Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 14, Ayat: 28-34)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - سبحانه - { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً … } الخطاب فيه للنبى - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح للخطاب . والاستفهام للتعجيب من أحوالهم الذميمة . وبدلوا من التبديل بمعنى التغيير والتحويل ، والمراد به وضع الشئ فى غير وضعه ومقابلة نعم الله بالجحود وعدم الشكر . ونعمة الله التى بدلوها ، تشمل كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى أرسله الله - تعالى - لإِخراجهم من الظلمات إلى النور ، كما تشمل إكرام الله لهم - أى أهل مكة - بأن جعلهم فى حرم آمن ، وجعلهم سدنة بيته … ولكنهم لم يشكروا الله على هذه النعم ، بل أشركوا معه فى العبادة آلهة أخرى . قال صاحب الكشاف ما ملخصه " قوله { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } لأن شكرها الذى وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا ، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا . وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمه ، وجعلهم قوام بيته ، وأكرمهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم ، أو أصابهم الله بالنعمة فى الرخاء والسعة لإِيلافهم الرحلتين ، فكفروا نعمته ، فضربهم بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل النعمة ، وكذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر ، قد ذهبت النعمة عنهم ، وبقى الكفر طوقا فى أعناقهم … " وقال الإِمام ابن كثير ما ملخصه " قال البخارى قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً … } حدثنا على بن عبد الله حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، سمع ابن عباس قال هم كفار أهل مكة . ثم قال ابن كثير وهذا هو الصحيح ، وإن كان المعنى يعم جميع الكفار ، فإن الله - تعالى - " بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين ، ونعمة للناس فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ، ومن ردها وكفرها دخل النار … " . وما ذهب إليه صاحب الكشاف وابن كثير - رحمهما الله - هو الذى تطمئن إليه النفس ، لأن مشركى مكة ومن سار على شاكلتهم تنطبق عليهم هذه الآية الكريمة . وقد أورد بعض المفسرين هنا روايات فى أن المراد بهؤلاء الذين بدلوا نعمة الله كفراً ، بنو أمية وبنو مخزوم … ولكن هذه الروايات بعيدة عن الصواب ، ولا سند لها من النقل الصحيح " . وقوله { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ } معطوف على { بدلوا } لبيان رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة والمراد بقومهم أتباعهم وشركاؤهم فى الكفر والعناد حتى ماتوا على ذلك . والبوار الهلاك والخسران ، ويطلق أيضا على الكساد . يقال بار المتاع بوارا ، إذا كسد ، إذ الكاسد فى حكم الهالك . والمعنى ألم تر - أيها العاقل - إلى حال هؤلاء المشركين ، الذين قابلوا نعم الله عليهم بالكفر والجحود ، وكانوا سببا فى إنزال قومهم دار الهلاك والخسران . وقوله - سبحانه - { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } بيان لدار بوارهم وهلاكهم أى جهنم يصلون حرها وسعيرها ، وبئس القرار قرارهم فيها . فقوله { جَهَنَّمَ } عطف بيان لدار البوار ، وقوله { يَصْلَوْنَهَا } فى محل نصب حال من { جَهَنَّمَ } يقال صلى فلان النار - من باب تعب - إذا ذاق حرها ، وتقول صليت اللحم أصليه - من باب رمى - إذا شويته . والمخصوص بالذم محذوف . أى بئس القرار هى أى جهنم . وفيه إشارة إلى أن حلولهم فيها كائن على وجه الدوام والاستمرار . ثم بين - سبحانه - لونا ثالثا من ألوان أعمالهم القبيحة ، وعقائدهم الباطلة فقال { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ … } . والأنداد جمع ند وهو مثل الشئ الذى يضاده وينافره ويتباعد عنه . وأصله من ند البعير يند - بكسر النون - ندا - بالفتح - إذا نفر وذهب على وجهه شاردا . وقوله { ليضلوا } قرأ الجمهور - بضم الياء - من أضل غيره إذا جعله ضلالا . أى أن هؤلاء الخاسرين لم يكتفوا بمقابلة نعمة الله بالجحود ، وإحلال قومهم دار البوار ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم جعلوا لله - تعالى - أمثالا ونظراء ، ليصرفوا غيرهم عن الطريق الحق ، والصراط المستقيم ، الذى هو إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ليضلوا } - بفتح الياء - أى ليستمروا فى ضلالهم ، فإنهم حين جعلهم الأنداد لله - تعالى - كانوا ضالين ، وجهلوا ذلك فاستمروا فى ضلالهم توهما منهم أنهم على صواب . قال صاحب الكشاف قرئ { ليضلوا } بفتح الياء وضمها . فإن قلت الضلال لم يكن غرضهم فى اتخاذ الأنداد فما معنى اللام ؟ قلت لما كان الضلال والإِضلال نتيجة اتخاذا الأنداد ، كما كان الإِكرام فى قولك ، جئتك لتكرمنى نتيجة المجئ ، دخلته اللام ، وإن لم يكن غرضاً ، على طريق التشبيه والتقريب . وقوله - سبحانه - { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } أمر منه - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يهددهم بهذا المصير الأليم . والتمتع بالشئ الانتفاع به مع التلذذ والميل إليه . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الخاسرين ، تمتعوا بما شئتم التمتع به من شهوات ولذائذ ، فإن مصيركم إلى النار لا محالة . قال صاحب فتح القدير ما ملخصه قوله { قُلْ تَمَتَّعُواْ } بما أنتم فيه من الشهوات ، وبما زينته لكم أنفسكم من كفران للنعم { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } أى مرجعكم إليها ليس إلا . ولما كان هذا حالهم ، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه لا يقلعون عنه . جعل - سبحانه - الأمر بمباشرته مكان النهى عن قربانه ، إيضاحا لما تكون عليه عاقبتهم ، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار . فجعله { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } تعليل للأمر بالتمتع ، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره . ويجوز أن تكون هذه الجملة جوابا لمحذوف دل عليه السياق كأنه قيل قل تمتعوا فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار . والأول أولى والنظم القرآنى عليه أدل ، وذلك كما يقال لمن يسعى فى مخالفة السلطان " اصنع ما شئت من المخالفة فإن مصيرك إلى السيف " . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } وقوله - تعالى - { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وقوله - تعالى - { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } وبعد هذا الأمر من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بتهديد الكافرين ، وجه - سبحانه - أمرا آخر له - صلى الله عليه وسلم - طلب منه فيه ، مواصلة دعوة المؤمنين إلى الاستمرار فى التزود من العمل الصالح فقال - تعالى - { قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } . قال الجمل " قوله { قُل لِّعِبَادِيَ … إلخ } مفعول قل محذوف يدل عليه جوابه ، أى قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا - وقوله يقيموا وينفقوا مجزومان فى جواب الأمر ، أى إن قلت لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا … يقيموا وينفقوا . ويجوز أن يكون قوله " يقيموا وينفقوا " مجزومين بلام الأمر المقدرة . أى ليقيموا الصلاة ولينفقوا … " . والمراد بإقامة الصلاة المواظبة على أدائها فى أوقاتها المحددة لها ، مع استيفائها لأركانها وسننها وآدابها وخشوعها ، ومع إخلاص النية عند أدائها الله - تعالى - . والمراد بالإِنفاق ما يشمل جميع وجوه الإِنفاق الواجبة والمستحبة . والمراد بقوله { سِرّاً وَعَلانِيَةً } ما يتناول عموم الأحوال فى الحرص على بذل المال فى وجوهه المشروعة . والمعنى قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المخلصين ، الذين آمنوا إيمانا حقا ، قل لهم ليستزيدوا من المواظبة على أداء الصلاة ، وعلى الإِنفاق مما رزقناهم فى جميع الأحوال ، بأن يجعلوا نفقتهم فى السر إذا كانت آداب الدين وتعاليمه تقتضى ذلك ، وأن يجعلوها فى العلن إذا كانت المنفعة فى ذلك . والإِضافة فى قوله { لعبادى } للتشريف والتكريم لهؤلاء العباد المخلصين . ولم تعطف هذه الآية الكريمة على ما قبلها وهو قوله { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } للإِيذان بتباين حال الفريقين ، واختلاف شأنهما . ومفعول { ينفقوا } محذوف والتقدير ينفقوا شيئا مما رزقناهم . وعبر - سبحانه - بمن المفيدة للتبعيض فى قوله { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } للاشعار بأنهم قوم عقلاء يبتعدون فى إنفاقهم عن الإِسراف والتبذير ، عملا بقوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } وهذا التعبير - أيضا - يشعر بأن هذا المال الذى بين أيدى عباده - سبحانه - ما هو إلا رزق رزقهم الله إياه ، ونعمة أنعم بها عليهم ، فعليهم أن يقابلوا هذه النعمة بالشكر ، بأن ينفقوا جزءا منها فى وجوه الخير . وقوله { سِرّاً وَعَلانِيَةً } منصوبان على الحال أى مسرين ومعلنين ، أو على المصدر أى إنفاق سر وإنفاق علانية . وقدم - سبحانه - إنفاق السر على العلانية للتنبيه على أنه أولى الأمرين فى معظم الأحوال لبعده عن خواطر الرياء ، ولأنه استر للمتصدق عليه . وقوله - سبحانه - { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } مؤكد لمضمون ما قبله من الأمر بإقامة الصلاة وبالإِنفاق فى وجوه الخير بدون تردد أو إبطاء . ولفظ " خلال " مصدر خاللت بمعنى صاحبت وصادقت ، أو جمع خليل بمعنى صديق ، أو جمع خلة بمعنى الصداقة كقلة وقلال . أى قل لهم - أيها الرسول الكريم - بأن من الواجب عليهم أن يكثروا ويداوموا على إقامة الصلاة وعلى الإِنفاق مما رزقهم - سبحانه - ، من قبل أن يفاجئهم يوم القيامة ، ذلك اليوم الذى لا تقبل فيه المعاوضات ، ولا تنفع فيه شفاعة الصديق لصديقه ، وإنما الذى يقبل وينفع فى هذا اليوم هو العمل الصالح الذى قدمه المسلم فى دنياه . فالجملة الكريمة تفيد حضا آخر على إقامة الصلاة وعلى الإِنفاق عن طريق التذكير للناس بهذا اليوم الذى تنتهى فيه الأعمال ، ولا يمكن فيه استدراك ما فاتهم ، ولا تعويض ما فقدوه من طاعات . كما تفيد أن المواظبة على أداء هاتين الشعيرتين ، من أعظم القربات التى يتقرب بها المسلم إلى خالقه - سبحانه - والتى تكون سببا فى رفع الدرجات يوم القيامة . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من نعمه التى تستوجب شكره وطاعته وإخلاص العبادة له والتى تدل على كمال قدرته وعلمه ووحدانيته فقال - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ … } . أى الله - تعالى - وحده هو الذى أوجد السماوات والأرض وما فيهما من أجرام علوية وسفلية بدون مثال سابق . وافتتحت الآية الكريمة بلفظ الجلالة ، لما فى ذلك من تربية المهابة ، ومن لفت أنظار المشركين إلى ما هم فيه من ضلال حتى يقلعوا عنه . وجاء الخبر بصيغة الموصول ، لأن الصلة معلومة الثبوت له - سبحانه - والمشركون لا ينازعون فى ذلك ، كما قال - تعالى - { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } وقوله { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ . . } بيان للون آخر من ألوان نعمه على خلقه . والمراد بالسماء هنا السحاب ، أو جهة العلو . أى وأنزل - سبحانه - من المزن أو السحاب { ماء } كثيرا هو المطر ، { فَأَخْرَجَ بِهِ } أى بذلك الماء { مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ } المتعددة الأنواع والأصناف { رِزْقاً لَّكُمْ } تنتفعون به ، وتتمتعون بجمال منظره وطيب مطعمه . ثم حكى - سبحانه - ألوانا أخرى من نعمه فقال { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ . وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ } وقوله " سخر " من التسخير بمعنى التذليل والتطويع والقدرة على التصرف فى الشئ والانتفاع به . والفلك ما عظم من السفن . ويستعمل لفظه فى الواحد والجمع ، والظاهر أن المراد به هنا الجمع لقوله - سبحانه - " لتجرى " بتاء التأنيث . أى { وَسَخَّرَ لَكُمُ } - سبحانه - السفن الضخمة العظيمة ، بأن ألهمكم صنعها ، وأقدركم على استعمالها { لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ } إلى حيث تريدون " بأمره " وإذنه ومشيئته ، لا بإذنكم ومشيئتكم ، إذ لو شاء - سبحانه - لقلبها بكم . { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ } بأن جعلها معدة لانتفاعكم ، إذ منها تشربون ، ومنها تسقون دوابكم وزروعكم ، وعليها تسيرون بسفنكم إلى حيث تريدون . { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ } أى دائمين فى إصلاح ما يصلحان من الأبدان والنبات وغيرهما أو دائمين فى مدارهما المقدر لهما بدون اضطراب أو اختلال . ولا يفتران عن ذلك ما دامت الدنيا . وأصل الدأب الدوام والعادة المستمرة على حالة واحدة . يقال دأب فلان على كذا يدأب دأبا ، إذا داوم عليه وجد فيه . و { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ } بأن جعلهما متعاقبين ، يأتى أحدهما فى أعقاب الآخر ، فتنتفعون بكل منهما بما يصلح أحوالكم . فالليل تنتفعون به فى راحتكم ومنامكم … والنهار تنتفعون به فى معاشكم وطلب رزقكم قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً . وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } تم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ … } أى وأعطاكم - فضلا عما تقدم من النعم - بعضا من جميع ما سألتموه إياه من نعم ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته التى لا تعلمونها كما قال - تعالى - { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } قال الجمل ما ملخصه " قوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أى كل نوع أو كل صنف سألتموه أى شأنكم أن تسألوه لاحتياجكم إليه ، وإن لم تسألوه بالفعل . وفى " من " قولان أحدهما أنها زائدة فى المفعول الثانى ، أى آتاكم كل ما سألتموه . والثانى أن تكون تبعيضية أى وآتاكم بعض جميع ما سألتموه وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره وآتاكم شيئا من كل ما سألتموه ، وهو رأى سيبويه . . " وجملة { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } مؤكدة لمضمون ما قبلها . أى وإن تحاولوا عد نعم الله عليكم ، وتحاولوا تحديد هذا العدد ، لن تستطيعوا ذلك لكثرة هذه النعم ، وخفاء بعضه عليكم . والإِحصاء ضبط العدد وتحديده ، مأخوذ من الحصا وهو صغار الحجارة لأن العرب كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للخطأ . قال ابن كثير " يخبر - سبحانه - عن عجز العباد من تعداد نعمه فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب - رحمه الله - إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين " . وفى صحيح البخارى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول " لك الحمد غير مكفى - أى لم يكفه غيره بل هو - سبحانه - يكفى غيره - ولا مودع - أى متروك حمده - ، ولا مستغنى عنه ربنا - أى هو الذى يحتاج إليه الخلق … " . والمراد بالإِنسان فى قوله { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } نوع معين منه وهو الكافر كما فى قوله - تعالى - { وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أى إن الإِنسان الكافر الشديد الظلم لنفسه بعبادته لغير الله - تعالى - ، ولشديد الجحود والكفران لنعمه - عز وجل . ويرى بعضهم أن المراد بالإِنسان هنا الجنس . قال الشوكانى قوله - سبحانه { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ } أى لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه ، وظاهره شمول كل إنسان ، وقال الزجاج إن الإِنسان هنا اسم جنس يقصد به الكافر خاصة ، كما فى قوله - تعالى - { وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } " كفار " أى شديد كفران نعم الله عليه ، جاحد لها ، غير شاكر لله عليها كما ينبغى ويجب عليه " . وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ابتدأت ببيان سوء عاقبة الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وثنت بأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن يحض المؤمنين الصادقين على الاستزادة من إقامة الصلاة ومن الانفاق فى سبيل الله . ثم ساقت عشر نعم تدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وعلمه وقدرته ، وهذه النعم هى خلق السماوات والأرض ، وإنزال المطر من السماء ، وإخراج الثمرات به ، وتسخير الفلك فى البحار ، وتسخير الأنهار ، وتسخير الليل والنهار . ثم ختمت ببيان أنه - سبحانه - قد أعطى الناس - فضلا عن كل ذلك - جميع ما يحتاجون إليه فى مصالحهم على حسب حكمته ومشيئته ولكن الناس - إلا من عصم الله - لا يقابلون نعمه - سبحانه - بما تستحقه من شكر ، لشدة ظلمهم وكثرة جحودهم . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك بعض الدعوات التى تضرع بها إبراهيم - عليه السلام - إلى ربه ، وهى دعوات تدل على شكره لخالقه ، وحسن صلته به ، ورجائه فى فضله … فقال - تعالى - { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ … } .