Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 19-26)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإمام الرازى " قوله - تعالى - { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ … } إشارة إلى المثل المتقدم ذكره - فى قوله - تعالى - { أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً } وهو أن العالم بالشئ كالبصير ، والجاهل به كالأعمى ، وليس أحدهما كالآخر ، لأن الأعمى إذا أخذ يمشى من غير قائد ، فربما يقع فى المهالك … أما البصير فإنه يكون آمنا من الهلاك والإِهلاك " . والمراد بالأعمى هنا الكافر الذى انطمست بصيرته ، فأصبح لا يفرق بين الحق والباطل . والاستفهام للانكار والاستبعاد . المعنى أفمن يعلم أن ما أنزل إليك - أيها الرسول الكريم - من وحى هو الحق الذى يهدى للتى هى أقوم ، كمن هو أعمى القلب مطموس البصيرة ؟ ؟ فالآية الكريمة تنفى بأبلغ أسلوب ، مساواة الذين علموا الحق فاتبعوه ، بمن جهلوه وأعرضوا عنه ، وصموا آذانهم عن سماعه . وقوله { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } مدح لأصحاب العقول السليمة ، الذين ذكروا بالحق فتذكروه ، وآمنوا به ، وتعليل لإِعراض الكافرين عنه ، ببيان أن سبب إعراضهم ، أنهم ليسوا أهلا للتذكر ، لأن التذكر إنما هو من شأن أولى الألباب . والألباب جمع لب وهو الخالص من كل شئ . أى إنما يتذكر وينتفع بالتذكير ، أصحاب العقول السليمة وهم المؤمنون الصادقون . ثم مدح - سبحانه - أصحاب هذه العقول السليمة ، بجملة من الخصال الكريمة فقال { ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ } . وعهد الله فرائضه وأوامره ونواهيه . والوفاء بها يتأتى باتباع ما أمر به - سبحانه - باجتناب ما نهى عنه . وينقضون من النقض ، بمعنى الفسخ والحل لما كان مركبا أو موصولا . والميثاق العهد الموثق باليمين ، للتقوية والتأكيد . أى إنما يتذكر أولوا الألباب ، الذين من صفاتهم أنهم يوقنون بعهد الله - تعالى - ، بأن يؤدوا كل ما كلفهم بأدائه ، ويجتنبوا كل ما أمرهم باجتنابه ولا ينقضون شيئا من العهود والمواثيق التى التزموا بها . وصدر - سبحانه - صفات أولى الألباب ، بصفة الوفاء بعهد الله ، وعدم النقض للمواثيق ، لأن هذه الصفة تدل على كمال الإِيمان ، وصدق العزيمة ، وصفاء النفس . وأضاف - سبحانه - العهد إلى ذاته ، للتشريف وللتحريض على الوفاء به . وجملة { وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاق } تعميم بعد تخصيص ، لتشمل عهودهم مع الله - تعالى - ومع غيره من عباده . ثم بين - سبحانه - صفات أخرى لهم فقال { وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } . أى أن من صفات أولى الألباب - أيضا - أنهم يصلون كل ما أمر الله - تعالى - بوصله كصلة الأرحام ، وإفشاء السلام ، وإعانة المحتاج ، والإِحسان إلى الجار . وقوله { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } خشية تحملهم على امتثال أمره واجتناب نهيه . { وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } أى ويخافون أهوال يوم القيامة ، وما فيه من حساب دقيق ، فيحملهم ذلك على أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا . قال الآلوسى ما ملخصه " وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام ، والخشية والخوف قيل بمعنى . وفرق الراغب بينهما فقال الخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك من علم . وقال بعضهم الخشية أشد الخوف ، لأنها مأخوذة من قولهم شجرة خشية ، أى يابسة . ثم قال الآلوسى والحق أن مثل هذه الفروق أغلبى لا كلى … " . ثم أضاف - سبحانه - إلى الصفات السابقة لأولى الألباب صفات أخرى حميدة فقال { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } أى أن من صفاتهم أنهم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصيته ، وصبروا على المصائب وآلامها ، صبرا غايته رضا ربهم وخالقهم ، لا رضا أحد سواه . أى أن صبرهم فى كل مجال يحمد فيه الصبر لم يكن من أجل الرياء أو المباهاة أو المجاملة أو غير ذلك ، وإنما كان صبرهم من أجل رضا الله - تعالى - وطلب ثوابه . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ } فيما يصبر عليه من المصائب فى النفوس والأموال ومشاق التكليف { ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلا يعاب بالجزع ، ولئلا يشمت به الاعداء ، كقوله @ وتجلدى للشامتين أريهم أنى لريب الدهر لا أتزعزع @@ ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ، ولا مرد فيه للفائت . وكل عمل له وجوه يعمل عليها ، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسنا عند الله - تعالى - وإلا لم يستحق به ثوابا وكان فعلا كلا فعل . { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أى أدوها فى أوقاتها كاملة الأركان والسنن والأذكار ، بخشوع وإخلاص . { وَأَنْفَقُواْ } بسخاء وطيب نفس { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أى مما أعطيناهم من عطائنا الواسع العميم . { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } أى ينفقون مما رزقناهم سرا . حيث يحسن السر ، كإعطاء من لم يتعود الأخذ من غيره ، وينفقون { علانية } حيث تحسن العلانية ، كأن ينفقوا بسخاء فى مجال التنافس فى الخير ، ليقتدى بهم غيرهم { وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ } والدرء الدفع والطرد . يقال درأه درءاً ، إذا دفعه . أى أن من صفات أولى الألباب - أيضاً - أنهم يدفعون بالعمل الصالح العمل السئ ، كما فى قوله - صلى الله عليه وسلم - " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " أو أنهم يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإِحسان إليه ، أو بالعفو عنه ، متى كان هذا الإِحسان أو العفو لا يؤدى إلى مفسدة . قال صاحب الظلال ما ملخصه " وفى الآية إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة ، عندما يكون فى هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ، فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع ، ويحتاج الشر إلى الدفع ، فلا مكان لمقابلتهما بالحسنة ، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلى . ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا فى المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما فى دين الله فلا . إن المستعلى الغاشم لا يجدى معه إلى الدفع الصارم ، والمفسدون فى الأرض لا يجدى معهم إلا الأخذ الحاسم ، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف ، واستشارة الألباب ، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب . " وجملة { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } بيان الجزاء الحسن ، الذى أعده الله - تعالى - لهؤلاء الأخيار . والعقبى مصدر كالعاقبة ، وهى الشئ الذى يقع عقب شئ آخر . والمراد بالدار الدنيا . وعقباها الجنة . وقيل المراد بالدار الدار الآخرة . وعقباها الجنة للطائعين ، والنار للعاصين . أى أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، لهم العاقبة الحسنة وهى الجنة . والجملة الكريمة خبر عن { ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ … } وما عطف عليها . وقوله - سبحانه - { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } تفصيل للمنزلة العالية التى أعدها - سبحانه - لهم . أى أولئك الذين قدموا ما قدموا فى دنياهم من العمل الصالح ، لهم جنات دائمة باقية ، يدخلونها هم { وَمَنْ صَلَحَ } أى ومن كان صالحا لدخولها { مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } . أى من أصولهم وفروعهم وأزواجهم على سبيل التكريم والزيادة فى فرحهم ومسيرتهم . وفى قوله - سبحانه - { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ … } دليل على أن هؤلاء الأقارب لا يستحقون دخول الجنة ، إلا إذا كانت أعمالهم صالحة ، أما إذا كانت غير ذلك فإن قرابتهم وحدها لا تنفعهم فى هذا اليوم الذى لا ينفع فيه مال ولا بنون { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال الإِمام ابن كثير وقوله { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أى يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ، لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانا من الله وإحسانا ، كما قال - تعالى - { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } وقوله - سبحانه - { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم … } زيادة فى تكريمهم ، وحكاية لما تحييهم به الملائكة . أى والملائكة يدخلون على هؤلاء الأوفياء الصابرين … من كل باب من أبواب منازلهم فى الجنة ، قائلين لهم { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } أى أمان دائم عليكم { بِمَا صَبَرْتُمْ } أى بسبب صبركم على كل ما يرضى الله - تعالى - . { فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } أى فنعم العاقبة عاقية دنياكم ، والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة المقام عليه ، أى الجنة . وفى قوله - سبحانه - { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } إشارة إلى كثرة قدوم الملائكة عليهم ، وإلى كثرة أبواب بيوتهم ، تكريما وتشريفا وتأنيسا لهم . وجملة { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } مقول لقول محذوف ، وهو حال من فاعل يدخلون وهم الملائكة . وهى بشارة لهم بدوام السلامة . وفى قوله { بِمَا صَبَرْتُمْ } إشارة إلى أن صبرهم على مشاق التكاليف ، وعلى الأذى ، وعلى كل ما يحمد فيه الصبر ، كان على رأس الأسباب التى أوصلتهم إلى تلك المنازل العالية . هذا ومن الأحاديث التى ذكرها الإِمام ابن كثير هنا ، ما رواه الإِمام أحمد - بسنده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون ، الذين تسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته ائتوهم فحيوهم ، فتقول الملائكة نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتى هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال إنهم كانوا عبادا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ، وتسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته فى صدره ، فلا يستطيع لها قضاء . قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } " . وبعد أن ذكر - سبحانه صفات هؤلاء الأوفياء ، وما أعد لهم من ثواب جزيل ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة الناقضين لعهودهم ، القاطعين لما أمر الله بوصله . المفسدين فى الأرض فقال - تعالى - { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } . ونقض العهد إبطاله وعدم الوفاء به . وقوله { مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } زيادة فى تشنيع النقض أى ينقضون عهد الله تعالى ولا يوفون به . من بعد أن أكدوا التزامهم به وقبولهم لهم . وقوله { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } أى ويقطعون كل ما أوجب الله - تعالى - وصله ، ويدخل فيه وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاتباع والموالاة ، ووصل المؤمنين بالمعاونة ، والمحبة ، ووصل أولى الارحام بالمودة والتعاطف ، فالجملة الكريمة بيان لحال هؤلاء الأشقياء بأنهم كانوا على الضد من أولئك الأوفياء الأخيار الذين كانوا يصلون ما أمر الله به أن يوصل . وقوله { وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ } بيان لصفة ثالثة من صفاتهم القبيحة . أى أنهم كانوا يفسدون فى الأرض عن طريق حربهم لدعوة الحق ، واعتدائهم على المؤمنين ، وغير ذلك من الأمور التى كانوا يقترفونها مع أن الله - تعالى - قد حرمها ونهى عنها . وقوله - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ } إخبار عن العذاب الشديد الذى سيلقونه فى آخرتهم . أى أولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة { لهم } من الله - تعالى - { اللعنة } والطرد من رحمته . { ولهم } فوق ذلك ، الدار السيئة وهى جهنم التى ليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الغنى والفقر بيده ، وأن العطاء والمنع بأمره فقال - تعالى - { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ … } . وبسط الرزق كناية عن سعته ووفرته وكثرته . ومعنى " يقدر " يضيق ويقلل . قال الإمام الشوكانى " لما ذكر - سبحانه - عاقبة المشركين بقوله { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ } كان لقائل أن يقول قد نرى كثيرا منهم قد وفر الله له فى الرزق وبسط له فيه . فأجاب - سبحانه - عن ذلك { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } فقد يبسط الرزق لمن كان كافرا ، ويقتره على من كن مؤمنا ابتلاء وامتحانا ، ولا يدل البسط على الكرامة ، ولا القبض على الإِهانة … " أى الله - تعالى - وحده هو الذى يبسط الرزق لمن يشاء من خلقه ، وهو وحده - أيضا - الذى يضيقه على من يشاء منهم لحكم هو يعلمها ، ولا تعلق لذلك بالكفر أو الإِيمان ، فقد يوسع على الكافر استدراجا له ، وقد يضيق على المؤمن امتحانا له ، أو زيادة فى أجره . والضمير فى قوله { وَفَرِحُواْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } يعود إلى مشركى مكة ، وإلى كل من كان على شاكلتهم فى الكفر والطغيان . والمراد بالفرح هنا الأشر والبطر وجحود النعم . أى وفرح هؤلاء الكافرون بربهم ، الناقضون لعهودهم ، بما أوتوا من بسطة فى الرزق فى دنياهم ، فرح بطر وأشر ونسيان للآخرة لا فرح سرور بنعم الله ، وشكر له - سبحانه - عليها ، وتذكر للآخرة وما فيها من ثواب وعقاب … وقوله - سبحانه - { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } بيان لقلة نعيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة . والمتاع ما يتمتع به الإنسان فى دنياه من مال وغيره لمدة محددة ثم ينقضى . أى إن هؤلاء الفرحين بنعم الله عليهم فى الدنيا ، فرح بطر وأشر وجحود ، لن يتمتعوا بها طويلا ، لأن نعيم الدنيا ليس إلا شيئا قليلا بالنسبة لنعيم الآخرة . وتنكير " متاع " للتقليل ، كقوله - تعالى - فى آية أخرى { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } قال الآلوسى ما ملخصه قوله { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ } أى كائنة فى جنب نعيم الآخرة ، فالجار والمجرور فى موضع الحال ، و " فى " هذه معناها المقايسة وهى كثيرة فى الكلام ، كما يقال ذنوب العبد فى رحمة الله - تعالى - كقطرة فى بحر ، وهى الداخلة بين مفضول سابق ، وفاضل لاحق … والمراد بقوله { إِلاَّ مَتَاعٌ } أى إلا شيئا يسيرا يتمتع به كزاد الراعى . والمعنى أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة ، والحال أن ما فرحوا به فى جنب ما أعرضوا عنه قليل النفع ، سريع النفاد . أخرج الترمذى وصححه عن عبد الله بن مسعود قال " نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير ، فقام وقد أثر فى جنبه ، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - " مالى وللدنيا ، ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل بشجرة ثم راح وتركها … " . وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت صفات المؤمنين وحسن عاقبتهم ، وصفات الكافرين وسوء مصيرهم كما وضحت أن الأرزاق بيد الله - تعالى - يعطيها بسعة لمن يشاء من عباده ، ويعطيها بقلة لغيرهم … ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك بعض المطالب المعنتة التى طلبها الكافرون من النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ورد عليها بما يبطلها ، ومدح المؤمنين لاطمئنان قلوبهم إلى سلامة دينهم من كل نقص ، وأيأسهم من إيمان أعدائهم لاستيلاء العناد والجحود على قلوبهم ، فقال - تعالى - { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ … } .