Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 13-17)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فقوله - سبحانه - { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا … } حكاية لما هدد به رءوس الكفر رسلهم ، بعد أن أفحمهم الرسل بالحجة البالغة ، وبالمنطق الحكيم . واللام فى { لَنُخْرِجَنَّـكُمْ } هى الموطئة للقسم . و " أو " للتخيير بين الأمرين . أى وقال الذين عتوا فى الكفر - على سبيل التهديد - لرسلهم ، الذين جاءوا لهدايتهم ، والله لنخرجنكم - أيها الرسل - من أرضنا ، أو لتعودن فى ديننا وملتنا . قال الإِمام الرازى " اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن الأنبياء - عليهم السلام - أنهم قد اكتفوا فى دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه ، والاعتماد على حفظه وحياطته ، حكى عن الكفار أنهم بالغوا فى السفاهة وقالوا للأنبياء ولنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن فى ملتنا " . والمعنى ليكونن أحد الأمرين لا محالة ، إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا . والسبب فيه أن أهل الحق فى كل زمان يكونون قليلين . وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين ، فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة . والتعبير بقوله - سبحانه - { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } يفيد بظاهره أن الرسل كانوا على ملة الكافرين ثم تركوها ، فإن العود معناه الرجوع إلى الشئ بعد مفارقته . وهذا محال ، فإن الأنبياء معصومون - حتى قبل النبوة - عن ارتكاب الكبائر ، فضلاً عن الشرك . وقد أجيب عن ذلك بإجابات منها أن الخطاب وإن كان فى الظاهر مع الرسل ، إلا أن المقصود به أتباعهم المؤمنون ، الذين كانوا قبل الإِيمان بالرسل على دين أقوامهم ، فكأنهم يقولون لهؤلاء الاتباع لقد كنتم على ملتنا ثم تركتموها ، فإما أن تعودوا إليها وإما أن تخرجوا من ديارنا ، إلا أن رءوس الكفر وجهوا الخطاب إلى الرسل من باب التغليب . ومنها أن العود هنا بمعنى الصيرورة ، إذ كثيراً ما يرد " عاد " بمعنى صار ، فيعمل عمل كان ، ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة ، بل يستدعى الانتقال من حال سابقة إلى حال جديدة مستأنفة ، فيكون المعنى لنخرجنكم من أرضنا أو لتصيرن كفاراً مثلنا . ومنها أن هذا القول من الكفار جار على توهمهم وظنهم ، أن الرسل كانت قبل دعوى النبوة على ملتهم ، لسكوتهم قبل البعثة عن الإِنكار عليهم ، فلهذا التوهم قالوا ما قالوا ، وهم كاذبون فيما قالوه . وشبيه بهذه الآية قول قوم شعيب - عليه السلام - له { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا … } وقول قوم لوط له { أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } وقوله - سبحانه - { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ … } بشارة عظيمة من الله - تعالى - لرسله ، ووعد لهم بالنصر على أعدائهم . … أى فأوحى الله - تعالى - إلى الرسل - بعد أن قال لهم الكافرون - ما قالوا - أبشروا أيها الرسل { لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ } الذين هددوكم بالإِخراج من الديار ، أو بالعودة إلى ملتهم ، { وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ } - أيها الرسل { الأرض } أى أرضهم { مِن بَعْدِهِمْ } أى من بعد إهلاكهم واستئصال شأفتهم . قال الآلوسى ما ملخصه " وأوحى هنا يحتمل أن يكون بمعنى فعل الإِيحاء فلا مفعول له " . وقوله { لَنُهْلِكَنَّ } على إضمار القول ، أى قائلاً لنلهكن ، ويحتمل أن يكون جارياً مجرى القول لكونه ضرباً منه ، وقوله { لَنُهْلِكَنَّ } مفعوله … وخص - سبحانه - الظالمين من الذين كفروا ، لأنه من الجائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا تلك المقالة أناس معينون ، فالتوعد لإِهلاك من خلص للظلم " . وأكد - سبحانه - إهلاك الظالمين وإسكان الرسل أرضهم ، بلام القسم ونون التوكيد … زيادة فى إدخال السرور على نفوس الرسل ، وفى تثبيت قلوبهم على الحق ، ورداً على أولئك الظالمين الذين أقسموا بأن يخرجوا الرسل من ديارهم ، أو يعودوا إلى ملتهم . قال صاحب الكشاف " والمراد بالأرض فى قوله { وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ } أرض الظالمين وديارهم ، ونحوه { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ } وعن النبى - صلى الله عليه وسلم - " من آذى جاره ورثه الله داره " . ثم قال ولقد عاينت هذا فى مدة قريبة ، كان لى خال يظلمه عظيم القرية التى أنا منها ويؤذينى فيه ، فمات ذلك العظيم وملكنى الله ضيعته ، فنظرت يوماً إلى أبناء خالى يترددون فيها ، ويدخلون فى دورها ويخرجون ويأمرون وينهون ، فذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وحدثتهم به ، وسجدنا شكراً لله " . واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } يعود إلى ما قضى الله به من إهلاك الظالمين ، وتمكين الرسل وأتباعهم من أرضهم . أى ذلك الذى قضيت به كائن لمن خاف قيامى عليه ، ومراقبتى له ، ومكان وقوفه بين يدى للحساب ، وخاف وعيدى بالعذاب لمن عصانى . قال الجمل " ومقامى فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه مقحم - وهو بعيد إذ الأسماء لا تقحم ، أى ذلك لمن خافنى - الثانى أنه مصدر مضاف للفاعل . قال الفراء مقامى مصدر مضاف لفاعله ، أى قيامى عليه بالحفظ . الثالث أنه اسم مكان ، قال الزجاج مكان وقوفه بين يدى الحساب " . وقوله - سبحانه - { واستفتحوا } من الاستفتاح بمعنى الاستنصار ، أى طلب النصر من الله - تعالى - على الأعداء . والسين والتاء للطلب . ومنه قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ … } وقوله - تعالى - { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } أو يكون { واستفتحوا } من الفتاحة بمعنى الحكم والقضاء ، أى واستحكموا الله - تعالى - وطلبوا منه القضاء والحكم ، ومنه قوله - تعالى - { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ } والجملة الكريمة معطوفة على { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } ، والضمير يعود إلى الرسل . والمعنى والتمس الرسل من خالقهم - عز وجل - أن ينصرهم على أعدائه وأعدائهم ، وأن يحكم بحكمه العادل بينهم وبين هؤلاء المكذبين . قالوا ومما يؤيد ذلك قراءة ابن عباس ومجاهد وابن محيصن { واستفتحوا } - بكسر التاء - أمراً للرسل . ومنهم من يرى أن الضمير يعود للفريقين الرسل ومكذبيهم . أى أن كل فريق دعا الله أن ينصره على الفريق الآخر . وقوله { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } بيان لنتيجة الاستفتاح . والجبار الإِنسان المتكبر المغرور المتعالى على غيره ، المدعى لمنزلة أو لشئ ليس من حقه . والعنيد مأخوذ من العند - بفتح النون - بمعنى الميل . يقال عند فلان عن الطريق - كنصر وضرب وكرم - عنودا ، إذا مال عنها . وعند فلان عن الحق ، إذا خالفه . والجملة الكريمة معطوفة على محذوف ، والتقدير واستفتحوا فنصر الله - تعالى - رسله على أعدائهم ، وخاب وخسر ، كل متكبر متجبر معاند للحق . قال ابن كثير قوله { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أى متجبر فى نفسه معاند للحق ، كما قال - تعالى - { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ . مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ . ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } وفى الحديث " يؤتى بجهنم يوم القيامة ، فتنادى الخلائق فتقول إنى وكلت بكل جبار عنيد … " . وقال - سبحانه - { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } ولم يقل وخاب الذين كفروا كما هو مقتضى الظاهر من السياق ، للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة معاندين للحق ، وأن كل من كان كذلك فلا بد من أن تكون عاقبته الخيبة والخسران . وقوله { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } صفة لجبار عنيد . والمراد بقوله { مِّن وَرَآئِهِ } أى من أمامه ، أو من بعد هلاكه . أى من أمام خيبة هذا الجبار العنيد جهنم ، تنتظر ليحل بها ، بسبب كفره وظلمه . قال صاحب أضواء البيان قوله { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ … } الوراء هنا بمعنى الأمام كما هو ظاهر ، ومنه قوله - تعالى - { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } أى وكان أمامهم ملك … ومنه قول الشاعر @ أترجو بنو مروان سمعى وطاعتى وقومى تميم والفلاة ورائيا @@ أى والفلاة أماميا . وقال بعضهم قوله { مِّن وَرَآئِهِ } أى من بعد هلاكه ، ومنه قول النابغة @ حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب @@ أى وليس بعد الله للمرء مذهب ، والأول هو الظاهر وهو الحق . وعلى أية حال فإن الجملة الكريمة تدل على أن جنهم تنتظر هذا الجبار العنيد ، وتترصد له ، وتتبعه حيث كان ، بحيث لا يستطيع الفرار منها ، أو الهرب عنها . وجملة { وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } معطوفة على مقدر ، أى من ورائه جهنم يلقى فيها مذءوماً مدحوراً ، ويسقى من ماء مخصوص ليس كالمياه المعهودة ، هو الصديد ، أى ما يسيل من أجساد هذا النار من دم مختلط بقيح ، واشتقاقه من الصد ، لأنه يصد الناظرين عن رؤيته . وهو بدل أو عطف بيان من ماء . وقوله { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ … } بيان لحالة هذا الجبار العنيد عند تعاطيه الصديد . والتجرع تكلف الجرع وهو بلع الماء ، وفعله - كسمع ومنع - . ويسيغه من السوغ وهو انحدار الشراب فى الحلق بسهولة وقبول . يقال ساغ الشراب سوغا وسواغا ، إذا كان سهل المدخل . أى يتكلف بلع هذا الصديد مرة بعد أخرى لمرارته وقبحه ، ولا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإِساغة . بل يغص به فيشربه بعد عناء ومشقة جرعة عقب جرعة " . وقوله { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } معطوف على قوله { يَتَجَرَّعُهُ } لبيان حالة أخرى من أحوال شقائه وعذابه . أى وتأتيه الأسباب المؤدية للموت والهلاك من كل جهة من الجهات ، ومن كل موضع من مواضع بدنه ، وما هو بميت فيستريح من هذا الشقاء والعذاب ، ومن وراء كل ذلك عذاب غليظ أى شاق شديد لا يقل فى ألمه عما هو فيه من نكال . وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } وقوله - تعالى - { وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى . ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ . ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد صورت لنا سوء عاقبة المكذبين للحق تصويراً مؤثراً ، تهتز له النفس ، وتوجل منه القلوب . ثم ضرب - سبحانه - مثلاً لأعمال الكافرين فى حبوطها وذهابها يوم القيامة ، وساق الأدلة الدالة على قدرته القاهرة ، وصور أحوال الكافرين يوم يقوم الناس لرب العالمين ، وحكى ما يقوله الضعفاء للمستكبرين وما يقوله الشيطان لأتباعه فى هذا اليوم العصيب ، وما أعده الله للمؤمنين الصادقين فى هذا اليوم فقال - تعالى - { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ … } .