Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 36-43)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - سبحانه - { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } ثناء منه - سبحانه - على الذين عرفوا الحق من أهل الكتاب فاتبعوه . والمراد بالكتاب هنا التوراة والإِنجيل . والمعنى والذين أعطيناهم التوراة والإِنجيل ، فآمنوا بما فيهما من بشارات تتعلق بك - أيها الرسول الكريم - ، ثم آمنوا بك عند إرسالك رحمة للعالمين . هؤلاء الذين تلك صفاتهم ، يفرحون بما أنزل إليك من قرآن ، لأن ما فيه من هدايات وبراهين على صدقك ، يزيدهم إيمانا على إيمانهم ، ويقينا على يقينهم . وقيل المراد بالكتاب القرآن الكريم ، وبالموصول أتباع النبى صلى الله عليه وسلم من المسلمين . فيكون المعنى والذين آتيناهم الكتاب - وهو القرآن - فآمنوا بك وصدقوك يفرحون بكل ما ينزل عليك منه ، لأنه يزيدهم هداية على هدايتهم . ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأن الآية الكريمة سيقت بعد الحديث عن عاقبة الذين اتقوا وهم المؤمنون الصادقون ، وعاقبة الكافرين . ولأن فرح المؤمنين بنزول القرآن أمر مسلم به فلا يحتاج إلى الحديث عنه . ومن المفسرين الذين اقتصروا فى تفسيرهم للآية على الرأى الأول الإِمام ابن كثير فقد قال يقول الله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } وهم قائمون بمقتضاه { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أى من القرآن ، لما فى كتبهم من الشواهد على صدقه صلى الله عليه وسلم والبشارة به ، كما قال تعالى { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } وقوله { وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } بيان لمن بقى على كفره من أهل الكتاب وغيرهم . والأحزاب جمع حزب ويطلق على مجموعة من الناس اجتمعوا من أجل غاية معينة أى ومن أحزاب الكفر والضلال من ينكر بعض ما أنزل إليك لأنه يخالف أهواءهم وأطماعهم وشهواتهم … ولم يذكر القرآن هذا البعض الذى ينكرونه ، إهمالا لشأنهم ، ولأنه لا يتعلق بذكره غرض . وقوله - سبحانه - { قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } أمر منه - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما يأمره دون تردد أو وجل . أى قل - أيها الرسول الكريم - لكل من خالفك فيما تدعو إليه { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ } وحده { وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ } بوجه من الوجوه إليه وحده " أدعو " الناس لكى يخلصوا له العبادة والطاعة { وَإِلَيْهِ مَآبِ } أى وإليه وحده إيابى ومرجعى لا إلى أحد غيره . فالآية تضمنت المدح لمن عرف الحق ففرح بوجوده . والذم لمن أنكره جحوداً وعنادا ، والأمر للنبى صلى الله عليه وسلم بالسير فى طريقه بدون خشية من أحد . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك بعض الفضائل التى امتاز بها القرآن الكريم فقال - تعالى - { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً . … } . والكاف للتشبيه ، واسم الإِشارة يعود إلى الإِنزال المأخوذ من { أنزلناه } وضمير الغائب فى أنزلناه يعود إلى { مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } فى قوله فى الآية السابقة { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ … } وقوله { حُكْماً عَرَبِيّاً } حالان من ضمير الغائب . والمعنى ومثل ذلك الإِنزال البديع الجامع لألوان الهداية والإِعجاز ، أنزلنا عليك القرآن يا محمد { حكما } أى حاكما بين الناس { عربيا } أى بلسان عربى مبين هو لسانك ولسان قومك . ومنهم من يرى أن اسم الإِشارة يعود إلى الكتب السماوية السابقة ، فيكون المعنى وكما أنزلنا الكتب السماوية على بعض رسلنا بلغاتهم وبلغات أقوامهم أنزلنا عليك القرآن حاكما بين الناس بلغتك وبلغة قومك ، وهى اللغة العربية ليسهل عليهم فهمه وحفظه . وعلى كلا القولين فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة قد اشتملت على فضيلتين للقرآن الكريم فضيلة من جهة معانيه ومقاصده وهداياته وحكمه وأحكامه وتشريعاته ، وهو المعبر عنها بكونه " حكما " . وفضيلة من جهة ألفاظه ومفرداته وتراكيبه ، وهى المعبر عنها بكونه " عربيا " . أى نزل بلغة العرب التى هى أفصح اللغات وأغناها وأجملها . ثم فى كونه " عربيا " امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء ، حيث إنه نزل بلغتهم ، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوه بالفرح والتسليم لأوامره ونواهيه ، فهو الكتاب الذى فيه شرفهم وعزهم ، قال - تعالى - { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أى فيه بقاء شرفكم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وقال - تعالى - { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } وفى ذلك تعريض بغباء مشركى العرب ، حيث لم يشكروا الله - تعالى - على هذه النعمة ، بل قابلوا من أنزل عليه هذا القرآن بالعناد والعصيان . ثم ساق - سبحانه - تحذيرا للأمة كلها فى شخص نبيها صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء كل كافر أو فاسق فقال - تعالى - { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } . واللام فى قوله { ولئن } موطئة للقسم لتأكيد ما تضمنته من عقاب شديد لمتبع أهواء الكافرين . والأهواء جمع هوى ، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق ، ومطالبهم المتعنتة ، والمراد بما جاءه من العلم ما بلغه وعلمه من الدين عن طريق الوحى الصادق . والولى الناصر والمعين والقريب والحليف . والواقى المدافع عن غيره . والمعنى " ولئن اتبعت " - يا محمد - على سبيل الفرض والتقدير أهواء هؤلاء الكافرين فيما يطلبونه منك ، " من بعد ما جاءك من العلم " اليقينى بأن الإِسلام هو الدين الحق ، " مالك من الله " أى من عقباه " من ولى " يلى أمرك وينصرك " ولا واق " يقيك من حسابه . وسيق هذا التحذير فى صورة الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم للتأكيد من مضمونه . فكأنه - سبحانه يقول لو اتبع أهواءهم - على سبيل الفرض - أكرم الناس عندى لعاقبته ، وأحق بهذا العقاب من كان دونه فى الفضل والمنزلة ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } ثم بين - سبحانه - أن اعتراض المشركين على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ليس إلا من قبيل التعنت والجحود ، لأن الرسل جميعا كانوا من البشر ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً … } أى " ولقد أرسلنا رسلا " كثيرين " من قبلك " يا محمد " وجعلنا لهم " أى لهؤلاء الرسل " أزواجا " يسكنون إليهن " وذرية " أى وأولادا تقرُّ بهم أعينهم . قال الشوكانى " وفى هذا الرد على من كان ينكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجه بالنساء . أى هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه " . وقوله - سبحانه - { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ … } رد على ما طلبوه منه صلى الله عليه وسلم من معجزات . أى وما صح وما استقام لرسول من الرسل أن يأتى لمن أرسل إليهم بمعجزة كائنة ما كانت إلا بإذن الله وإرادته المبنية على الحكم والمصالح التى عليها يدور أمر الكائنات . وقوله - سبحانه - { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } تهديد للمشركين الذين كانوا يتعجلون حصول المقترحات التى طلبوها منه صلى الله عليه وسلم . أى لكل وقت من الأوقات " كتاب " أى حكم معين يكتب على الناس حسبما تقتضيه مشيئته - سبحانه - . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مظهرا من مظاهر شمول قدرته ، وسعة علمه ، وعظيم حكمته فقال { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } . وقوله { يَمْحُواْ } من المحو وهو إذهاب أثر الشئ بعد وجوده . وقوله { ويثبت } من الإِثبات وهو جعل الشئ ثابتا قارا فى مكان ما . وأم الكتاب أصل الكتاب والمراد بأم الكتاب اللوح المحفوظ ، أو علمه - سبحانه - المحيط بكل شئ . قال الفخر الرازى " والعرب تسمى كل ما يجرى مجرى الأصل للشئ أمٍّا له ومنه أمُّ الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكل مدينة فهى أُم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذى يكون أصلا لجميع الكتب " . والمعنى يمحو الله - تعالى - ما يشاء محوه ، ويثبت ما يريد إثباته من الخير أو الشر ومن السعادة أو الشقاوة ، ومن الصحة أو المرض ، ومن الغنى أو الفقر ، ومن غير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه . وعنده - سبحانه - الأصل الجامع لكل ما يتعلق بأحوال هذا الكون . قال - تعالى - { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ … } وقال - تعالى - { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّ ذٰلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } وللمفسرين فى معنى هذه الآية كلام طويل ، لخصه الإِمام الشوكانى تلخيصا حسنا فقال قوله - سبحانه - { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } أى يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه ، وظاهر النظم القرآنى العموم فى كل شئ مما فى الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر … ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وقتادة وغيرهم . وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة . وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة ، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب . وقيل " يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ، ويثبت ما لا يشاء فلا ينسخه … والأول أولى كما تفيده " ما " فى قوله " ما يشاء " من العموم مع تقدم ذكر الكتاب فى قوله " لكل أجل كتاب " ومع قوله " وعنده أم الكتاب " أى أصله وهو اللوح المحفوظ . فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما فى اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجرى فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته . وهذا لا ينافى ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله " جفَّ القلم " ، وذلك لأن المحو والإِثبات هو من جملة ما قضاه - سبحانه - . وقيل إن أم الكتاب هو علم الله - تعالى - بما خلق وبما هو خالق . وقوله - سبحانه - { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } حض له صلى الله عليه وسلم على المضى فى دعوته بدون تسويف أو تأجيل . و " ما " فى قوله " وإما نرنيك " مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، والأصل وإن نرك ، والإِراءة هنا بصرية ، والكاف مفعول أول ، وبعض الذى نعدهم مفعول ثان ، وجاب الشرط ، محذوف . والمعنى وإما نرينك - يا محمد - بعض الذى توعدنا به أعداءك من العذاب الدنيوى ، فذاك شفاء لصدرك وصدور أتباعك . وقوله " أو نتوفينك " شرط آخر لعطفه على الشرط السابق ، وجوابه - أيضا - محذوف والتقدير أو نتوفينك قبل ذلك فلا تهتم ، واترك الأمر لنا . وقوله { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ } تعليل لهذا الجواب المحذوف ، أى سواء أرأيت عذابهم أم لم تره ، فإنما عليك فقط تبليغ ما أمرناك بتبليغه للناس . { وعلينا } وحدنا { الحساب } أى محاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم السيئة . وقوله - سبحانه - { بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ } للإِشارة إلى أن ما يصيبهم من عذاب دنيوى هو بعض العذاب المعد لهم ، أما البعض الآخر وهو عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى . ولقد صدق الله - تعالى - وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم فأراه قبل أن يفارق هذه الدنيا ، جانبا من العذاب الذى أنزله بأعدائه ، فسلط على مشركى مكة الجدب والقحط الذى جعلهم يأكلون العظام والميتة والجلود . كما سلط عليهم المؤمنين فهزموهم فى غزوة بدر وفى غزوة الفتح وفى غيرهما . ثم وبخ - سبحانه - المشركين لعدم تفكرهم وتدبرهم واتعاظهم بآثار من قبلهم ، فقال - تعالى - { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا … } والهمزة للاستفهام الإِنكارى ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام . والخطاب لمشركى مكة ومن كان على شاكلتهم فى الكفر والضلال . والمراد بالأرض هنا أرض الكفرة والظالمين . والأطراف جمع طرف وهو جانب الشئ . والمعنى أعمى هؤلاء الكافرون عن التفكير والاعتبار ، ولم يروا كيف أن قدرة الله القاهرة ، قد أتت على الأمم القوية الغنية - حين كفرت بنعمه - سبحانه - ، فصيرت قوتها ضعفا وغناها فقرا ، وعزها ذلا ، وأمنها خوفا … وحصرتها فى رقعة ضيقة من الأرض ، بعد أن كانت تملك الأراضى الفسيحة ، والأماكن المترامية الأطراف . فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين ، وإنذار للكافرين . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } قال الآلوسى ما ملخصه " وروى عن ابن عباس أن المراد بانتقاص الأرض موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها . وعليه يكون المراد بالأرض جنسها وبالأطراف الأشراف والعلماء ، وشاهده قول الفرزدق @ واسأل بنا وبكم ، إذا وردت منى أطراف كل قبيلة ، من يتبع ؟ @@ يريد أشراف كل قبيلة . وتقرير الآية عليه أو لم يروا أنا نحدث فى الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة ، وموتا بعد حياة ، وذلا بعد عز … فما الذى يؤمنهم أن يقلب الله - تعالى - الأمر عليهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة … ثم قال وهو كما ترى والأول - وهو أن يكون المراد بالأرض أرض الكفر ، وبالأطراف الجوانب - أوفق بالمقام ، ولا يخفى ما فى التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة ، وجملة " ننقصها " فى موضع الحال من فاعل نأتى … " . وقوله - سبحانه - { وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } بيان لعلو شأن حكمه - تعالى - ونفاذ أمره . والمعقب هو الذى يتعقب فعل غيره ، أو قوله فيبطله أو يصححه . أى والله - تعالى - يحكم ما يشاء أن يحكم به فى خلقه ، لا راد لحكمه ، ولا دافع لقضائه ، ولا يتعقب أحد ما حكم به بتغيير أو تبديل ، وقد حكم - سبحانه - بعزة الإِسلام ، وعلو شأنه وشأن أتباعه على سائر الأمم والأديان . . وقوله { وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أى وهو - سبحانه - سريع المحاسبة والمجازاة ، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من الإِحصاء والعد ، إذ هو - سبحانه - محيط بكل شئ ، فلا تستبطئ . عقابهم - أيها الرسول الكريم - فإن ما وعدناك به واقع لا محالة . ثم زاد - سبحانه - فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم وفى تثبيت فؤاده فقال { وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً … } . والمكر صرف الغير عما يريده بحيلة ، أو إيصال المكروه للممكور به خفية ، والمراد بمكر الذين من قبلهم إضمارهم السوء لرسلهم . والمراد بمكر الله - تعالى - هنا علمه - سبحانه - بما بيتوه ، وِإحباطه لمكرهم ، وإنجاؤه لرسله - عليهم الصلاة والسلام - . أى وقد مكر الكفار الذين سبقوا قومك - يا محمد - برسلهم وحاولوا إيقاع المكروه بهم ، ولكن ربك - سبحانه - نصر رسله لأنه - عز وجل - له المكر جميعا ، ولا اعتداد بمكر غيره لأنه معلوم له . وقال الجمل ما ملخصه " وقوله { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } تعليل لمحذوف تقديره فلا عبرة بمكرهم ، ولا تأثير له ، فحذف هذا اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله بقوله { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } أى لا تأثير لمكرهم أصلا لأنه معلوم لله - تعالى - وتحت قدرته … وجملة " يعلم ما تكسب كل نفس " بمنزلة التعليل لجملة { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } . أى هو - سبحانه - له المكر جميعا ، لأنه لا تخفى عليه خافية من أحوال كل نفس ، وسيجازيها بما تستحقه من خير أو شر . وقوله { وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ } تهديد للكافرين بالحق الذى جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم . أى وسيعلم الكافرون عندما ينزل بهم العذاب ، لمن تكون العاقبة الحميدة أهى لهم - كما يزعمون - أم للمؤمنين ؟ لا شك أنها للمؤمنين . فالجملة الكريمة تحذير للكافرين من التمادى فى كفرهم ، وتبشير للمؤمنين بأن العاقبة لهم . وفى قراءة سبعية " وسيعلم الكافر " . فيكون المراد به جنس الكافر . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فى رسالته فقال { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } . أى لست مرسلا من عند الله - تعالى - ، وقد حكى - سبحانه - قولهم الباطل هذا بصيغة الفعل المضارع ، للإِشارة إلى تكرار هذا القول منهم ، ولاستحضار أحوالهم العجيبة الدالة على إصرارهم على العناد والجحود . وقوله { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } أمر من الله - تعالى - لرسوله بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم . والباء الداخلة على اسم الجلالة الذى هو فاعل { كفى } فى المعنى ، مزيدة للتأكيد ، وقوله { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } معطوف على اسم الجلالة ، والمراد بالموصول وبالكتاب الجنس . والمعنى قل لهم - أيها الرسول الكريم - تكفى شهادة الله بينى وبينكم ، فهو يعلم صدق دعوتى ، ويعلم كذبكم ، ويعلم ذلك - أيضا - كل من كان على علم بالكتب السماوية السابقة فإنها قد بشرت برسالتى ، وجاءت أوصافى فيها … وممن شهد لى بالنبوة ورقة بن نوفل ، فأنتم تعلمون أنه قال لى عندما أخبرته بما حدث لى فى غار حراء " هذا هو الناموس - أى الوحى - الذى أنزله الله على موسى " … وقيل المراد بمن عنده علم الكتاب المسلمون ، وبالكتاب القرآن ، والأول أرجح لشموله لكل من كان عنده بالكتب السماوية السابقة ، إذ هذا الشمول أكثر دلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه . وبعد فهذه هى سورة الرعد . وهذا تفسير وسيط لآياتها …