Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 18-23)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الإِمام الرازى " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر أنواع عذابهم فى الآية المتقدمة ، بين فى هذه الآية وهى قوله - تعالى - { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ … } أن أعمالهم بأسرها ضائعة باطلة ، لا ينتفعون بشئ منها . وعند هذا يظهر كمال خسرانهم ، لأنهم لا يجدون فى القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه فى الدنيا وجدوه ضائعاً باطلاً " . والمثل النظير والشبيه . ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه بمورده ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ، ثم استعير للصفة ، أو الحال ، أو القصة إذا كان لها شأن عجيب ، وفيها غرابة . والمراد بأعمال الذين كفروا فى الآية الكريمة ما كانوا يقومون به فى الدنيا من أعمال حسنة كإطعام الطعام ، ومساعدة المحتاجين ، وإكرام الضيف ، إلى غير ذلك من الأعمال الطيبة . والرماد ما يتبقى من الشئ بعد احتراق أصله ، كالمتبقى من الخشب أو الحطب بعد احتراقهما . والعاصف من العصف وهو اشتداد الريح ، وقوة هبوبها . قال الجمل " وقوله { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } فيه أوجه للإِعراب أحدها وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ، وتكون الجملة من قوله { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ … } مستأنفة جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل كيف مثلهم … ؟ فقيل كيت وكيت . والثانى أن يكون " مثل " مبتدأ و " أعمالهم " مبتدأ ثان ، و " كرماد " خبر المبتدأ الثانى ، والمبتدأ الثانى وخبره خبر المبتدأ الأول … " . والمعنى حال أعمال الذين كفروا فى حبوطها وذهابها وعدم انتفاعهم بشئ منها فى الآخرة ، كحال الرماد المكدس الذى أتت عليه الرياح العاصفة ، فمحقته وبددته ، ومزقته تمزيقاً لا يجرى معه اجتماع . فالآية الكريمة تشبيه بليغ لما يعمله الكافرون فى الدنيا من أعمال البر والخير . ووجه الشبه الضياع والتفرق وعدم الانتفاع فى كل ، فكما أن الريح العاصف تجعل الرماد هباء منثورا ، فكذلك أعمال الكافرين فى الآخرة تصير هباء منثوراً ، لأنها أعمال بنيت على غير أساس من الإِيمان وإخلاص العبادة لله - تعالى - . ووصف - سبحانه - اليوم بأنه عاصف - مع أن العصف شدة الريح - للمبالغة فى وصف زمانها - وهو اليوم - بذلك كما يقال يوم حار ويوم بارد ، مع أن الحر والبرد فيهما وليس منهما . وقوله - سبحانه - { لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ } بيان للمقصود من التشبيه ، وهو أن هؤلاء الكافرين ، لا يقدرون يوم القيامة ، على الانتفاع بشئ مما فعلوه فى الدنيا من أفعال البر والخير ، لأن كفرهم أحبطها فذهب سدى دون أن يستفيدوا منها ثواباً ، أو تخفف عنهم عذاباً . قال الآلوسى وفى الصحيح " عن عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت يا رسول الله . إن ابن جدعان فى الجاهلية كان يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، هل ذلك نافعه ؟ قال " لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " " . وقال الإِمام ابن كثير ما ملخصه " هذا مثل ضربه الله - تعالى - لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره ، وكذبوا رسله ، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح ، فانهارت وعدموها وهم أحوج ما كانوا إليها … كما قال - تعالى - { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } وكما قال تعالى - { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } واسم الإِشارة فى قوله { ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } يعود إلى ما دل عليه التمثيل من بطلان أعمالهم ، وذهاب أثرها . أى ذلك الحبوط لأعمالهم ، وعدم انتفاعهم بشئ منها ، هو الضلال البعيد . أى البالغ أقصى نهايته ، والذى ينتهى بصاحبه إلى الهلاك والعذاب المهين . ووصف - سبحانه - الضلال بالبعد ، لأنه يؤدى إلى خسران لا يمكن تداركه ، ولا يرجى الخلاص منه . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ، بعض مظاهر قدرته التى لا يعجزها شئ فقال - تعالى - { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } . والخطاب فى قوله { أَلَمْ تَرَ … } لكل من يصلح له بدون تعيين . والاستفهام للتقرير . والرؤية مستعملة فى العلم الناشئ عن النظر والتفكير والتأمل فى ملكوت السماوات والأرض . قال الآلوسى ما ملخصه قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ … } هذا التعبير قد يذكر لمن تقدم عمله فيكون للتعجب ، وقد يذكر لمن لا يكون كذلك ، فيكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهر فى ذلك حتى أجرى مجرى المثل فى هذا الباب ، بأن شبه من لم ير الشئ بحال من رآه فى أنه لا ينبغى أن يخفى عليه ، وأنه ينبغى أن يتعجب منه ، ثم أجرى الكلام معه ، كما يجرى مع من رأى ، قصداً إلى المبالغة فى شهرته وعراقته فى التعجب … " . والمعنى ألم تعلم - أيها العاقل - أن الله - تعالى - { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ } أى خلقهما بالحكمة البالغة المنزهة عن العبث ، وبالوجه الصحيح الذى تقتضيه إرادته ، وهو - سبحانه - { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أى - يهلككم أيها الناس - { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيد } سواكم ، لأن القادر على خلق السماوات والأرض وما فيهما من أجرام عظيمة ، يكون على خلق غيرهما أقدر ، كما قال - تعالى - { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ … } وقوله - سبحانه - { وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه . أى إن يشأ - سبحانه - يهلككم - أيها الناس - ويأت بمخلوقين آخرين غيركم ، وما ذلك الإِذهاب بكم ، والإِتيان بغيركم بمتعذر على الله ، أو بمتعاص عليه ، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ ، ولا يحول دون نفاذ قدرته حائل . وشبيه بهذا قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ . إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } وقوله - تعالى - { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } وقوله - تعالى - { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانباً من الحوار الذى يدور يوم القيامة بين الضعفاء والمستكبرين ، بين الأتباع والمتبوعين … فقال - تعالى - { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ … } وقوله { وَبَرَزُواْ } من البروز بمعنى الظهور ، مأخوذ من البراز وهو الفضاء الواسع ، الذى يظهر فيه الناس بدون استتار . أى وخرج الكافرون جميعاً من قبورهم يوم القيامة وظهروا ظهوراً لا خفاء معه ، لكى يحاسبهم - سبحانه - على أعمالهم فى الدنيا . وقال - سبحانه - { وَبَرَزُواْ } بلفظ الفعل الماضى مع أن الحديث عن يوم القيامة ، للتنبيه على تحقق وقوع هذا الخروج ، وأنه كائن لا محالة . وعبر - سبحانه - بهذا التعبير ، مع أنهم لا يخفون عليه سواء أبرزوا أم لم يبرزوا ، لأنهم كانوا فى الدنيا يستترون عن العيون عند اجتراحهم السيئات ويظنون أن ذلك يخفى على الله - عز وجل - . ثم بين - سبحانه - ما سيقوله الضعفاء للمستكبرين فى هذا الموقف العصيب فقال { فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ } وهم العوام والأتباع الذين فقدوا نعمة التفكير ، ونعمة حرية الإِرادة ، فهانوا وذلوا … قال هؤلاء الضعفاء { لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤا } وهم السادة المتبوعون الذين كانوا يقودون أتباعهم إلى طريق الغى والضلال . { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ } - أيها السادة - { تبعا } جمع تابع كخادم وخدم . أى إنا كنا فى الدنيا تابعين لكم ، ومنقادين لأمركم ، فى تكذيب الرسل ، وفى كل ما تريدونه منا . والاستفهام فى قوله - سبحانه - { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } للتقريع والتفجع . ومغنون من الإِغناء بمعنى الدفاع والنصرة . قال الشوكانى " يقال أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى ، وأغناه إذا أوصل إليه النفع " . أى فهل أنتم - أيها المستكبرون - دافعون عنا شيئا من عذاب الله النازل بنا ، حتى ولو كان هذا الشئ المدفوع قليلا ؟ إن كان فى إمكانكم ذلك فاظهروه لنا ، فقد كنتم فى الدنيا سادتنا وكبراءنا ، وكنتم تزعمون أنكم أصحاب الحظوة يوم القيامة . قال صاحب الكشاف " فإن قلت أى فرق بين " من " فى { مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ } وبينه فى { مِن شَيْءٍ } ؟ قلت الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل هل أنتم مغنون عنا بعض الشئ الذى هو عذاب الله ؟ ويجوز أن يكون للتبعيض معا بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شئ ، هو بعض عذاب الله ؟ أى بعض بعض عذاب الله " . ثم حكى - سبحانه - رد المستكبرين على المستضعفين فقال { قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ … } أى قال المستكبرون - بضيق وتحسر - فى ردهم على المستضعفين لو هدانا الله - تعالى - إلى الإِيمان الموصل إلى النجاة من هذا العذاب الأليم { لَهَدَيْنَاكُمْ } إليه ، ولكن ضللنا عنه وأضللناكم معنا ، واخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، ولو كنا نستطيع النفع لنفعنا أنفسنا . ثم أضافوا إلى ذلك قولهم { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } . والجزع حزن يصرف الإِنسان عما هو بصدده لشدة اضطرابه وذهوله . يقال جزع فلان يجزع جزعا وجزوعا ، إذا ضعف عن حمل ما نزل به ولم يجد صبرا . والمحيص المهرب والمنجى من العذاب . يقال حاص فلان عن الشئ يحيص حيصا ومحيصا ، إذا عدل عنه على جهة الهرب والفرار . أى مستو عندنا الجزع مما نحن فيه من عذاب ، أو الصبر على ذلك ، وليس لنا من مهرب أو منجى من هذا المصير الأليم . فالآية الكريمة تحكى أقوال الضعفاء يوم القيامة ، وهى أقوال يبدو فيها طابع الذلة والمهانة كما هو شأنهم فى الدنيا ، كما تحكى رد المستكبرين عليهم ، وهو رد يبدو فيه التبرم والتفجع والتأنيب من طرف خفى لهؤلاء الضعفاء ، والتسليم بالواقع الأليم الذى لا محيص لهم عنه . قال الإِمام ابن كثير " قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إن أهل النار قال بعضهم لبعض تعالوا ، فإنما إدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله - تعالى - ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله ، فبكوا وتضرعوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا تعالوا ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر ، فصبروا صبرا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك . فعند ذلك قالوا { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة ، فقال - تعالى - { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ … } والمراد بالشيطان هنا إبليس - لعنه الله - . قال الفخر الرازى " وأما الشيطان فالمراد به إبليس لأن لفظ الشيطان مفرد فيتناول الواحد ، وإبليس رأس الشياطين ورئيسهم ، فحمل اللفظ عليه أولى . ولا سيما وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم ، يقول الكافر قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ، ما هو إلا إبليس ، فهو الذى أضلنا ، فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول . … " . والمراد بقوله - سبحانه - { لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ } أى حين تم الحساب ، وعرف أهل الجنة ثوابهم ، وعرف أهل النار مصيرهم ، كل فريق فى المكان الذى أعده الله تعالى له . والمقصود من حكاية ما يقوله الشيطان للكافرين فى هذا اليوم . تحذير المؤمنين من وسوسته وإغوائه ، حتى ينجوا من العذاب الذى سيحل بأتباعه يوم القيامة . والمراد بالحق فى قوله { إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ } الصدق والوفاء بما وعدكم به على ألسنة رسله . والمراد بالإِخلاف فى قوله { وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } الكذب والغدر وعدم الوفاء بما مناهم به ، من أمانى باطلة . قال - تعالى - { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } وإضافة الوعد إلى الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أى إن الله - تعالى - وعدكم الوعد الحق الذى لا نقض له ، وهو أن الجزاء حق ، والبعث حق ، والجنة حق ، والنار حق ، ووعدتكم وعدا باطلا بأنه لا بعث ولا حساب … فأخلفتكم ما وعدتكم به ، وظهر كذبى فيما قلته لكم . ثم أضاف إلى ذلك قوله - كما حكى القرآن عنه - { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } … والسلطان اسم مصدر بمعنى التسلط والقهر والغلبة . أى وما كان لى فيما وعدتكم به من تسلط عليكم ، أو إجبار لكم ، لكنى دعوتكم إلى ما دعوتكم إليه من باطل وغواية ، فانقدتم لدعوتى واستجبتم لوسوستى عن طواعية واختيار . فالاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } استثناء منقطع ، لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله ، وبعضهم يرى أن الاستثناء متصل . قال الجمل " وفى هذا الاستثناء وجهان أظهرهما أنه استثناء منقطع ، لأن دعاءه ليس من جنس السلطان وهو الحجة البينة ، والثانى أنه متصل لأن القدرة على حمل الإِنسان على الشئ تارة تكون بالقهر ، وتارة تكون بتقوية الداعية فى قلبه بإلقاء الوساوس إليه . فهو نوع من التسليط " وقوله { فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } زيادة فى تأنيبهم وفى حسراتهم على انقيادهم له . أى فلا تلومونى بسبب وعودى إياكم . ولوموا أنفسكم ، لأنكم تقبلتم هذه الوعود الكاذبة بدون تفكر أو تأمل ، وأعرضتم عن الحق الواضح الذى جاءكم من عند ربكم ، ومالك أمركم . ثم ينفض يده منهم ، ويخلى بينهم وبين مصيرهم السئ فيقول { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أى ما أنا بمغيثكم ومنقذكم مما أنتم فيه من عذاب ، وما أنتم بمغيثى مما أنا فيه من عذاب - أيضا - فقد انقطعت بيننا الأواصر والصلات … قال القرطبى ما ملخصه " والصارخ والمستصرخ هو الذى يطلب النصرة والمعاونة ، والمصرخ هو المغيث لغيره … قال أمية بن أبى الصلت @ ولا تجزعا إنى لكم غير مصرخ وليس لكم عندى غناء ولا نصر @@ ويقال صرخ فلان أى استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة … ومنه استصرخنى فلان فأصرخته ، أى استغاث بى فأغثته … وجملة { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ … } مستأنفة ، لإِظهار المزيد من التنصل والتبرى من كل علاقة بينه وبينهم . و " ما " فى قوله { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } الظاهر أنها مصدرية … قال الآلوسى ما ملخصه " وأراد بقوله { إِنِّي كَفَرْتُ } أى ِإنى كفرت اليوم { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } . أى من قبل هذا اليوم ، يعنى فى الدنيا و " ما " مصدرية و " من قبل " متعلق بأشركتمون . والمعنى إنى كفرت بإشراككم إياى لله - تعالى - فى الطاعة ، لأنهم كانوا يطيعون الشيطان فيما يزينه لهم من عبادة غير الله - تعالى - ، ومن أفعال الشر … ومراد اللعين أنه إن كان إشراككم لى مع الله - تعالى - ، هو الذى أطعمكم فى نصرتى لكم … فإنى متبرئ من هذا الشرك ، لم يبق بينى وبينكم علاقة … فالكلام محمول على إنشاء التبرى منهم يوم القيامة . ثم قال وجوز غير واحد أن تكون " ما " موصولة بمعنى من ، والعائد محذوف ، و " من قبل " متعلق بكفرت . أى إنى كفرت من قبل - حين أبيت السجود لآدم - بالذى أشركتمونيه . أى جعلتمونى شريكا له فى الطاعة وهو الله - عز وجل - . والكلام على هذا إقرار من اللعين بقدم كفره ، وبسبق خطيئته فلا يمكنه أن يقدم لهم عونا أو نصرا … وجملة { إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فى موقع التعليل لما تقدم ، والظاهر أنها ابتداء كلام من جهته - تعالى - لبيان سوء عاقبة الظالمين . ويجوز أن تكون من تتمة كلام إبليس - الذى حكاه القرآن عنه - ، ويكون الغرض منها قطع أطماعهم فى الإِغاثة أو النصر ، وتنبيه المؤمنين فى كل زمان ومكان إلى عداوة الشيطان لهم وتحذيرهم من اتباع خطواته . قال الشيخ الشوكانى - رحمه الله - ما ملخصه " لقد قام الشيطان للكافرين فى هذا اليوم مقاما يقصهم ظهورهم ، ويقطع قلوبهم ، فأوضح لهم أولا أن مواعيده التى كان يعدهم بها فى الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله - تعالى - وأنه أخلفهم ما وعدهم به … ثم أوضح لهم ثانيا بأنهم قبلوا قوله بما لا يتفق مع العقل ، لعدم الحجة التى لا بد للعاقل منها فى قبول قول غيره . ثم أوضح لهم ثالثا بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان ، الخالية عن أيسر شئ مما يتمسك به العقلاء . ثم نعى عليهم رابعا ما وقعوا فيه ، ودفع لومهم له ، وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم ، لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذى لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل . ثم أوضح لهم خامسا بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة … بل هو مثلهم فى الوقوع فى البلية … ثم صرح لهم سادسا بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له ، وهو إشراكه مع الله - تعالى - فتضاعفت عليهم الحسرات ، وتوالت عليهم المصائب . وإذا كانت جملة { إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } من تتمة كلامه - كما ذهب إليه البعض - فهو نوع سابع من كلامه الذى خاطبهم به ، فيكون قد أثبت لهم الظلم ، وذكر لهم جزاءه " . وبعد هذا الحديث عن سوء عاقبة الكافرين … بين - سبحانه ما أعده للمؤمنين من ثواب جزيل ، وأجر عظيم فقال - تعالى - { وَأُدْخِلَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } . أى وأدخل الله - تعالى - فى هذا اليوم ، وهو يوم القيامة ، الذين آمنوا بكل ما يجب الإِيمان به ، وعملوا الأعمال الصالحة ، أدخلهم - سبحانه - جنات تجرى تجرى من تحت ثمارها وأشجارها الأنهار ، حالة كونهم خالدين فيها خلودا أبديا لا موت معه ولا تعب . وجاء التعبير بصيغة الماضى لتحقيق الوقوع ، وتعجيل البشارة ، وقوله ، { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أى بإرادته - سبحانه - وتوفيقه وهدايته لهم . وقوله { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } أى تحيتهم فى الجنة سلام لهم من خالقهم - عز وجل - ومن الملائكة ، ومن بعضهم لبعض . كما قال - تعالى - { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } وكما قال - تعالى - { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم … } وكما قال - سبحانه - { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت بأبلغ أسلوب بوار أعمال الذين كفروا ، وسوء أحوالهم يوم القيامة ، كما بينت حسن عاقبة المؤمنين ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة . وبعد أن بين - سبحانه - حال السعداء والأشقياء يوم القيامة ، أتبع ذلك بضرب مثل لهما زيادة فى التوضيح والتقرير فقال - تعالى - { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً … } .