Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 88-98)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - تعالى - { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ … } حكاية لما قاله إخوة يوسف له ، بعد أن امتثلوا أمر أبيهم ، فخرجوا إلى مصر للمرة الثالثة ، ليتحسسوا من يوسف وأخيه ، وليشتروا من عزيزها ما هم فى حاجة إليه من طعام . والبضاعة هى القطعة من المال ، يقصد بها شراء شئ . والمزجاة هى القليلة الرديئة التى ينصرف عنها التجار إهمالاً لها . وقالوا وكانت بضاعتهم دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة - أى بأقل قيمة - وقيل غير ذلك . وأصل الإِزجاء السوق والدفع قليلاً قليلاً ، ومنه قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً … } أى يرسله رويدا رويدا … وسميت البضاعة الرديئة القلية مزجاة ، لأنها ترد وتدفع ولا يقبلها التجار إلى بأبخس الأثمان . والمعنى وقال إخوة يوسف له بأدب واستعطاف ، بعد أن دخلوا عليه للمرة الثالثة { يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ } أى الملك صاحب الجاه والسلطان والسعة فى الرزق ، { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ } أى أصابنا وأصاب أهلنا معنا الفقر والجدب والهزل من شدة الجوع . { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } أى وجئنا معنا من بلادنا ببضاعة قليلة رديئة يردها وينصرف عنها كل من يراها من التجار ، إهمالاً لها ، واحتقارا لشأنها . وإنما قالوا له ذلك استدراراً لعطفه ، وتحريكاً لمروءته وسخائه ، قبل أن يخبروه بمطلبهم الذى حكاه القرآن فى قوله { فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ … } أى هذا هو حالنا شرحناه لك ، وهو يدعو إلى الشفقة والرحمة ، ما دام أمرنا كذلك ، فأتمم لنا كيلنا ولا تنقص منه شيئا ، وتصدق علينا فوق حقنا بما أنت أهل له من كرم ورحمة { إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ } على غيرهم جزاء كريما حسنا . ويبدو أن يوسف - عليه السلام - قد تأثر بما أصابهم من ضر وضيق حال ، تأثراً جعله لا يستطيع أن يخفى حقيقته عنهم أكثر من ذلك ، فبادرهم بقوله { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } . أىقال لهم يوسف - عليه السلام - على سبيل التعريض بهم ، والتذكير بأخطائهم هل علمتم ما فعلتموه بيوسف وأخيه من أذى وعدوان عليهما ، وقت أن كنتم تجهلون سوء عاقبة هذا الأذى والعدوان . قالوا وقوله هذا يدل على سمو أخلاقه حتى لكأنه يلتمس لهم العذر ، لأن ما فعلوه معه ومع أخيه كان فى وقت جهلهم وقصور عقولهم ، وعدم علمهم بقبح ما أقدموا عليه … وقيل نفى عنهم العلم وأثبت لهم الجهل ، لأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم . والأول أولى وأقرب إلى ما يدل عليه سياق الآيات بعد ذلك ، من عفوه عنهم ، وطلب المغفرة لهم . وهنا يعود إلى الإِخوة صوابهم ، وتلوح لهم سمات أخيهم يوسف ، فيقولون له فى دهشة وتعجب { قَالُوۤاْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ } ؟ أى أئنك لأنت أخونا يوسف الذى أكرمنا . … والذى فارقناه وهو صغير فأصبح الآن عزيز مصر ، والمتصرف فى شئونها ؟ … فرد عليهم بقوله { قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ } الذى تتحدثون عنه . والذى فعلتم معه ما فعلتم … { وَهَـٰذَا أَخِي } بنيامين الذى ألهمنى الله الفعل الذى عن طريقه احتجزته عندى ، ولم أرسله معكم … { قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ } - تعالى - { علينا } حيث جمعنا بعد فراق طويل ، وبدل أحوالنا من عسر إلى يسر ومن ضيق إلى فرج … ثم علل ذلك بما حكاه القرآن عنه فى قوله { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } . أى إن من شأن الإِنسان الذى يتقى الله - تعالى - ويصون نفسه عن كل ما لا يرضاه ، ويصبر على قضائه وقدره ، فإنه - تعالى - يرحمه برحمته ، ويكرمه بكرمه ، لأنه - سبحانه - لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وتلك سنته - سبحانه - التى لا تتخلف … وهنا يجسد فى أذهان إخوة يوسف ما فعلوه معه فى الماضى ، فينتابهم الخزى والخجل ، حيث قابل إساءتهم إليه بالإِحسان عليهم ، فقالوا له فى استعطاف وتذلل { قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } أى نقسم بالله - تعالى - لقد اختارك الله - تعالى - لرسالته ، وفضلك علينا بالتقوى وبالصبر وبكل الصفات الكريمة . أما نحن فقد كنا خاطئين فيما فعلناه معك ، ومتعمدين لما ارتكبناه فى حقك من جرائم ، ولذلك أعزك الله - تعالى - وأذلنا ، وأغناك وأفقرنا ، ونرجو منك الصفح والعفو . فرد عليهم يوسف - عليه السلام - بقوله { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } . والتثريب التعيير والتوبيخ والتأنيب . وأصله كما يقول الآلوسى من الثرب ، وهو الشحم الرقيق فى الجوف وعلى الكرش … فاستعير للتأنيب الذى يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه ، لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال ، كما أنه بالتأنيب واللوم تظهر العيوب ، فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال . أى قال يوسف لإِخوته على سبيل الصفح والعفو يا إخوتى لا لوم ولا تأنيب ولا تعيير عليكم اليوم ، فقد عفوت عما صدر منكم فى حقى وفى حق أخى من أخطاء وآثام وأرجو الله - تعالى - أن يغفر لكم ما فرط منكم من ذنوب وهو - سبحانه - أرحم الراحمين بعباده . وقوله { لاَ تَثْرِيبَ } اسم لا النافية للجنس ، و { عَلَيْكُمُ } متعلق بمحذوف خبر لا ، و { ٱلْيَوْمَ } متعلق بذلك الخبر المحذوف . أى لا تقريع ولا تأنيب ثابت أو مستقر عليكم اليوم . وليس التقييد باليوم لإِفادة أن التقريع ثابت فى غيره ، بل المراد نفيه عنهم فى كل ما مضى من الزمان ، لأن الإِنسان إذا لم يوبخ صاحبه فى أول لقاء معه على أخطائه فلأن يترك ذلك بعد أول لقاء أولى . ثم انتقل يوسف - عليه السلام - من الحديث عن الصفح عنهم إلى الحديث عن أبيه الذى ابيضت عيناه عليه من الحزن فقال { ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } . أى اذهبوا يا إخوتى بقميصى هذا { فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي } الذى طال حزنه بسبب فراقى له { يَأْتِ بَصِيراً } أى يرتد إيله كامل بصره ، بعد أن ضعف من شدة الحزن . { وأتونى } معه إلى هنا ومعكم أهلكم جميعاً من رجال ونساء وأطفال . وقول يوسف هذا إنا هو بوحى من الله - تعالى - فهو - سبحانه - الذى ألهمه أن إلقاء قميصه على وجه أبيه يؤدى إلى ارتداد بصره إليه كاملا ، وهذا من باب خرق العادة بالنسبة لهذين النبيين الكريمين . واستجاب الإِخوة لتوجيه يوسف ، فأخذوا قميصه وعادوا إلى أوطانهم ويصور القرآن ما حدث فيقول { وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } . و { فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ } أى خرجت من مكان إلى مكان آخر . يقال فصل فلان من بلده كذا فصولاً ، إذا جاوز حدودها إلى حدود بلدة أخرى . و { تفندون } من الفند وهو ضعف العقل بسبب المرض والتقدم فى السن . والمعنى وحين غادرت الإِبل التى تحمل إخوة يوسف حدود مصر ، وأخذت طريقها إلى الأرض التى يسكنها يعقوب وبنوه ، قال يعقوب - عليه السلام - لمن كان جالساً معه من أهله وأقاربه ، استمعوا إلى { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } . أى رائحته التى تدل عليه ، وتشير إلى قرب لقائى به . و { لولا } أن تنسبونى إلى الفند وضعف العقل لصدقتمونى فيما قلت ، أو لولا أن تنسبونى إلى ذلك لقلت لكم إنى أشعر أن لقائى بيوسف قد اقترب وقته وحان زمانه . فجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه . وقد أشم الله - تعالى - يعقوب - عليه السلام - ما عبق من القميص من رائحة يوسف من مسيرة أيام ، وهى معجزة ظاهرة له - عليه السلام - . وقال الإِمام مالك - رحمه الله - أوصل الله - تعالى - ريح قميص يوسف ليعقوب ، كما أوصل عرش بلقيس إلى سليمان قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه . ولكن المحيطين بيعقوب الذين قال لهم هذا القول ، لم يشموا ما شمه ، ولم يجدوا ما وجده ، فردوا عليه بقولهم { قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } . قالوا له على سبيل التسلية إنك يا يعقوب مازلت غارقاً فى خطئك القديم الذى لا تريد أن يفارقك . وهو حبك ليوسف وأملك فى لقائه والإِكثار من ذكره . وتحقق ما وجده يعقوب من رائحة يوسف … وحل أوان المفاجأة التى حكاها القرآن فى قوله { فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . أى وحين أقترب أبناء يعقوب من دار أبيهم ، تقدم البشير الذى يحمل قميص يوسف إلى يعقوب ، فألقى القميص على وجهه فعاد إلى يعقوب بصره كأن لم يكن به ضعف أو مرض من قبل ذلك . وهذه معجزة أكرم الله - تعالى - بها نبيه يعقوب - عليه السلام - حيث رد إليه بصره بسبب إلقاء قميص يوسف على وجهه . وهنا قال يعقوب لأبنائه ولمن أنكر عليه قوله { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } { أَلَمْ أَقُلْ } قبل ذلك { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ } أى من رحمته وفضله وإحسانه { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أنتم . وهنا قال الأبناء لأبيهم فى تذلل واستعطاف { يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ } . أى تضرع إلى الله - تعالى - أن يغفر لنا ما فرط منا من ذنوب فى حقك وفى حق أخوينا يوسف وبنيامين . { إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } فى حقك وفى حق أخوينا ، ومن شأن الكريم أن يصفح ويعفو عمن اعترف له بالخطأ . فكان رد أبيهم عليهم أن قال لهم { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ } أى سوف أتضرع إلى ربى لكى يغفر لكم ذنوبكم . { إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ ٱلْغَفُورُ } أى الكثير المغفرة { ٱلرَّحِيمُ } أى الكثير الرحمة لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من عباده . وهكذا صورت لنا السورة الكريمة ما دار بين يوسف وإخوته ، وبين يعقوب وبنيه فى هذا اللقاء المثير الحافل بالمفاجآت والبشارات . ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد ، فقد كانت هناك مفاجآت وبشارات أخرى تحققت معها رؤيا يوسف وهو صغير ، كما تحقق معها تأويل يعقوب لها فقد هاجر يعقوب ببنيه وأهله إلى مصر للقاء ابنه يوسف ، وهناك اجتمع شملهم واستمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك فى نهاية القصة فيقول { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ … } .