Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 15, Ayat: 49-60)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والخطاب فى قوله - تعالى - { نبئ عبادى … } للرسول صلى الله عليه وسلم والنبأ الخبر العظيم . والمراد بـ { عبادي } المؤمنون منهم ، والإِضافة للتشريف . أى أخبر - أيها الرسول الكريم - عبادى المؤمنين أنى أنا الله - تعالى - الكثير المغفرة لذنوبهم ، الواسع الرحمة لمسيئهم ، وأخبرهم - أيضاً - أن عذابى هو العذاب الشديد الإِيلام ، فعليهم أن يقدموا القول الطيب ، والعمل الصالح ، لكى يظفروا بمغفرتى ورحمتى ، وينجو من عذابى ونقمتى . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد جمع فى هاتين الآيتين بين المغفرة والعذاب ، وبين الرحمة والانتقام ، وبين الوعد والوعيد ، لبيان سنته - سبحانه - فى خلقه ، ولكى يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرجاء ، فلا يقنط من رحمة الله ، ولا يقصر فى أداء ما كلفه - سبحانه - به . وقدم - سبحانه - نبأ الغفران والرحمة ، على نبأ العذاب والانتقام ، جريا على الأصل الذى ارتضته مشيئته ، وهو أن رحمته سبقت غضبه ، ومغفرته سبقت انتقامه . والضمير " أنا " و " هو " فى الآيتين الكريمتين ، للفصل لإِفادة تأكيد الخبر . قال الإِمام الرازى ما ملخصه وفى الآيتين لطائف إحداها أنه أضاف - سبحانه - العباد إلى نفسه بقوله { عبادى } وهذا تشريف عظيم لهم … وثانيها . أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ فى التأكيد بألفاظ ثلاثة أولها قوله { أنى } وثانيها قوله { أنا } ، وثالثها . إدخال حرف الألف واللام على قوله { الغفور الرحيم } ، ولما ذكر العذاب لم يقل إنى أنا المعذب ، بل قال { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ } . وثالثها أنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ إليهم هذا المعنى ، فكأنه أشهده على نفسه فى التزام المغفرة والرحمة . ورابعها أنه لما قال { نبئ عبادى } كان معناه نبئ كل من كان معترفاً بعبوديتى ، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع . فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصى ، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله - تعالى - . وقال الآلوسى وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله - تعالى - خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة ، وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذى عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذى عند الله - تعالى - من العذاب ، لم يأمن من النار " . وأخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال فى الآية بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو يعلم العبد قدر عفو الله - تعالى - لما تورع من حرام ، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه " . وقوله - سبحانه - { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ … } معطوف على قوله قبل ذلك { نبئ عبادى … } . قال الجمل وأصل الضيف الميل ، يقال أضفت إلى كذا إذا ملت إليه . والضيف من مال إليك نزولاً بك ، وصارت الضيافة فى القرى وأصل الضيف مصدر ، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع فى غالب كلامهم . وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف … والمراد بضيف إبراهيم هنا الملائكة الذين نزلوا عنده ضيوفاً فى صورة بشرية ، وبشروه بغلام عليم ، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط لإِهلاكهم … ثم فصل - سبحانه - ما دار بين إبراهيم وضيوفه فقال { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً … } . والظرف " إذ " منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر . أى ونبئهم - أيضاً - أيها الرسول الكريم - عن ضيف إبراهيم ، وقت أن دخلوا عليه ، فقالوا له على سبيل الدعاء أو التحية { سلاما } أى سلمت سلاما . أو سلمنا سلاما . فلفظ { سلاما } منصوب بفعل محذوف . وقوله - سبحانه - { قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } بيان لما رد به إبراهيم - عليه السلام - على الملائكة . و { وجلون } جمع وجل ، والوجل اضطراب يعترى النفس لتوقع حدوث مكروه . يقال وجل الرجل وجلا فهو وجل إذا خاف . أى قال لهم إبراهيم بعد أن دخلوا عليه وبادروه بالتحية إنا منكم خائفون . وقال { إنا منكم … } بصيغة الجمع ، لأنه قصد أن الخوف منهم قد اعتراه هو ، واعترى أهله معه . وكان من أسباب خوفه منهم ، أنهم دخلوا عليه بدون إذن ، وفى غير وقت الزيارة وبدون معرفة سابقة لهم ، وأنهم لم يأكلوا من الطعام الذى قدمه إليهم … هذا ، وقد ذكر - سبحانه فى سورة الذاريات أنه رد عليهم السلام فقال - تعالى - { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } كما بين - سبحانه - فى سورة هود أن من أسباب خوفه منهم ، عدم أكلهم من طعامه . قال - تعالى - { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً … } أى خاف إبراهيم لما رأى أيدى الضيف لا تصل إلى طعامه . ثم حكى - سبحانه - ما قالته الملائكة لإِدخال الطمأنينة على قلب إبراهيم فقال - تعالى - { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } . أى قالت الملائكة لإِبراهيم على سبيل البشارة وإدخال السرور على قلبه لا تخف منا يا إبراهيم ، إنا جئنا إليك لنبشرك بغلام ذى علم كثير بشريعة الله - تعالى - وبأوامره ونواهيه ، وهو إسحق - عليه السلام - . وجملة { إنا نبشرك … } مستأنفة لتعليل النهى عن الوجل . وقد حكى - سبحانه - هنا أن البشارة كانت له ، وفى سورة هود أن البشارة كانت لامرأته ، ومعنى ذلك أنها كانت لهما معاً ، إما فى وقت واحد ، وإما فى وقتين متقاربين بأن بشروه هو أولاً ، ثم جاءت امرأته بعد ذلك فبشروها أيضاً ، ويشهد لذلك قوله - تعالى - { وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ … } ثم حكى - سبحانه - ما قاله إبراهيم للملائكة بعد أن بشروه بهذا الغلام العليم ، فقال - تعالى - { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } . والاستفهام للتعجب . كأنه عجب من أن يرزقه الله - تعالى - بغلام عليم بعد أن مسه الكبر ، وبلغ سن الشيخوخة . و { على } بمعنى مع ، والمس اتصال شئ بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة . أى قال إبراهيم للملائكة ، بعد أن بشروه بالولد ، أبشرتمونى بذلك مع أن الكبر قد أصابنى ، والشيخوخة قد اعترتنى فبأى شىء عجيب قد بشرتمونى . وتعجب إبراهيم إنما هو من كمال قدرة الله - تعالى - ونفاذ أمره ، حيث وهبه هذا الغلام فى تلك السن المتقدمة بالنسبة له ولامرأته ، والتى جرت العادة أن لا يكون معها إنجاب الأولاد . وقد حكى القرآن هذا التعجب على لسان امرأة إبراهيم فى قوله - تعالى - { قَالَتْ يَٰوَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ … } قال الإِمام الرازى ما ملخصه والسبب فى هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة … وهناك جواب آخر ، وهو أن الإِنسان إذا كان عظيم الرغبة فى شىء ، وفاته الوقت الذى يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه ، فإذا بشر بعد ذلك بحصوله ازداد فرحه وسروره ، ويصير ذلك الفرح القوى كالمدهش له وربما يجعله هذا الفرح يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ، طلبا للالتذاذ بسماعها … وقوله - سبحانه - { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ } . أى قال الملائكة لإِبراهيم لزيادة اطمئنانه ، ولتأكيد بشارته بالغلام العليم يا إبراهيم إنا بشرناك بالأمر المحقق الوقوع ، وباليقين الذى لا خلف معه ، وهو أن الله - تعالى - سيهبك الولد مع تقدم سنك وسن زوجك ، فلا تكن من الآيسين من رحمة الله - تعالى - فإن قدرته - عز وجل - لا يعجزها شىء . وهنا دفع إبراهيم - عليه السلام - عن نفسه رذيلة اليأس من رحمة الله . فقال على سبيل الإِنكار والنفى { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ } أى أنا ليس بى قنوط أو يأس من رحمة الله ، لأنه لا ييأس من رحمة الله - تعالى - إلا القوم الضالون عن طريق الحق والصواب ، الذين لا يعرفون سعة رحمته - تعالى - ونفاذ قدرته ، ولكن هذه البشارة العظيمة - مع تقدم سنى وسن زوجى - هى التى جعلتنى - من شدة الفرح والسرور - أعجب من كمال قدرة الله - تعالى - ، ومن جزيل عطائه ، ومن سابغ مننه ، حيث رزقنى الولد فى هذه السن التى جرت العادة بأن لا يكون معها إنجاب أو ولادة . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله إبراهيم للملائكة ، بعد أن اطمأن إليهم ، فقال { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } . والخطب مصدر خطب يخطب ، ومنه قولهم هذا خطب يسير ، وخطب جلل ، وجمعه خطوب ، وخصه بعضهم بما له خطر من الأمور . وأصله الأمر العظيم الذى يكثر فيه التخاطب ويخطب له . أى قال إبراهيم - عليه السلام - للملائكة على سبيل الاستيضاح بالتفصيل عن سبب مجيئهم فما شأنكم الخطير الذى من أجله جئتم إلينا سوى هذه البشارة . وكأنه قد فهم أن مجيئهم إليه ليس لمجرد البشارة ، بل من وراء البشارة أمر آخر جاءوا من أجله . وهنا بادره الملائكة بقولهم - كما حكى القرآن عنهم - { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } . أى قالوا له إنا أرسلنا - بأمر الله - تعالى - إلى قوم شأنهم الإِجرام ، ودأبهم الفجور ، والمراد بهم قوم لوط - عليه السلام - وكانوا يسكنون مدينة " سدوم " بمنطقة وادى الأردن وقوله { إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } استثناء من القوم المجرمين الذين أرسل الملائكة لإِهلاكهم . والمراد بآل لوط أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه . ولم يشاركوا قومهم فى كفرهم وشذوذهم . أى إنا أرسلنا إلى قوم لوط لإِهلاكهم ، إلا من آمن منهم فإنا لمنجوهم أجمعين . وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال فإن قلت قوله - تعالى - { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } استثناء متصل أم منقطع ؟ قلت لا يخلو من أن يكون استثناء من قوم فيكون منقطعاً ، لأن القوم موصوفون بالإِجرام فاختلف لذلك الجنسان ، وأن يكون استثناء من الضمير فى { مجرمين } فيكون متصلاً ، كأنه قيل قد أرسلنا إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم ، كما قال { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } فإن قلت فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين ؟ قلت نعم ، وذلك أن آل لوط مخرجون فى المنقطع من حكم الإِرسال ، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة ، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلاً … كأنه قيل إنا أهلكنا قوما مجرمين ، ولكن آل لوط أنجيناهم . وأما فى المتصل ، فهم داخلون فى حكم الإِرسال ، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء ، وينجوا هؤلاء ، فلا يكون الإِرسال مخلصاً بمعنى الإِهلاك والتعذيب كما فى الوجه الأول … وقوله - سبحانه - { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ } استثناء من الضمير فى { لمنجوهم } ، إخراجا لها من التنجية . أى إلا امرأة لوط - عليه السلام - فليست ممن سننجيه ، بل هى ممن سنهلكه مع القوم المجرمين . ومعنى { قدرنا } قضينا وحكمنا . والغابر الباقى ، يقال غبر الشىء غبوراً إذا بقى وأصله من الغبرة وهى بقية اللبن فى الضرع . وقد يستعمل فى الماضى فيكون هذا اللفظ من الأضداد . ونسب الملائكة التقدير إليهم فقالوا { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ … } مع أنه فعل الله - تعالى - لما لهم من الزلفى عنده - سبحانه - ، ولأنهم ما أرسلوا لإِهلاك المجرمين وإنجاء المؤمنين إلا بأمره . قال الآلوسى ما ملخصه والظاهر أن قوله - تعالى - { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ … } من كلام الملائكة ، وأسندوا التقدير إلى أنفسهم - وهو فعل الله - سبحانه - لما لهم من القرب والاختصاص ، وهذا كما يقول أحد حاشية السلطان أمرنا بكذا … والآمر فى الحقيقة هو السلطان . وقيل - ولا يخفى بعده - هو من كلام الله - تعالى - فلا يحتاج إلى تأويل ، وكذا لا يحتاج إلى تأويل إذا أريد بالتقدير العلم . قال بعض العلماء وفى هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء ، لأنه - تعالى - استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله { إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ } . وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوب بليغ حكيم ، ما دار بين إبراهيم وبين الملائكة الذين جاءوا لتبشيره بغلام عليم ، وإخباره بإهلاك القوم المجرمين ، وهم قوم لوط - عليه السلام - … ثم حكت السورة بعد ذلك ما دار بينهم وبين لوط - عليه السلام - بعد أن جاءوا إليه ، وما دار بين لوط - عليه السلام - وبين قومه المجرمين من مجادلات ومحاورات ، وما حل بهؤلاء المجرمين من عذاب جعل أعلى مدينتهم أسفلها … فقال - تعالى - { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } .