Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 61-74)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الآلوسى وقوله - تعالى - { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } شروع فى بيان إهلاك المجرمين ، وتنجية آل لوط . ووضع الظاهر موضع الضمير ، للإِيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك . والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يفهم من السياق ، والتقدير وخرج الملائكة من عند إبراهيم - بعد أن بشروه بغلامه ، وبعد أن أخبروه بوجهتهم - فاتجهوا إلى المدينة التى يسكنها لوط - عليه السلام - وقومه . فلما دخلوا عليه قال لهم { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } . أى إنكم قوم غير معروفين لى ، لأنى لم يسبق لى أن رأيتكم ، ولا أدرى من أى الأقوام أنتم ، ولا أعرف الغرض الذى من أجله أتيتم ، وإن نفسى ليساورها الخوف والقلق من وجودكم عندى … ويبدو أن لوطاً - عليه السلام - قد قال لهم هذا الكلام بضيق نفس ، لأنه يعرف شذوذ المجرمين من قومه ، ويخشى أن يعلموا بوجود هؤلاء الضيوف أصحاب الوجوه الجميلة عنده ، فيعتدوا عليهم دون أن يملك الدفاع عنهم … وقد صرح القرآن الكريم بهذا الضيق النفسى ، الذى اعترى لوطا بسبب وجود هؤلاء الضيوف عنده ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } وقال - سبحانه - { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } مع أن المجئ كان للوط - عليه السلام - والخطاب كان معه ، تشريفاً وتكريماً للمؤمنين من قوم لوط ، فكأنهم كانوا حاضرين ومشاهدين لوجود الملائكة بينهم ، ولما دار بينهم وبين لوط - عليه السلام - . وقوله - سبحانه - { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } . حكاية لما رد به الملائكة على لوط ، لكى يزيلوا ضيقه بهم ، وكراهيته لوجودهم عنده . وقوله { يمترون } من الامتراء ، وهو الشك الذى يدفع الإِنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق . وهو - كما يقول الإِمام الفخر الرازى - مأخوذ من قول العرب " مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها ، فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء ، كاللبن الذى يجتذب عند الحلب . يقال قد مارى فلان فلانا ، إذا جادله كأنه يستخرج غضبه " . أى قال الملائكة للوط لإِدخال الطمأنينة على نفسه يا لوط نحن ما جئنا لإِزعاجك أو إساءتك ، وإنما جئناك بأمر كان المجرمون من قومك ، يشكون فى وقوعه ، وهو العذاب الذى كنت تحذرهم منه إذا ما استمروا فى كفرهم وفجورهم … وإنا ما أتيناك إلا بالأمر الثابت المحقق الذى لا مرية فيه ولا تردد ، وهو إهلاك هؤلاء المجرمين من قومك ، وإنا لصادقون فى كل ما قلناه لك ، وأخبرناك به ، فكن آمناً مطمئناً . فالإضراب فى قوله { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ . … } إنما هو لإِزالة ما وقر فى قلب لوط - عليه السلام - تجاه الملائكة من وساوس وهواجس . فكأنهم قالوا له نحن ما جئناك بشئ تكرهه أو تخافه … وإنما جئناك بما يسرك ويشفى غليلك من هؤلاء القوم المنكوسين . وعبر عن العذاب بقوله { بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } زيادة فى إدخال الأنس على نفسه وتحقيقاً لوقوع العذاب بهم . وقوله { وَأتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } تأكيد على تأكيد . وهذه التأكيدات المتعددة والمتنوعة تشعر بأن لوطا - عليه السلام - كان فى غاية الهم والكرب لمجئ الملائكة إليه بهذه الصورة التى تغرى المجرمين بهم دون أن يملك حمايتهم أو الدفاع عنهم . لذا كانت هذه التأكيدات من الملائكة له فى أسمى درجات البلاغة ، حتى يزول خوفه ، ويزداد اطمئنانه إليهم ، قبل أن يخبروه بما أمرهم الله - تعالى - بإخباره به ، وهو قوله - تعالى - { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } . قال القرطبى قوله { فأسر … } قرئ فاسر وقرئ فأسر ، بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان . قال - تعالى - { وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ … } وقال { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً … } وقيل فأسر تقال لمن سار من أول الليل … وسرى لمن سار فى آخره ، ولا يقال فى النهار إلا سار . وقوله { بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ … } أى بجزء من الليل . والمراد به الجزء الأخير منه . أى قال الملائكة للوط - عليه السلام - بعد أن أزالوا خوفه منه يا لوط إنا نأمرك - بإذن الله تعالى - أن تخرج من هذه المدينة التى تسكنها مع قومك وأن يخرج معك أتباعك المؤمنون ، وليكن خروجكم فى الجزء الأخير من الليل . وقوله { واتبع أدبارهم } أى وكن وراءهم لتطلع عليهم وعلى أحوالهم . قال الإِمام ابن كثير يذكر الله - تعالى - عن الملائكة أنهم أمروا لوطا أن يسرى بأهله بعد مضى جانب من الليل ، وأن يكون لوط - عليه السلام - يمشى وراءهم ليكون أحفظ لهم . وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى فى الغزاة يزجى الضعيف ، ويحمل المنقطع . وقوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أى ولا يلتفت منكم أحد أيها المؤمنون - خلفه ، حتى لا يرى العذاب المروع النازل بالمجرمين . وإنما أمرهم - سبحانه - بعدم الالتفات إلى الخلف ، لأن من عادة التارك لوطنه ، أن يلتفت إليه عند مغادرته ، كأنه يودعه . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات ؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قوم لوط ، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا فلم يكن له بد من الاجتهاد فى شكر الله ، وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك ، فأمر بأن يقدِّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم ، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات فى تلك الحال المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، وليكون مسيره مسير الهارب الذى يقدم سربه ويفوت به . ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا له ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم ، كالذى يتحسر على مفارقة وطنه … أو جعل النهى عن الالتفات ، كناية عن مواصلة السير ، وترك التوانى والتوقف ، لأن من يتلفت لا بد له فى ذلك من أدنى وقفة . وقوله { وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } إرشاد من الملائكة للوط - عليه السلام - إلى الجهة التى أمره الله - تعالى - بالتوجه إليها . أى وامضوا فى سيركم إلى الجهة التى أمركم الله - تعالى - بالسير إليها ، مبتعدين عن ديار القوم المجرمين ، تصحبكم رعاية الله وحمايته . قيل أمروا بالتوجه إلى بلاد الشام ، وقيل إلى الأردن ، وقيل إلى مصر . ولم يرد حديث صحيح يحدد الجهة التى أمروا بالتوجه إليها ، ولكن الذى نعتقده أنهم ذهبوا بأمر الله - تعالى - إلى مكان آخر ، أهله لم يعملوا ما كان يعمله العادون من قوم لوط - عليه السلام - . وقوله - سبحانه - { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } بيان لجانب آخر من جوانب الرعاية والتكريم للوط - عليه السلام - . وعدى " قضينا " بإلى ، لتضمنه معنى أوحينا . والمراد بذلك الأمر إهلاك الكافرين من قوم لوط - عليه السلام - . وجملة { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } مفسرة ومبينة لذلك الأمر . وعبر عن عذابهم وإهلاكهم بالإِبهام أولاً . ثم بالتفسير والتوضيح ثانياً ، للإِشعار بأنه عذاب هائل شديد . ودابرهم أى آخرهم الذى يدبرهم . يقال فلان دبر القوم يدبرهم دبورا إذا كان آخرهم فى المجئ . والمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب استئصالا . وقوله { مصبحين } أى داخلين فى الصباح ، مأخوذ من أصبح التامة ، وصيغة أفعل تأتى للدخول فى الشئ ، نحو أنجد وأتهم ، أى دخل فى بلاد نجد وفى بلاد تهامة ، وهو حال من اسم الإِشارة هؤلاء ، والعامل فيه معنى الإِضافة . والمعنى وقضينا الأمر بإبادتهم ، وأوحينا إلى نبينا لوط - عليه السلام - أن آخر هؤلاء المجرمين مقطوع ومستأصل ومهلك مع دخول وقت الصباح . وفى هذا التعبير ما فيه من الدلالة على أن العذاب سيمحقهم جميعاً ، بحيث لا يبقى منهم أحداً ، لا من كبيرهم ولا من صغيرهم ، ولا من أولهم ولا من آخرهم . ثم حكى - سبحانه - ما حدث من القوم المجرمين ، بعد أن تسامعوا بأن فى بيت لوط - عليه السلام - شباناً فيهم جمال ووضاءة فقال - تعالى - { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } . والمراد بأهل المدينة أهل مدينة سدوم التى كان يسكنها لوط وقومه . ويستبشرون أى يبشر بعضهم بعضاً بأن هناك شباناً فى بيت لوط - عليه السلام - ، من الاستبشار وهو إظهار الفرح والسرور . وهذا التعبير الذى صورته الآية الكريمة ، يدل دلالة واضحة على أن القوم قد وصلوا إلى الدرك الأسفل من الانتكاس والشذوذ وانعدام الحياء … إنهم لا يأتون لارتكاب المنكر فرداً أو أفرادا ، وإنما يأتون جميعاً - أهل المدينة - وفى فرح وسرور ، وفى الجهر والعلانية ، لا فى السر والخفاء … ولأى غرض يأتون ؟ إنهم يأتون لارتكاب الفاحشة التى لم يسبقهم إليها أحد من العالمين . وهكذا النفوس عندما ترتكس وتنتكس ، تصل فى مجاهرتها بإتيان الفواحش ، إلى ما لم تصل إليه بعض الحيوانات … ويقف لوط - عليه السلام - أمام شذوذ قومه مغيظا مكروباً ، يحاول أن يدفع عن ضيفه شرورهم ، كما يحاول أن يحرك فيهم ذرة من الآدمية فيقول لهم { إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ } . وتفضحون من الفضح والفضيحة . يقال فضح فلان فلانا فضحا وفضيحة ، إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه . أى قال لوط - عليه السلام - لمن جاءوا يهرعون إليه من قومه لارتكاب الفاحشة مع ضيوفه يا قوم إن هؤلاء الموجودين عندى ضيوفى الذين يلزمنى حمايتهم ، فابتعدوا عن دارى وعودوا إلى دياركم ، ولا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فأهون فى نظرهم ، لعجزى عن حمايتهم ، وأنتم تعلمون أن كرامة الضيف جزء من كرامة مضيفه … وعبر لوط - عليه السلام - عن الملائكة بالضيف لأنه لم يكن قد علم أنهم ملائكة ولأنهم قد جاءوا إليه فى هيئة الآدميين . ثم أضاف لوط - عليه السلام - إلى رجاء قومه رجاء آخر ، حيث ذكرهم بتقوى الله فقال { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ } . أى واتقوا الله وصونوا أنفسكم عن عذابه وغضبه ، ولا تخزون مع ضيفى ، وتذلونى وتهينونى أمامهم . يقال خَزِىَ الرجل يخزَى وخَزى ، إذا وقع فى مصيبة فذل لذلك . ولكن هذه النصائح الحكيمة من لوط - عليه السلام - لقومه ، لم تجد أذنا صاغية ، بل قابلوها بسوء الأدب معه ، وبالتطاول عليه ، شأن الطغاة الفجرة { قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } . والاستفهام للإِنكار . والواو للعطف على محذوف ، والعالمين جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله - تعالى - والمراد بالعالمين هنا الرجال الذين كانوا يأتون معهم الفاحشة من دون النساء . أى قال قوم لوط له بوقاحة وسوء أدب . أو لم يسبق لنا يا لوط أننا نهيناك عن أن تحول بيننا وبين من نريد ارتكاب الفاحشة معه من الرجال ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف ساغ لك بعد هذا النهى أن تمنعنا عما نريده من ضيوفك وأنت تعلم ما نريده منهم ؟ ولكن لوطا - عليه السلام - مع شناعة قولهم هذا ، لم ييأس من محاولة منعهم عما يريدونه من ضيوفه ، فأخذ يرشدهم إلى ما تدعو إليه الفطرة السليمة فقال { هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } . والمراد ببناته هنا زوجاتهم ونساؤهم اللائى يصلحن للزواج . وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبى أب لأمته من حيث الشفقة والرعاية وحسن التربية . قال ابن كثير ما ملخصه يرشد لوطا - عليه السلام - قومه إلى نسائهم فإن النبى للأمة بمنزلة الوالد ، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى { أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } وقيل المراد ببناته هنا بناته من صلبه ، وأنه عرض عليهم الزواج بهن . ويضعف هذا الرأى أن لوطا - عليه السلام - كان له بنتان أو ثلاثة كما جاء فى بعض الروايات ، وعدد المتدافعين من قومه إلى بيته كان كثيراً ، كما يرشد إليه قوله - تعالى - { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاثة للزواج بهن ؟ قال الإِمام الرازى فى ترجيح الرأى الأول ما ملخصه " وهذا القول عندى هو المختار ، ويدل عليه وجوه منها أنه قال هؤلاء بناتى … وبناته اللاتى من صلبه لا تكفى هذا الجمع العظيم ، أما نساء أمته ففيهم كفاية للكل ، ومنها أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما " زنتا وزاعورا " وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز ، لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة " . والمعنى أن لوطا - عليه السلام - لما رأى هيجان قومه ، وإصرارهم على ارتكاب الفاحشة مع ضيوفه ، قال لهم على سبيل الإِرشاد إلى ما يشبع الفطرة السليمة يا قوم هؤلاء نساؤكم اللاتى هن بمنزلة بناتى ، فاقضوا معهن شهوتكم إن كنتم فاعلين لما أرشدكم إليه من توجيهات وآداب . وعبر بإن فى قوله { إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } لشكه فى استجابتهم لما يدعوهم إليه فكأنه يقول لهم إن كنتم فاعلين لما أطلبه منكم ، وما أظنكم تفعلونه لانتكاس فطرتكم ، وانقلاب أمزجتكم … وجواب الشرط محذوف ، أى إن كنتم فاعلين ما أرشدكم إليه فهو خير لكم . وقوله - سبحانه - { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } يرى جمهور المفسرين أنه كلام معترض بين أجزاء قصة لوط - عليه السلام - مع قومه ، لبيان أن الموعظة لا تجدى مع القوم الغاوين ، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من سفهاء قومه . فالخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم واللام فى { لعمرك } لام القسم ، والمقسم به حياته صلى الله عليه وسلم والعمر - بفتح العين - لغة فى العمر - بضمها ، ومعناهما مدة حياة الإِنسان وبقائه فى هذه الدنيا ، إلا أنهم ألزموا مفتوح العين فى القسم ، وهو مبتدأ وخبره محذوف وجوبا والتقدير لعمرك قسمى أو يمبنى . والسكرة ذهاب العقل ، مأخوذة من السكر - بفتح السين وإسكان الكاف - وهو السد والإِغلاق . وأطلقت هنا على الغواية والضلالة لإِزالتهما الرشد والهداية عن عقل الإِنسان و { يعمهون } من العمه بمعنى التحير والتردد فى الأمر . وهو للبصيرة بمنزلة العمى للبصر . يقال عمه فلان - كفرح - عمها ، إذا تردد وتحير ، فهو عمه وعامه ، وهم عمهون وعمه - كركع - والمعنى بحق حياتك - أيها الرسول الكريم - إن هؤلاء المكذبين لك ، لفى غفلتهم وغوايتهم يترددون ويتحيرون ، شأنهم فى ذلك شأن الضالين من قبلهم كقوم لوط وقوم شعيب وقوم صالح ، وغيرهم من المتكبرين فى الأرض بغير الحق … قال الآلوسى " وقوله { لعمرك } قسم من الله - تعالى - بعمر نبينا صلى الله عليه وسلم على ما عليه جمهور المفسرين . وأخرج البيهقى فى الدلائل ، وأبو نعيم وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال ما خلق الله - تعالى - وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله - تعالى - أقسم بحياة أحد غيره ، قال - تعالى - { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقيل هو قسم من الملائكة بعمر لوط - عليه السلام - ، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول ، أى . قالت الملائكة للوط - عليه السلام - لعمرك … وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهداً له وقرينة عليه … " . ثم ختم - سبحانه - القصة ببيان النهاية الأليمة لهؤلاء المفسدين من قوم لوط فقال - تعالى - { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } . والصيحة من الصياح وهو الصوت الشديد . يقال صاح فلان إذا رفع صوته بشدة . وأصل ذلك تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب ، إذا انشق فسمع منه صوت . قالوا وكل شئ أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة . و { مشرقين } اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا فى وقت شروق الشمس ، أى أن الله - تعالى - بعد أن أخبر لوطا - عليه السلام - بإهلاك قومه ، وأمره عن طريق الملائكة - بالخروج ومعه المؤمنون من هذه المدينة … جاءت الصيحة الهائلة من السماء فأهلكتهم جميعاً وهم داخلون فى وقت شروق الشمس . وقال - سبحانه - قبل ذلك { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } وقال هنا { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } للإِشارة إلى أن ابتداء عذابهم كان عند الصباح وانتهاءه باستئصال شأفتهم كان مع وقت الشروق . والضمير فى قوله { عاليها سافلها } يعود إلى المدينة التى كان يسكنها المجرمون من قوم لوط . أى فجعلنا بقدرتنا عالى هذه المدينة سافلها ، بأن قلبناها قلباً كاملاً { وأمطرنا عليهم } أى على هؤلاء المجرمين من قوم لوط { حجارة } كائنة { من سجيل } أى من طين متحجر . فهلكوا جميعاً . وهكذا أخذ الله - تعالى - هؤلاء المجرمين أخذ عزيز مقتدر ، حيث أهلكهم بهذه العقوبة التى تتناسب مع جريمتهم ، فهم قلبوا الأوضاع ، فأتوا بفاحشة لم يسبقوا إليها ، فانتقم الله - تعالى - منهم بهذه العقوبة التى جعلت أعلى مساكنهم أسفلها . ثم ساقت السورة الكريمة بعض العبر والعظات التى يهتدى بها العقلاء من قصتى إبراهيم ولوط - عليهما السلام - كما ساقت بعد ذلك جانباً من قصتى شعيب وصالح - عليهما السلام - فقال - تعالى - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ … } .