخوته عندما تهيئوا للسفر ، وأوشكوا على الرحيل . والمراد بالمؤذن هنا المنادى بصوت مرتفع ليعلم الناس ما يريد إعلامهم به . والمراد بالعير هنا أصحابها . والأصل فيها أنها اسم للإِبل التى تحمل الطعام وقيل العير تطلق فى الأصل على قافلة الحمير ، ثم تجوز فيها فأطلقت على كل قافلة تحمل الزاد وألوان التجارة . أى ثم نادى مناد على إخوة يوسف - عليه السلام - وهم يتجهزون للسفر ، أو وهم منطلقون إلى بلادهم بقوله يا أصحاب هذه القافلة توقفوا حتى يفصل فى شأنكم فأنتم متهمون بالسرقة . قال الآلوسى ما ملخصه " والذى يظهر أن ما فعله يوسف ، من جعله السقاية فى رحل أخيه . ومن اتهامه لإِخوته بالسرقة … إنما كان بوحى من الله - تعالى - لما علم - سبحانه - فى ذلك من الصلاح ، ولما أراد من امتحانهم بذلك . ويؤيده قوله - تعالى - { كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } . ثم بين - سبحانه - ما قاله إخوة يوسف بعد أن سمعوا المؤذن يستوقفهم ويتهمهم بالسرقة فقال - تعالى - { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ } . وتفقدون من الفقد ، وهو غيبة الشئ عن الحس بحيث لا يعرف مكانه . أى قال إخوة يوسف بدهشة وفزع لمن ناداهم وأخبرهم بأنهم سارقون ، قالوا لهم ماذا تفقدون - أيها الناس - من أشياء حتى اتهمتمونا بأننا سارقون ؟ ! ! ! وهنا رد عليهم المؤذن ومن معه من حراس { قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ } أى صاعه الذى يشرب فيه ، ويكتال به للممتارين . { وَلِمَن جَآءَ بِهِ } أى بهذا الصاع ، أو دل على سارقه . { حِمْلُ بَعِيرٍ } من الطعام زيادة على حقه كمكافأة له . { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أى وأنا بهذا الحمل كفيل بأن أدفعه لمن جاءنا بصواع الملك . ويبدو أن القائل لهذا القول هو المؤذن السابق ، ولعله قد قال ذلك بتوجيه من يوسف - عليه السلام - . وهنا نجد إخوة يوسف يردون عليهم رداً يدل على استنكارهم لهذه التهمة وعلى تأكدهم من براءتهم فيقولون { قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } . أى قال إخوة يوسف للمنادى ومن معه الذين اتهموهم بالسرقة تالله يا قوم ، لقد علمتم من حالنا وسلوكنا وأخلاقنا ، أننا ما جئنا إلى بلادكم ، لكى نفسد فيها أو نرتكب ما لا يليق ، وما كنا فى يوم من الأيام ونحن فى أرضكم لنرتكب هذه الجريمة ، لأنها تضرنا ولا تنفعنا ، حيث إننا فى حاجة إلى التردد على بلادكم لجلب الطعام ، والسرقة تحول بيننا وبين ذلك ، لأنكم بسببها ستمنعوننا من دخول أرضكم ، وهذه خسارة عظيمة بالنسبة لنا . وهنا يرد عليهم المنادى وأعوانه بقولهم { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } . أى قال المنادى وأعوانه لإِخوة يوسف الذين نفوا عن أنفسهم تهمة السرقة نفياً تاماً . إذاً فما جزاء وعقاب هذا السارق لصواع الملك فى شريعتكم ، إن وجدنا هذا الصواع فى حوزتكم ، وكنتم كاذبين فى دعواكم أنكم ما كنتم سارقين . فرد عليهم إخوة يوسف ببيان حكم هذا السارق فى شريعتهم بقولهم { قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } . والمراد بالجزاء العقاب الذى يعاقب به السارق فى شريعتهم ، والضمير فى قوله { جزاؤه } يعود إلى السارق . أى قال إخوة يوسف جزاء السارق الذى يوجد صواع الملك فى رحله ومتاعه أن يسترق لمدة سنة ، هذا هو جزاؤه فى شريعتنا . قال الشوكانى ما ملخصه وقوله { جزاؤه } مبتدأ ، وقوله { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } خبر المبتدأ . والتقدير جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد فى رحله - أى استرقاقه لمدة سنة - ، وتكون جملة { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } لتأكيد الجملة الأولى وتقريرها . قال الزجاج وقوله { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } زيادة فى البيان . " أى جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غيره " . وقالوا { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } ولم يقولوا جزاء السارق أو جزاء سرقته ، للإِشارة إلى كمال نزاهتهم ، وبراءة ساحتهم من السرقة ، حتى لكأن ألسنتهم لا تطاوعهم بأن ينطقوا بها فى هذا المقام . وقوله { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } مؤكد لما قبله ، أى مثل هذا الجزاء العادل ، وهو الاسترقاق لمدة سنة ، نجازى الظالمين الذين يعتدون على أموال غيرهم . وقوله - سبحانه - { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } معطوف على كلام محذوف يفهم من المقام . والتقدير وبعد هذه المحاورة التى دارت بين إخوة يوسف وبين الذين اتهموهم بالسرقة أخبر الإِخوة بتفتيش أمتعتهم للبحث عن الصوَّاع بداخلها . " فبدأ " المؤذن بتفتيش أوعيتهم ، قبل أن يفتش وعاء " بنيامين " فلم يجد شيئاً بداخل أوعيتهم . فلما وصل إلى وعاء " بنيامين " وقام بتفتيشه وجد السقاية بداخله ، فاستخرجها منه على مشهد منهم جميعاً . ويبدو أن هذا الحوار من أوله كان بمشهد ومرأى من يوسف - عليه السلام - وكان أيضاً بتدبير وتوجيه منه للمؤذن ومن معه ، فهو الذى أمر المؤذن بأن ينادى { أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } وهو الذى أشار عليه بأن يسألهم عن حكم السارق فى شريعتهم ، وهو الذى أمره بأن يبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل أن يفتش وعاء شقيقه " بنيامين " دفعا للتهمة ، ونفيا للشبهة … روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعاء " بنيامين " لتفتيشه قال يوسف - عليه السلام - ما أظن هذا أخذ شيئاً ؟ فقالوا " والله لا تتركه حتى تنظر فى رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا " . ويطوى القرآن ما اعترى إخوة يوسف من دهشة وخزى ، بعد أن وجدت السقاية فى رحل " بنيامين " وبعد أن أقسموا بالله على براءتهم من تهمة السرقة … يطوى القرآن كل ذلك ، ليترك للعقول أن تتصوره … ثم يعقب على ما حدث ببيان الحكمة التى من أجلها ألهم الله - تعالى - يوسف أن يفعل ما فعل من دس السقاية فى رحل أخيه ، ومن سؤال إخوته عن جزاء السارق فى شريعتهم فيقول { كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } و " كدنا " من الكيد وأصله الاحتيال والمكر ، وهو صرف غيرك عما يريده بحيلة ، وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح ، ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل . والمراد به هنا النوع المحمود ، واللام فى " ليوسف " للتعليل . والمراد بدين الملك شريعته التى يسير عليها فى الحكم بين الناس . والمعنى مثل هذا التدبير الحكيم دبرنا من أجل يوسف ما يوصله إلى غرضه ومقصده ، وهو احتجاز أخيه بنيامين معه ، بأن ألهمناه بأن يضع السقاية فى رحل أخيه ، وبأن يسأل إخوته عن حكم السارق فى شريعتهم … وما كان يوسف ليستطيع أن يحتجز أخاه معه ، لو نفذ شريعة ملك مصر ، لأن شريعته لا تجيز استرقاق السارق سنة كما هو الحال فى شريعة يعقوب ، وإنما تعاقب السارق بضربه وتغريمه قيمة ما سرقه . وما كان يوسف ليفعل كل ذلك التدبير الحكيم فى حال من الأحوال ، إلا فى حال مشيئة الله ومعونته وإذنه بذلك ، فهو - سبحانه - الذى ألهمه أن يدس السقاية فى رحل أخيه ، وهو - سبحانه - الذى ألهمه أن يسأل إخوته عن عقوبة السارق فى شريعتهم حتى يطبقها على من يوجد صواع الملك فى رحله منهم . والجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله - تعالى - على يوسف حيث ألهمه ما يوصله إلى مقصوده بأحكم أسلوب . قال الآلوسى ما ملخصه قوله { كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } أى مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإِخوة إلى الإِفتاء المذكور … دبرنا وصنفنا من أجل يوسف ما يحصل به غرضه … وقوله { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ } أى فى حكمه وقضائه والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد ، كأنه قيل لماذا فعل ؟ فقيل لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده فى دين الملك فى أمر السارق إلا بذلك الكيد ، لأن جزاء السارق فى دينه أن يضاعف عليه الغرم … دون أن يسترق كما هو الحال فى شريعة يعقوب . وقوله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } أى لم يكن يوسف ليتمكن من أخذ أخيه فى حال من الأحوال ، إلا فى حال مشيئته - تعالى - التى هى عبارة عن ذلك الكيد المذكور … " قالوا وفى الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً " . وقوله - سبحانه - { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } استئناف لبيان قدرة الله - تعالى - وسعة رحمته وعطائه . أى نرفع من نشاء رفعه من عبادنا إلى درجات عالية من العلوم والمعارف والعطايا والمواهب … كما رفعنا درجات يوسف - عليه السلام - . { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ } من أولئك المرفوعين { عليم } يزيد عنهم فى علمهم وفى مكانتهم عند الله - تعالى - فهو - سبحانه - العليم بأحوال عباده ، وبمنازلهم عنده ، وبأعلاهم درجة ومكانة . وقال - سبحانه - { نرفع } بصيغة الاستقبال وللأشعار بأن ذلك سنة من سننه الإِلهية التى لا تتخلف ولا تتبدل ، وأن عطاءه - سبحانه - لا يناله إلا الذين تشملهم إرادته ومشيئته كما تقتضيه حكمته . وجاءت كلمة { درجات } بالتنكير ، للإِشارة إلى عظمها وكثرتها . ثم حكى - سبحانه - ما قاله إخوة يوسف فى أعقاب ثبوت تهمة السرقة على أخيه " بنيامين " فقال - تعالى - { قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ … } أى قال إخوة يوسف - عليه السلام - بعد هذا الموقف المحرج لهم . إن يسرق بنيامين هذا الصواع الخاص بالملك فقد سرق أخ له من قبل - وهو يوسف - ما يشبه ذلك . وقولهم هذا يدل على أن صنيعهم بيوسف وأخيه ما زال متمكناً من نفوسهم . وقد ذكر المفسرون هنا روايات متعددة فى مرادهم بقولهم هذا ، ومن بين هذه الروايات ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى الآية " سرق يوسف - عليه السلام - صنماً لجده وكان هذا الصنم من ذهب وفضه ، فكسره وألقاه فى الطريق ، فعير إخوته بذلك " . وقوله { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَٱللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } بيان لموقفه من مقالتهم ، والضمير فى " فأسرها " يعود إلى تلك المقالة التى قالوها . أى سمع يوسف - عليه السلام - ما قاله إخوته فى حقه وفى حق شقيقه فساءه ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، ولم يظهر لهم تأثره مما قالوه وإنما رد عليهم بقوله " بل أنتم " أيها الإخوة " شر مكانا " أى موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة وهو برئ ، لأنكم أنتم الذين كذبتم على أبيكم وخدعتموه ، وقلتم له بعد أن ألقيتم أخاكم فى الجب ، لقد أكله الذئب . { وَٱللَّهُ } - تعالى - { أَعْلَمْ } منى ومنكم " بما تصفون " به غيركم من الأوصاف التى يخالفها الحق ، ولا يؤيدها الواقع . ثم حكى - سبحانه - ما قالوا ليوسف على سبيل الرجاء والاستعطاف لكى يطلق لهم أخاهم حتى يعود معهم إلى أبيهم فقال { قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } . أى قال إخوة يوسف له على سبيل الاستعطاف { يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ } الذى أكرمنا وأحسن إلينا { إِنَّ } أخانا الذى أخذته على سبيل الاسترقاق لمدة سنة ، قد ترك من خلفه فى بلادنا { أَباً شَيْخاً كَبِيراً } متقدماً فى السن ، وهذا الأب يحب هذا الابن حباً جماً فإذا كان ولا بد من أن تأخذ واحدا على سبيل الاسترقاق بسبب هذه السرقة { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } حتى لا نفجع أبانا فيه . وإننا ما طلبنا منك هذا الطلب ، إلا لأننا { نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } إلينا ، المكرمين لنا ، فسر على طريق هذا الإِحسان والإِكرام ، وأطلق سراح أخينا " بنيامين " ليسافر معنا . ولكن هذا الرجاء والتلطف والاستعطاف منهم يوسف ، لم ينفعهم شيئاً ، فقد رد عليهم فى حزم وحسم بقوله { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ … } و " معاذ " منصوب بفعل محذوف . أى قال يوسف لهم نعوذ بالله - تعالى - معاذا ، من أن نأخذ فى جريمة السرقة إلا الشخص الذى وجدنا صواع الملك عنده وهو " بنيامين " وأنتم الذين أفتيتم بأن السارق فى شريعتكم عقوبته استرقاقه لمدة سنة ، فنحن نسير فى هذا الحكم تبعاً لشريعتكم . { إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } إذا أخذنا شخصاً آخر سوى الذى وجدنا متاعنا عنده ، والظلم تأباه شريعتنا كما تأباه شريعتكم ، فاتركوا الجدال فى هذا الأمر الذى لا ينفع معه الجدال ، لأننا لا نريد أن نكون ظالمين . وبهذا الرد الحاسم قطع يوسف حبال آمال إخوته فى العفو عن بنيامين أو فى أخذ أحدهم مكانه ، فانسحبوا من أمامه تعلوهم الكآبة ، وطفقوا يفكرون فى مصيرهم وفى موقفهم من أبيهم عند العودة إليه . وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ … } . وقوله " استيأسوا " يئسوا يأساً تاماً فالسين والتاء للمبالغة . و " خلصوا " من الخلوص بمعنى الانفراد . و " نجيا " حال من فاعل خلصوا . وهو مصدر أطلق على المتناجين فى السر على سبيل المبالغة . والفاء فى قوله { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ … } معطوفة على محذوف يفهم من الكلام . والتقدير لقد بذل إخوة يوسف أقصى جهودهم معه ليطلق لهم سراح أخيهم بنيامين ، فلما يئسوا يأساً تاماً من الوصول إلى مطلوبهم ، انفردوا عن الناس ليتشاوروا فيما يفعلونه ، وفيما سيقولونه لأبيهم عندما يعودون إليه ولا يجد معهم " بنيامين " . هذه الجملة الكريمة وهى قوله - تعالى - { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } من أبلغ الجمل التى اشتمل عليها القرآن الكريم ، ومن العلماء الذين أشاروا إلى ذلك الإِمام الثعالبى فى كتاب " الإيجاز والإعجاز " فقد قال من أراد أن يعرف جوامع الكلم ، ويتنبه لفضل الاختصار ويحيط ببلاغة الإِيجاز ، ويفطن لكفاية الإِيجاز ، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام . ثم قال فمن ذلك قوله - تعالى - فى إخوة يوسف { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس ، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن ، وأخذهم فى تزوير ما يلقون به أباهم عند عودتهم إليه ، وما يوردون عليه من ذكر الحادث . فتضمنت تلك الكلمات القصيرة ، معانى القصة الطويلة " . وقوله { قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ … } إلخ بيان لما قاله لهم أحدهم خلال تناجيهم مع بعهضم فى عزلة عن الناس . ولم يذكر القرآن اسم كبيرهم ، لأنه لا يتعلق بذكره غرض منهم ، وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد به " روبيل " لأنه أسنهم ، وذكر بعضهم أنه " يهوذا " لأنه كبيرهم فى العقل … أى وحين اختلى إخوة يوسف بعضهم مع بعض لينظروا فى أمرهم بعد أن احتجز عزيز مصر أخاهم بنيامين ، قال لهم كبيرهم { أَلَمْ تَعْلَمُوۤا } وأنتم تريدون الرجعو إلى أبيكم وليس معكم " بنيامين " . { أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ } عندما أرسله معكم ، بأن تحافظوا عليه ، وأن لا تعودوا إليه بدونه إلا أن يحاط بكم . وألم تعلموا كذلك أنكم فى الماضى قد فرطتم وقصرتم فى شأن يوسف ، حيث عاهدتم أباكم على حفظه ، ثم ألقيتم به فى الجب . والاستفهام فى قوله { أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ … } للتقرير . أى لقد علمتم علما يقينا بعهد أبيكم عليكم بشأن بنيامين ، وعلمتم علما يقينا بخيانتكم لعهد أبيكم فى شأن يوسف ، فبأى وجه ستعودون إلى أبيكم وليس معكم أخوكم بنيامين ؟ قال الشوكانى قوله { أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ } أى عهدا من الله - تعالى - بحفظ ابنه ورده إليه . ومعنى كونه من الله أنه بإذنه . وقوله { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ } معطوف على ما قبله . والتقدير ألم تعلموا أن أباكم … وتعلموا تفريطكم فى يوسف ، فقوله " ومن قبل " متعلق بتعلموا . أى تعلموا تفريطكم فى يوسف من قبل . على أن ما مصدرية . وقوله { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ … } حكاية للقرار الذى اتخذه كبيرهم بالنسبة لنفسه . أى قال كبير إخوة يوسف لهم لقد علمتم ما سبق أن قلته لكم ، فانظروا فى أمركم ، أما أنا { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } أى فلن أفارق مصر { حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ } بمفارقتها ، لأنه قد أخذ علينا العهد الذى تعلمونه بشأن أخى بنيامين . { أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي } بالخروج منها وبمفارقتها على وجه لا يؤدى إلى نقض الميثاق مع أبى " وهو " - سبحانه - { خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل . ثم واصل كبيرهم حديثه معهم فقال { ارجعوا } يا إخوتى { إِلَىٰ أَبِيكُمْ } يعقوب { فَقُولُواْ } له برفق وتلطف . { يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ } بنيامين { سرق } صواع الملك ، ووجد الصواع فى رحله وقولوا له أيضاً إننا { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } أى وما شهدنا على أخينا بهذه الشهادة إلا على حسب علمنا ويقيننا بأنه سرق . { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أى وما كنا نعلم الغيب بأنه سيسرق صواع الملك ، عندما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا بأن نأتيك به معنا إلا أن يحاط بنا . وقولوا كذلك على سبيل زيادة التأكيد ، إن كنت فى شك من قولنا هذا فاسأل { ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } والمراد بالقرية أهلها . أى فأرسل من تريد إرساله إلى أهل القرية التى حصلت فيها حادثة السرقة فإنهم سيذكرون لك تفاصيلها . قالوا ومرادهم بالقرية مدينة مصر التى حدث فيها ما حدث ، وعبروا عنها بالقرية لأنهم يقصدون مكانا معيناً منها ، وهو الذى حصل فيه التفتيش لرحالهم ، والمراجعة بينهم وبين عزيز مصر ومعاونيه . وقوله { وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا } معطوف على ما قبله . أى اسأل أهل القرية التى كنا فيها ، واسأل { العير } أى قوافل التجارة التى كنا فيها عند ذهابنا وإيابنا فإن أصحاب هذه القوافل يعلمون ما حدث من ابنك " بنيامين " . وقوله { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أى وإنا لصادقون فى كل ما أخبرناك به . فكن واثقاً من صدقنا . وقد ختم كبيرهم كلامه بهذه الجملة ، زيادة فى تأكيد صدقهم ، لأن ماضيهم معه يبعث على الريبة والشك ، فهم الذين قالوا له قبل ذلك فى شأن يوسف { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ثم ألقوا به الجب ، { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد صورت بأسلوب حافل بالإِثارة والمحاورة ، والأخذ والرد ، والترغيب والترهيب … ما دار بين يوسف وإخوته عندما قدموا إليه للمرة الثانية ومعهم شقيقة " بنيامين " . * * * فماذا كان بعد ذلك ؟ لقد كان بعد ذلك أن عاد الإِخوة إلى أبيهم وتركوا بمصر كبيرهم وأخاهم بنيامين ، ويطوى القرآن الحكيم - على عادته فى هذه السورة الكريمة - أثر ذلك على قلب أبيهم المفجوع ، إلا أنه يسوق لنا رده عليهم ، الذى يدل على كمال إيمانه ، وسعة آماله فى رحمة الله - تعالى - فيقول { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ … }