Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 83-87)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أى { قال } يعقوب لبنيه ، الذين حضروا إليه من رحلتهم ، فأخبروه بما هيج أحزانه … قال لهم { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أى ليس الأمر كما تدعون ، ولكن أنفسكم هى التى زينت لكم أمراً أنتم أردتموه ، فصبرى على ما قلتم صبر جميل ، أى لا جزع معه ، ولا شكوى إلا الله - تعالى - . قال ابن كثير " قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } " . قال محمد بن إسحاق لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى ، اتهمهم ، وظن أن ما فعلوه ببنيامين يشبه ما فعلوه بيوسف فقال { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً … } وقال بعض الناس لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول ، سحب حكم الأول عليه ، وصح قوله { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً … } والخلاصة أن الذى حمل يعقوب - عليه السلام - على هذا القول لهم ، المفيد لتشككه فى صدق ما أثبتوه لأنفسهم من البراءة ، هو ماضيهم معه ، فإنهم قد سبق لهم أن فجعوه فى يوسف بعد أن عاهدوه على المحافظة عليه . ولكن يعقوب هنا أضاف إلى هذه الجملة جملة أخرى تدل على قوة أمله فى رحمة الله ، وفى رجائه الذى لا يخيب فى أن يجمع شمله بأبنائه جميعاً فقال - عليه السلام - { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } . أى عسى الله - تعالى - أن يجمعنى بأولادى جميعاً - يوسف وبنيامين وروبيل الذى تخلف عنهم فى مصر - إنه - سبحانه - هو العليم بحالى ، الحكيم فى كل ما يفعله ويقضى به . وهذا القول من يعقوب - عليه السلام - يدل دلالة واضحة على كمال إيمانه ، وحسن صلته بالله - تعالى - وقوة رجائه فى كرمه وعطفه ولطفه - سبحانه - . وكأنه بهذا القول يرى بنور الله الذى غرسه فى قلبه ، ما يراه غيره بحواسه وجوارحه . ثم يصور - سبحانه - ما اعترى يعقوب من أحزانه على يوسف ، جددها فراق بنيامين له فقال - تعالى - { وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } . وقوله { يَٰأَسَفَىٰ } من الأسف وهو أشد الحزن والتحسر على ما فات من أحداث . يقال أسف فلان على كذا يأسف أسفا ، إذا حزن حزناً شديداً . وألفه بدل من ياء المتكلم للتخفيف والأصل يا أسفى . وكظيم بمعنى مكظوم ، وهو الممتلئ بالحزن ولكنه يخفيه من الناس ولا يبديه لهم . ومنه قوله - تعالى - { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } أى المخففين له ، مأخوذ من كظم فلان السقاء إذا سده على ما بداخله . والمعنى وبعد أن استمع يعقوب إلى ما قاله له أبناؤه ، ورد عليهم … انتابته الأحزان والهموم ، وتجددت فى قلبه الشجون … فتركهم واعتزل مجلسهم وقال { يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } أى يا حزنى الشديد على يوسف أقبل فهذا أوان إقبالك . { وَٱبْيَضَّتْ } عينا يعقوب من شدة الحزن على يوسف وأخيه حتى ضعف بصره ، حيث انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء . { فَهُوَ كَظِيمٌ } أى ممتلئ زنا على فراق يوسف له ، إلا أنه كاتم لهذا الحزن لا يبوح به لغيره من الناس . قالوا وإنما تأسف على يوسف دون أخويه - بنيامين وروبيل - مع أن الرزء الأحدث أشد على النفس … لأن الرزء فى يوسف كان قاعدة مصيباته التى ترتبت عليها الرزايا والخطوب ولأن حبه ليوسف كان حباً خاصاً لا يؤثر فيه مرور الأعوام … ولأن من شأن المصيبة الجديدة أن تذكر بالمصيبة السابقة عليها ، وتهيج أحزانها ، وقد عبر عن هذا المعنى متمم ابن نويرة فى رثائه لأخيه مالك فقال @ لقد لامنى عند القبور على البكا رفيقى لتذراف الدموع السوافك فقال أتبكى كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى والد كادك فقلت له إن الشجى يبعث الشجى فدعنى ، فهذا كله قبر مالك @@ وقال صاحب الكشاف " فإن قلت كيف جاز لنبى الله يعقوب أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟ " قلت الإِنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن . ولقد بكى النبى - صلى الله عليه وسلم - على ولده إبراهيم وقال إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون . وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ، ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب . وعن الحسن أنه بكى على ولده له ، فقيل له فى ذلك ؟ فقال " ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب " ثم يحكى القرآن ما قاله أبناء يعقوب له ، وقد رأوه على هذه الصورة من الهم والحزن فيقول { قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } . قال الشوكانى قوله { تفتأ } أى لا تفتأ ، فحذف حرف النفى لأمن اللبس . قال الكسائى فتأت وفَيِئْتُ أفعل كذا أى مازلت أفعل كذا . وقال الفراء إن " لا " مضمرة ، أى لا تفتأ … ومنه قول الشاعر @ فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى @@ أى " لا أبرح قاعدا … " و { حَرَضاً } مصدر حرض . كتعب - والحرض الإِشراف على الهلاك من شدة الحزن أو المرض أو غيرهما . والمعنى قال أبناء يعقوب له بعد أن سمعوه وهو يتحسر على فراق يوسف له تالله - يا أبانا - ما تزال تذكر يوسف بهذا الحنين الجارف ، والحزن المضنى ، { حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً } أى مشرفا على الموت لطول مرضك . { أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } المفارقين لهذه الدنيا . وهنا يرد عليهم الأب الذى يشعر بغير ما يشعرون به من ألم وأمل … { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } و " البث " ما ينزل بالإِنسان من مصائب يعظم حزن صاحبها بسببها . حتى أنه لا يستطيع إخفاء هذا الحزن ، وأصله التفريق وإثارة الشئ ومنه قولهم بثت الريح التراب إذا فرقته . قالوا والإِنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان حزناً ، وإذا لم يقدر على كتمه كان بثاً … والمعنى قال يعقوب لأولاده الذين لاموه على شدة حزنه على يوسف إنما أشكو ، { بثى } أى همى الذى انطوى عليه صدرى { إلى الله } - تعالى - وحده ، لا إلى غيره ، فهو العليم بحالى ، وهو القادر على تفريج كربى ، فاتركونى وشأنى مع ربى وخالقى . فإنى { وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ } أى من لطفه وإحسانه وثوابه على الصبر على المصيبة { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أنتم ، وإنى لأرجو أن يرحمنى وأن يلطف بى ، وأن يجمع شملى بمن فارقنى من أولادى ، فإن حسن ظنى به - سبحانه - عظيم . قال صاحب الظلال " وفى هذه الكلمات - التى حكاها القرآن عن يعقوب - عليه السلام - يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية فى هذا القلب الموصول ، كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ، ولألائها الباهر . إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف ، وهذا المدى الطويل الذى يقطع الرجاء من حياته فضلاً عن عودته إلى أبيه … إن هذا كله لا يؤثر شيئاً فى شعور الرجل الصالح بربه ، فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلمه هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة … وهذه قيمة الإِيمان بالله … إن هذه الكلمات { وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها . وتعرض مذاقا يعرفه من ذاق مثله ، فيدرك ماذا تعنى هذه الكلمات فى نفس العبد الصالح يعقوب … والقلب الذى ذاق هذا المذاق ، لا تبليغ الشدائد منه - مهما - بلغت إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق … " ثم يمضى يعقوب - عليه السلام - فى رده على أولاده فيأمرهم أن يواصلوا بحثهم عن يوسف وأخيه ، وأن لا يقنطوا من رحمة الله فيقول { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } . والتحسس هو طلب الشئ بطريق الحواس بدقة وحكمة وصبر على البحث . أى قال يعقوب لأبنائه يا بنى { اذهبوا } إلى أرض مصر وإلى أى مكان تتوقعون فيه وجود يوسف وأخيه { فتحسسوا } أمرهما . وتخبروا خبرهما ، وتعرفوا نبأهما بدون كلل أو ملل . وفى التعبير بقوله { فَتَحَسَّسُواْ } إشارة إلى أمره لهم بالبحث الجاد الحكيم المتأنى { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ } أى ولا تقنطوا من فرج الله وسعة رحمته ، وأصل معنى الروح التنفس . يقال أراح الإِنسان إذا تنفس ، ثم استعير لحلول الفرج . وكلمة { روح } - بفتح الراء - أدل على هذا المعنى ، لما فيها من ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما تتنسمه الأرواح من رحمة الله . وقوله { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } تعليل لحضهم على التحسس أى لا تقصروا فى البحث عن يوسف وأخيه ، ولا تقنطوا من رحمة الله ، فإنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون ، لعدم علمهم بالله - تعالى - وبصفاته وبعظيم قدرته ، وبواسع رحمته … أما المؤمنون فإنهم لا ييأسوا من فرج الله أبداً ، حتى ولو أحاطت بهم الكروب ، واشتدت عيهم المصائب … واستجاب الأبناء لنصيحة أبيهم ، فأعدوا عدتهم للرحيل إلى مصر للمرة الثالثة ، ثم ساروا فى طريقهم حتى دخلوها ، والتقوا بعزيز مصر الذى احتجز أخاهم بنيامين ، وتحكى السورة الكريمة ما دار بينهم وبينه فتقول { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ … } .