Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 13, Ayat: 32-35)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ … } تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من حزن بسبب تعنت المشركين معه . ومطالبتهم له بالمطالب السخيفة التى لا صلة لها بدعوته ، كطلبهم منه تسيير الجبال وتقطيع الأرض ، وتكليم الموتى . والاستهزاء المبالغة فى السخرية والتهكم من المستهزَأ به . والإِملاء الإِمهال والترك لمدة من الزمان . والتنكير فى قوله { برسل } للتكثير ، فقد استهزأ قوم نوح به ، وكانوا كلما مروا عليه وهو يصنع السفينة سخروا منه . واستهزأ قوم شعيب به وقالوا له { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } واستهزأ قوم هود به وقالوا له { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ … } واستهزأ فرعون بموسى فقال { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } والمعنى ولقد استهزأ الطغاة والجاحدون برسل كثيرين من قبلك - أيها الرسول الكريم - { فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى فأمهلتهم وتركتهم مدة من الزمان فى أمن ودعة . { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } أخذ عزيز مقتدر { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فانظر كيف كان عقابى إياهم ، لقد كان عقابا رادعا دمرهم تدميرا . فالاستفهام للتعجيب مما حل بهم ، والتهويل من شدته وفظاعته وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } قال ابن كثير وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " وإن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } " . ثم أقام - سبحانه - الأدلة الساطعة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له - تعالى - فقال { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ … } . والمراد بالقيام هنا الحفظ والهيمنة على جميع شئون الخلق والاستفهام للإِنكار ، والخبر محذوف والتقدير { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } أى رقيب ومهيمن { عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ } كائنة ما كانت ، عالم بما تعمله من خير أو شر فمجازيها به كمن ليس كذلك ؟ وحذف الخبر هنا وهو قولنا - كمن ليس كذلك - لدلالة السياق عليه ، كما فى قوله - تعالى - { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } أى كمن قسا قلبه . وحسن حذف الخبر هنا لأنه مقابل للمبتدأ هو { من } ولأن قوله - تعالى - { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } يدل عليه . والمقصود من الآية الكريمة إنكار المماثلة بين الخالق العظيم ، العليم بأحوال النفوس … وبين تلك الأصنام التى أشركوها مع الله - تعالى - فى العبادة والتى هى لا تسمع ولا تبصر ، ولا تملك لنفسها - فضلا عن غيرها - نفعا ولا ضرا . وجملة { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } حالية ، والتقدير أفمن هذه صفاته ، وهو الله - تعالى - كمن ليس كذلك ، والحال أن هؤلاء الأغبياء قد جعلوا له شركاء فى العبادة وغيرها . فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، زيادة توبيخهم ، وتسفيه أفكارهم وعقولهم . وقوله - سبحانه - { قُلْ سَمُّوهُمْ } تبكيت لهم إثر تبكيت . أى قل لهم - أيها الرسول الكريم - سموهم شركاء إن شئتم ، فإن هذه التسمية لا وجود لها فى الحقيقة والواقع ، ولا تخرجهم عن كونهم لا يملكون لأنفسهم - فضلا عن غيرهم - نفعا ولا ضرا ، لأن الله - تعالى - واحد لا شريك له . وهذه التسمية إنما هى من عند أنفسكم ما أنزل الله بها من سلطن ، كما قال تعالى { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } فالأمر فى قوله { سموهم } مستعمل فى الإِباحة المصحوبة بالتهديد ، للإِشارة إلى عدم الاكتراث بهم وبآلهتهم التى سموها شركاء . وهذا كما يقول العاقل للأحمق الذى لا يحسن الكلام قل ما شئت فإن كلامك لا وزن له ، ولا خير فيه . قال الإمام الرازى عند تفسيره لهذه الآية " واعلم أنه - تعالى - لما قرر هذه الحجة - وهى أن القائم على كل نفس ليس كمن لا يملك شيئا - زاد فى الحجاج فقال { قُلْ سَمُّوهُمْ } وإنما يقال ذلك فى الأمر المستحقر الذى بلغ فى الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال سمه إن شئت . يعنى إنه أخس من أن يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل . فكأنه - تعالى - قال سموهم بالآلهة ، والمعنى سواء أسميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به ، فإنها فى الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها " … والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } للإنكار والتوبيخ . أى قل أيها الرسول لهؤلاء الذين جعلوا لله شركاء وسموهم بهذا الاسم قل لهم على سبيل الإنكار والتوبيخ أتخبرون الله بشركاء لا وجود لهم فى الأرض ، لأنهم لو كان لهم وجود لعلمهم ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء . أم أنكم سميتموهم شركاء بظاهر من القول أى بظن من القول لا حقيقة له فى الواقع ونفس الأمر . قال الآلوسى ما ملخصه وقوله { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } أى بل أتخبرون الله - تعالى - { بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ } أى بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم - سبحانه - والمراد نفيها بنفى لازمها على طريق الكناية ، لأنه - سبحانه - إذا كان لا يعلمها - وهو الذى لا يعزب عن علمه شئ - فهى لا حقيقة لها أصلا . وتخصيص الأرض بالذكر ، لأن المشركين زعموا أنه - سبحانه - له شركاء فيها . وقوله { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } أى بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير معنى متحقق فى نفس الأمر ، كتسمية الزنجى كافورا . وروى عن الضحاك وقتادة ، أن الظاهر من القول الباطل منه ، كما فى قول القائل @ أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يابن ربطة ظاهر @@ أى باطل زائد … وقوله - سبحانه - { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } إضراب عن حجاجهم ، وإهمال لشأنهم و " زين " من التزيين وهو تصيير الشئ زينا أى حسنا . والمكر صرف الغير عما يريده بحيلة . والمراد به هنا كفرهم ومسالكهم الخبيثة ضد الإِسلام والمسلمين . والمعنى دع عنك أيها الرسول الكريم - مجادلتهم ، لأنه لا فائدة من ورائها ، فإن هؤلاء الكافرين قد زين لهم الشيطان ورؤساؤهم فى الفكر مكرهم وكيدهم للإِسلام وأتباعه ، وصدوهم عن السبيل الحق ، وعن الصراط المستقيم ، ومن يضلله الله - تعالى - بأن يخلق فيه الضلال لسوء استعداده ، فما له من هاد يهديه ويرشده إلى ما فيه نجاته . هذا ، وقد اشتملت هذه الآية على ألوان من الحجج الساطعة التى تثبت وجوب إخلاص العبادة لله ، وتبطل الشركة والشركاء أشار إليها بعض المفسرين فقال قال الطيبى فى هذه الآية الكريمة احتجاج بليغ مبنى على فنون من علم البيان أولها { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } كمن ليس كذلك ، احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما . ثانيها { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } من وضع المظهر موضع المضمر ، للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد فى أسمائه . ثالثها { قُلْ سَمُّوهُمْ } أى عينوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان ، فهو إنكار لوجودها على وجه برهانى … رابعها { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ } احتجاج من باب نفى الشئ أعنى العلم بنفى لازمه وهو المعلوم وهو كناية . خامسها { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } احتجاج من باب الاستدراج لبعثهم على التفكر . أى أتقولون بأفواهكم من غير روية ، وأنتم ألباء ، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه . سادسها التدرج فى كل من الإضرابات على ألطف وجه ، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها ، كان الاحتجاج المذكور مناديا على نفسه بالإِعجاز وأنه ليس كلام البشر " . ثم بين - سبحانه - سوء مصير هؤلاء الكافرين فقال { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أى لهم عذاب شديد فى الحياة الدنيا ، ينزله الله - تعالى - بهم تارة عن طريق القوارع والمصائب التى يرسلها عليهم ، وتارة عن طريق الهزائم التى يوقعها بهم المؤمنون ، هذا فى الدنيا { وَلَعَذَابُ ٱلآُخِرَةِ أَشَقُّ } من عذاب الدنيا لشدته ودوامه { وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ } - تعالى - ومن عذاب الآخرة { مِن وَاقٍ } أى من حائل يحول بينهم وبين عذابه - سبحانه - . ثم أعقب ذلك ببيان حسن عاقبة المؤمنين فقال { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا … } . والمراد بالمثل هنا الصفة العجيبة ، أى صفة الجنة التى وعد الله إياها من اتقاه وصان نفسه عن كل مالا يرضيه ، أنها تجرى من تحت أشجارها ومساكنها الأنهار ، وأنها أكلها دائم ، أى ما يؤكل فيها لا انقطاع لأنواعه " وظلها " كذلك دائم . قال بعضهم وجملة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } خبر عن " مثل " باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه ، فهى من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين ، كما يقال صفة زيد أسمر . وجملة " أكلها دائم " خبر ثان . واسم الإِشارة فى قوله { تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } يعود على الجنة التى أعدها الله - تعالى - للمتقين . أى تلك الجنة المنعوتة بما ذكر هى مآل المتقين الذين استقاموا على الطريق الحق ، وهى منتهى أمرهم . أما مآل الكافرين ومنتهى أمرهم فهى النار ، وبئس القرار . هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، جملة من الأحاديث فى صفة الجنة فقال وفى الصحيحين من حديث ابن عباس فى صلاة الكسوف ، وفيه " قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا من مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت - أى توقفت وأحجمت ؟ فقال " إنى رأيت الجنة - أو أريت الجنة - فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا " . وروى الطبرانى عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى " . وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت من التوجيهات ما فيه التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه ، وما فيه أوضح الدلائل والبراهين وأبلغها عن وحدانية الله - تعالى - ووجوب إفراده بالعبادة ، وما فيه البشارة للمؤمنين ، والتهديد للكافرين . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان موقف أهل الكتاب من القرآن الكريم ، وبأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن منهجه بصراحة وثبات ، دون التفات إلى أهواء معارضيه ، وبالرد على الشبهات التى أثارها أعداؤه حوله وحول دعوته ، وبتهديد هؤلاء الأعداء وبسوء العاقبة إذا ما استمروا فى طغيانهم فقال - تعالى - { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ … }