Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 13, Ayat: 16-18)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الفخر الرازى " اعلم أنه - تعالى - لما بين أن كل من فى السماوات والأرض ساجد له ، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ } . ولما كان هذا الجواب جوابا يقر به المسئول ويعترف به ولا ينكره ، أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيها على أنهم لا ينكرونه البتة … " . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين ، من رب هذه الأجرام العظيمة العلوية والسفلية ؟ فإذا ما أبوا الرد عليك عنادا وصلفا ، فجابههم بالحقيقة التى لا يستطيعون إنكارها ، وهى أن الله وحده هو رب هذه الأجرام ، لأنه هو خالقها وموجدها على غير مثال سابق . وقوله - سبحانه - { قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أمر ثالث منه - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لإفحامهم وتبكيتهم . فالهمزة للاستفهام التوبيخى ، والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزة . والمعنى أعلمتم حق العلم أن الله - تعالى - هو الخالق للسماوات والأرض ، فتركتم عبادته - سبحانه - واتخذتم من دونه " أولياء " أى نصراء عاجزين ، لا يملكون لأنفسهم - فضلا عن أن يملكوا لغيرهم - نفعا يجلبونه لها ، ولا ضرا يدفعون عنها . وجملة { لاَ يَمْلِكُونَ } صفة لأولياء ، والمقصود بها تنبيه السامعين للنظر فى تلك الصفة ، فإنهم إن أحسنوا التفكير فى هؤلاء الأولياء ، أيقنوا أنهم أحقر من أن يلتفت إليهم ، فضلا عن أن يطلبوا منهم شيئا . ثم أمره - سبحانه - للمرة الرابعة أن يبرهن لهم على بطلان معتقداتهم عن طريق ما هو مشاهد بالحواس فقال { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ } . أى قل لهم - أيضا - أيها الرسول الكريم كما أنه لا يستوى فى عرف كل عاقل الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، فكذلك لا يستوى الكفر والإِيمان ، فإن الكفر انطماس فى البصيرة ، وظلمات فى القلب ، أما الإِيمان فهو نور فى القلب وإشراق فى النفس . فالمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن ، كما أن المراد بالظلمات الكفر وبالنور الإِيمان . وعبر القرآن الكريم فى جانب الظلمات بصيغة الجمع ، وفى جانب النور بصيغة الإِفراد ، لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور . وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته . أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها ، فهناك ظلمة الليل ، وهناك ظلمة السجون ، وهناك ظلمة القبور ، وهناك ظلمة العقول التى كان من نتائجها تعدد أنواع الكفر والضلال ، كما هو الحال فى شأن اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الذين انحرفوا عن طريق الحق . ثم انتقل - سبحانه - إلى التهكم بهم عن طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم ، وإهمالا لشأنهم فقال - تعالى - { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ . . } . وأم هنا بمعنى بل ، والاستفهام للإِنكار . أى إنهم ما اتخذوا لله - تعالى - شركاء يخلقون مثل خلق الله - تعالى - حتى نقول إن ما خلقوه تشابه مع خلقه - تعالى - فنلتمس لهم شيئا من العذر ، ولكنهم اتخذوا معه - سبحانه - آلهة أخرى { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } فالجملة الكريمة تنعى عليهم جهلهم . حيث عبدوا من دون الله مخلوقا مثلهم ، وتنفى أى عذر يعتذرون به يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم . وقوله { كَخَلْقِهِ } فى معنى المفعول المطلق . أى خلقوا خلقا شبيها بما خلقه الله - تعالى - . وجملة { فَتَشَابَهَ } معطوفة على جملة { خَلَقُواْ } ثم أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - للمرة الخامسة بأن يقذفهم بالحق الذى يدفع باطلهم فقال - تعالى - { قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } . أى قل لهم - أيها الرسول الكريم - الله - تعالى - هو الخالق لكل شئ فى هذا الكون ، وهو - سبحانه - الواحد الأحد الفرد الصمد ، القهار لكل ما سواه ، والغالب لكل من غالبه . ثم ضرب - سبحانه - مثلين للحق هما الماء الصافى والجوهر النقى اللذان ينتفع بهما ، ومثلين للباطل هما زبد الماء وزبد الجوهر اللذان لا نفع فيهما فقال - تعالى - { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } . والأودية جمع واد وهو الموضع المتسع الممتد من الأرض الذى يسيل فيه الماء بكثرة . والسيل الماء الجارى فى تلك الأودية . والزبد هو الغثاء الذى يعلو على وجه الماء عند اشتداد حركته واضطرابه أو ما يعلو القدر عند الغليان ويسمى بالرغوة والوضر والخبث لعدم فائدته ، ورابيا من الربو بمعنى العلو والارتفاع . والمعنى أنزل الله - تعالى - من السماء ماء كثيرا . ومطرا مدرارا ، فسالت أودية بقدرها ، أى فسالت المياه فى الأدوية بسبب هذا الإِنزال ، بمقدارها الذى حدده الله - تعالى - واقتضته حكمته فى نفع الناس . أو بمقدارها قلة وكثرة ، بحسب صغر الأودية وكبرها ، واتساعها وضيقها { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } أى فحمل الماء السائل فى الأودية بكثرة وقوة ، غثاء عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا عليه ، لا نفع فيه ولا فائدة منه . وإلى هنا يكون قد انتهى المثل الأول ، حيث شبه - سبحانه - الحق وأهله فى الثبات والنفع بالماء الصافى الذى ينزل من السماء فتمتلئ به الأودية ويبقى محل انتفاع الناس به إلى الوقت المحدد فى علم الله - تعالى - . وشبه الباطل وشيعته فى الاضمحلال وعدم النفع ، بزبد السيل المنتفخ المرتفع فوق سطح الماء ، فإنه مهما علا وارتفع فإنه سرعان ما يضمحل ويفنى وينسلخ عن المنفعة والفائدة . ثم ابتدأ - سبحانه - فى ضرب المثل الثانى فقال { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ } . و " من " فى قوله { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } لابتداء الغاية ، وما موصولة ، ويوقدون من الإيقاد وهو جعل الحطب وما يشبهه فى النار ليزيد اشتعالها . والجملة فى محل رفع خبر مقدم ، وقوله " زبد " مبتدأ مؤخر . والحلية ما يتحلى به الإِنسان من الذهب والفضة وغيرهما . والمتاع ما يتمتع به فى حياته من الأوانى والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وأشباههما . والضمير فى قوله { مثله } يعود إلى الزبد فى قوله - تعالى - { زَبَداً رَّابِياً } . وقد قرأ حمزة والكسائى وحفص { يوقدون } وقرأ الباقون توقدون بالتاء . والضمير للناس ، واضمر مع عدم سبق ذكره لظهوره . والمعنى وشبيه بالمثل السابق فى خروج الزبد والخبث وطرحه بعيدا عن الأشياء النافعة ، ما توقدون عليه النار من المعادن والجواهر ، لكى تستخرجوا منها ما ينفعكم من الحلى والأمتعة المتنوعة ، فإنكم فى مثل هذه الحالة ، تبقون على النقى النافع منها ، وتطرحون الزبد والخبث الذى يلفظه الكير ، والذى هو مثل زبد السيل فى عدم النفع . فقد شبه - سبحانه - فى هذا المثل الثانى الحق وأهله فى البقاء والنفع بالمعادن النافعة الباقية ، وشبه الباطل وحزبه فى الفناء وعدم النفع بخبث الحديد الذى يطرحه كير الحداد ، ويهمله الناس . ثم بين - سبحانه - المقصود من ضرب هذه الأمثال فقال { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ } . أى مثل ذلك البيان البديع ، يضرب الله الأمثلة للحق وللباطل إذا اجتمعا بأن يبين بأنه لاثبات للباطل - مهما علا وانتفخ - مع وجود الحق ، كما انه لاثبات للزبد مع الماء الصافى ، ولا مع المعادن النقية . والكلام على حذف مضاف والتقدير يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل . وسر الحذف الإِنباء عن كمال التماثل بين الممثل والممثل به ، حتى لكأن المثل المضروب هو عين الحق وعين الباطل . ثم شرع - سبحانه - فى تقسيم المثل فقال { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } أى فأما الزبد الذى لفظه السيل والحديد فيذهب { جفاء } مرميا به ، مطروحا بعيدا ، لأنه لا نفع فيه . يقال جفأ الماء بالزبد ، إذا قذفه ورمى به ، وجفأت الريح الغيم ، إذا مزقته وفرقته ، والجفاء بمعنى الغثاء . وأما ما ينفع الناس من الماء الصافى ، والمعدن النقى الخالى من الخبث { فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } أى فيبقى فيها لينتفع الناس به . وبدأ - سبحانه - بالزبد فى البيان فقال { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ } مع أنه متأخر فى الكلام السابق لأن الزبد هو الظاهر المنظور أولا لأعين الناس ، أما الجوهر فهو مستتر خلفه لأنه هو الباقى النافع . أو لأنه جرت العادة فى التقسيم أن يبدأ بالمتأخر كما فى قوله - تعالى - { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ } وقوله { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } تفخيم لشأن هذا التمثيل الذى اشتملت عليه الآية الكريمة . أى مثل ذلك البيان البديع الذى اشتملت عليه الآية الكريمة يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ، فيحملهم هذا التفكير على الإِيمان الحق ، وحسن التمييز بين الخير والشر ، والمعروف والمنكر ، والحق والباطل . قال الإِمام الشوكانى " هذان مثلان ضربهما الله - تعالى - فى هذه الآية للحق وللباطل يقول إن الباطل وإن ظهر على الحق فى بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله - تعالى - سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله . كالزبد الذى يعلو الماء فيلقيه الماء ، وكخبث هذه الأجسام ، فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه ، فهذا مثل الباطل . وأما الماء الذى ينفع الناس وينبت المراعى فيمكث فى الأرض ، وكذلك الصافى من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصا لا شوب فيه ، وهو مثل الحق . وقال الزجاج فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإِيمان كمثل هذا الماء المنتفع به فى نبات الأرض وحياة كل شئ ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعا بها . ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذى يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذى لا ينتفع به " ثم بين - سبحانه - بعد ذلك عاقبة أهل الحق ، وعاقبة أهل الباطل فقال - تعالى - { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ … } أى للمؤمنين الصادقين ، الذين أطاعوا ربهم فى كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه ، المثوبة الحسنى ، وهى الجنة . فالحسنى يصح أن تكون صفة لموصوف محذوف ، ويصح أن تكون مبتدأ مؤخراً ، وخبره { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ } . { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } - سبحانه - ولم ينقادوا لأمره أو نهيه وهم الكفار { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } من أصناف الأموال ، ولهم أيضا { ومِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أى لهان عليهم - مع نفاسته وكثرته - أن يقدموه فداء لأنفسهم من عذاب يوم القيامة . فالضمير فى قوله { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } يعود إلى ما فى الأرض جميعا من أصناف الأموال وفى ذلك ما فيه من تهويل ما سيلقونه من عذاب أليم جزاء كفرهم وجحودهم . ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم فقال { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ } أى أولئك الذين لم يستجيبوا لربهم لهم الحساب السيئ الذى لا رحمة معه ، ولا تساهل فيه . { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أى ومرجعهم الذى يرجعون إليه جهنم . { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أى وبئس المستقر الذى يستقرون فيه . والمخصوص بالذم محذوف أى مهادهم أو جهنم . وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت أوضح الأدلة وأحكمها على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وبينت حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أنه لا يستوى الأعمى والبصير ، ومدح أولى الألباب بما هم أهله من مدح ، وذم أضدادهم بما يستحقون من ذم ، فقال - تعالى - { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ … } .