Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 85-99)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فقوله - سبحانه - { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } توجيه للناس إلى التأمل فى مظاهر قدرة الله - تعالى - ، وإلى الحق الأكبر الذى قام عليه هذا الوجود ، بعد أن بين - سبحانه - قبل ذلك ، سنته التى لا تتخلف ، وهى أن حسن العاقبة للمتقين ، وسوء المصير للمكذبين . والحق هو الأمر الثابت الذى تقتضيه عدالة الله - تعالى - وحكمته . والباء فيه للملابسة . أى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلا الله ، إلا خلقاً ملتبساً بالحق الذى لا يحوم حوله باطل ، وبالعدل الذى لا يخالطه جور وبالحكمة التى تتنزه عن العبث ، وتأبى استمرار الفساد ، واستبقاء ضعف الحق أمام الباطل . والمراد بالساعة فى قوله - تعالى - { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ } ساعة البعث والحساب والثواب والعقاب فى الآخرة . أى وإن ساعة إعطاء كل ذى حق حقه ، ومعاقبة كل ذى باطل على باطله ، لآتية لا ريب فيها ، فمن فاته أخذ حقه فى الدنيا فسيأخذه وافيا غير منقوص فى الآخرة ، ومن أفلت من عقوبة الدنيا فسينال ما هو أشد وأخزى منها فى يوم الحساب . فالجملة الكريمة انتقال من تهديد المجرمين بعذاب الدنيا ، إلى تهديدهم بعذاب الآخرة ، والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المكذبين من أذى . وأكد - سبحانه - هذه الجملة بإن وبلام التوكيد ، ليدل على أن الساعة آتية لا محالة ، وليخرس ألسنة الذين ينكرون وقوعها وحدوثها … وجملة { فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ } تفريع على ما قبلها . والصفح الجميل ترك المؤاخذة على الذنب ، وإغضاء الطرف عن مرتكبه بدون معاتبة . أى ما دام الأمر كما ذكرنا لك أيها الرسول الكريم - من أن هذا الكون قد خلقناه بالحق ، ومن أن الساعة آتية لا ريب فيها … فاصفح عن هؤلاء المكذبين لك صفحاً جميلاً ، لا عتاب معه ولا حزن ولا غضب … حتى يحكم الله بينك وبينهم . وهذا التعبير فيه ما فيه من تسليته صلى الله عليه وسلم وتكريمه ، لأنه - سبحانه - أمره بالصفح الجميل عن أعدائه ، ومن شأن الذى يصفح عن غيره ، أن يكون أقوى وأعز من هذا الغير - فكأنه - سبحانه - يقول له اصفح عنهم فعما قريب ستكون لك الكلمة العليا عليهم . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وقوله - سبحانه - { … فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } تعليل للأمر بالصفح الجميل عنهم . والخلاق والعليم صيغتا مبالغة من الخلق والعلم ، للدلالة على كثرة خلقه ، وشمول علمه . أى { إن ربك } أيها الرسول الكريم ، الذى رباك برعايته وعنايته ، واختارك لحمل رسالته { هو } - سبحانه - { الخلاق } لك ولهم ولكل شئ فى هذا الوجود . { العليم } بأحوالك وبأحوالهم ، وبما يصلح لك ولهم ولكل الكائنات . وقد علم - سبحانه - أن الصفح عنهم فى هذا الوقت فيه المنفعة لك ولهم ، فحقيق بك - أيها الرسول الكريم - أن تطيعه - سبحانه - ، وأن تكل الأمور إليه . ولقد تحقق الخير من وراء هذا التوجيه السديد من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم فقد نرتب على هذا الصفح النصر للنبى صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، والهداية لبعض الكافرين وهم الذين دخلوا فى الإِسلام بعد نزول هذه الآية ، وصاروا قوة للدعوة الإِسلامية بعد أن كانوا حرباً عليها ، وتحقق - أيضاً - قوله صلى الله عليه وسلم " لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله - عز وجل - " . ثم أتبع - سبحانه - هذه التسلية والبشارة للرسول صلى الله عليه وسلم ، بمنة ونعمة أجل وأعظم من كل ما سواها ، ليزيده اطمئناناً وثقة بوعد الله - تعالى - فقال { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } . والمراد بالسبع المثانى صورة الفاتحة . وسميت بذلك ، لأنها سبع آيات ، ولأنها تثنى أى تكرر فى كل ركعة من ركعات الصلاة . قال صاحب الكشاف " والمثانى من التثنية وهى التكرير للشئ ، لأن الفاتحة تكرر قراءتها فى الصلاة . أو من الثناء ، لاشتمالها على ما هو ثناء على الله - تعالى - … " . والمعنى ولقد أعطيناك - أيها الرسول الكريم - سورة الفاتحة التى هى سبع آيات ، والتى تعاد قراءتها فى كل ركعة من ركعات الصلاة ، وأعطيناك - أيضاً - القرآن العظيم الذى يهدى للطريق التى هى أقوم . وأوثر فعل { آتيناك } بمعنى أعطيناك على أوحينا إليك ، أو أنزلنا عليك لأن الإِعطاء أظهر فى الإِكرام والإِنعام . وقوله { والقرآن العظيم } معطوف على { سبعاً } من باب عطف الكل على الجزء ، اعتناء بهذا الجزء . ووصف - سبحانه - القرآن بأنه عظيم ، تنويهاً بشأنه ، وإعلاء لقدره . ومما يدل على أن المراد بالسبع المثانى سورة الفاتحة ما أخرجه البخارى بسنده " عن أبى سعيد بن المعلى قال مر بى النبى صلى الله عليه وسلم وأنا أصلى ، فدعانى فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال ما منعك أن تأتينى ؟ فقلت كنت أصلى . فقال ألم يقل الله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } . ثم قال ألا أعلمك أعظم سورة فى القرآن قبل أن أخرج من المسجد ؟ ثم ذهب النبى صلى الله عليه وسلم ليخرج ، فذكرته فقال { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } هى السبع المثانى والقرآن العظيم الذى أوتيته " . وروى البخارى - أيضاً - عن أبى هريرة قال قال النبى صلى الله عليه وسلم " أم القرآن هى السبع المثانى والقرآن العظيم " . هذا ، وهناك أقوال أخرى فى المقصود بالسبع المثانى ، ذكرها بعض المفسرين فقال اختلف العلماء فى السبع المثانى فقيل الفاتحة . قاله على بن أبى طالب ، وأبو هريرة ، والربيع بن أنس ، وأبو العالية ، والحسن وغيرهم . وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة من حديث أبى بن كعب وأبى سعيد بن المعلى … وقال ابن عباس هى السبع الطوال البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال والتوبة معاً … وأنكر قوم هذا وقالوا أنزلت هذه الآية بمكة ، ولم ينزل من السبع الطوال شئ إذ ذاك . وقيل المثانى القرآن كله ، قال الله - تعالى - { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } هذا قول الضحاك وطاووس ، وقاله ابن عباس . وقيل له مثانى ، لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه … وقيل المراد بالسبع المثانى أقسام القرآن من الأمر والنهى والتبشير والإِنذار … ثم قال والصحيح الأول لأنه نص . وقد قدمنا فى الفاتحة أنه ليس فى تسميتها بالمثانى ما يمنع من تسمية غيرها بذلك ، إلا أنه إذا ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم وثبت عنه نص فى شئ لا يحتمل التأويل ، كان الوقوف عنده . والذى نراه ، أن المقصود بالسبع المثانى هنا سورة الفاتحة ، لثبوت النص الصحيح بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومتى ثبت النص الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فى شئ فلا كلام لأحد معه أو بعده صلى الله عليه وسلم . ثم نهى الله - تعالى - المسلمين فى شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا ، فقال - تعالى - { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } … قال صاحب الكشاف فإن قلت كيف وصل هذا بما قبله ؟ قلت يقول الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم قد أوتيت النعمة العظمى التى كل نعمة وإن عظمت فهى إليها حقيرة ضئيلة ، وهى القرآن العظيم ، فعليك أن تستغنى به ، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا … قال أبو بكر الصديق من أوتى القرآن ، فرأى أن أحداً أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى ، فقد صغر عظيماً ، وعظم صغيراً . وقال ابن كثير وقال ابن أبى حاتم ذكر عن وكيع بن الجراح ، قال حدثنا موسى بن عبيدة ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبى رافع صاحب النبى صلى الله عليه وسلم قال " أضاف النبى صلى الله عليه وسلم ضيفا ، ولم يكن عنده صلى الله عليه وسلم شئ يصلحه ، فأرسل إلى رجل من اليهود يقول لك محمد رسول الله أسلفنى دقيقا إلى هلال رجب . قال اليهودى لا إلا برهن . فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال أما والله إنى لأمين من فى السماء ، وأمين من فى الأرض ، ولئن أسلفنى أو باعنى لأؤدين إليه . فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية . { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } كأنه - سبحانه - يعزيه عن الدنيا " . وقوله - سبحانه - { تمدن } من المد ، وأصله الزيادة . واستعير هنا للتطلع إلى ما عند الغير برغبة وتمن وإعجاب . يقال مد فلان عينه إلى مال فلان ، إذا اشتهاه وتمناه وأراده . والمراد بالأزواج الأصناف من الكفار الذين متعهم الله بالكثير من زخارف الدنيا . والمعنى لا تحفل - أيها الرسول الكريم - ولا تطمح ببصرك طموح الراغب فى ذلك المتاع الزائل ، الذى متع الله - تعالى - به أصنافاً من المشركين فإن ما بين أيديهم منه شئ سينتهى عما قريب ، وقد آتاهم الله - تعالى - إياه على سبيل الاستدراج والإِملاء ، وأعطاك ما هو خير منه وأبقى ، وهو القرآن العظيم . قال صاحب الظلال والعين لا تمتد . إنما يمتد البصر أى يتوجه . ولكن التعبير التصويرى يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع . وهى صورة طريفة حين يتخيلها المتخيل … والمعنى وراء ذلك ، ألا يحفل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك المتاع الذى آتاه الله - تعالى - لبعض الناس … ولا يلقى إليه نظرة اهتمام ، أو نظرة استجمال ، أو نظرة تمن . وقال - سبحانه - هنا { لا تمدن … } بدون واو العطف ، وقال فى سورة طه { ولا تمدن … } بواو العطف ، لأن الجملة هنا مستأنفة استئنافاً بيانياً ، جواباً لما يختلج فى نفوس بعض المؤمنين من تساؤل عن أسباب الإِملاء والعطاء الدنيوى لبعض الكافرين . ولأن الجملة السابقة عليها وهى قوله { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي … } كانت بمنزلة التمهيد لها ، والإِجمال لمضمونها . أما فى سورة طه ، فجملة { ولا تمدن … } معطوفة على ما سبقها من طلب وهو قوله - تعالى - { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً … } وقوله - سبحانه - { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } نهى له صلى الله عليه وسلم عن الاهتمام بالمصير السيئ الذى ينتظر أعداءه . أى ولا تحزن - أيها الرسول الكريم - لكفر من كفر من قومك ، أو لموتهم على ذلك ، أو لأعراضهم عن الحق الذى جئتهم به ، فإن القلوب بأيدينا نصرفها كيف نشاء ، أما أنت فعليك البلاغ . وقوله - سبحانه - { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } بيان لما يجب عليه نحو أتباعه ، بعد بيان ما يجب عليه نحو أعدائه . وخفض الجناح كناية عن اللين والمودة والعطف . أى وكن متواضعاً مع أتباعك المؤمنين ، رءوفاً بهم ، عطوفاً عليهم . قال الشوكانى وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب … وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إليه بسط جناحه ثم قبض على الفرخ ، فجعل ذلك وصفا لتواضع الإِنسان لأتباعه … والجناحان من ابن آدم جانباه . وقوله - سبحانه - { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } معطوف على ما قبله . أى لا تحزن - أيها الرسول الكريم - على مصير الكافرين ، وتواضع لأتباعك المؤمنين ، وقل للناس جميعاً ما قاله كل نبى قبلك لقومه إنى أنا المنذر لكم من عذاب الله إذا ما بقيتم على كفركم ، الموضح لكم كل ما يخفى عليكم . فالنذير هنا بمعنى المنذر ، والمبين بمعنى الكاشف والموضح . وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إنما مثلى ومثل ما بعثنى الله به ، كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم ، إنى رأيت الجيش بعينى ، وإنى أنا النذير العريان ، فالنجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ، وانطلقوا على مهلهم فنجوا . وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعنى واتبع ما جئت به ، ومثل من عصانى وكذب ما جئت به من الحق " . ثم هدد - سبحانه - الذين يحاربون دعوة الحق ، ويصفون القرآن بأوصاف لا تليق به فقال - تعالى - { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } … والكاف فى قوله { كما } للتشبيه ، و { ما } موصوله أو مصدرية وهى المشبه به أما المشبه فهو الإيتاء المأخوذ من قوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } . ولفظ { المقتسمين } افتعال من القسم بمعنى تجزئة الشئ وجعله أقساماً … والمراد بهم بعض طوائف أهل الكتاب ، الذين آمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر . أو المراد بهم - كما قال ابن كثير " { المقتسمين } أى المتحالفين ، أى الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم … " . ولفظ { عضين } جمع عضة - بزنة عزة - ، وهى الجزء والقطعة من الشئ . تقول عضيت الشئ تعضية ، أى فرقته وجعلته أجزاء كل فرقة عضة . قال القرطبى ما ملخصه وواحد العضين عضة ، من عضيت الشئ تعضية أى فرقته ، وكل فرقة عضة . قال الشاعر وليس دين الله بالمعضى . أى بالمفرق . والعضة والعضين فى لغة قريش السحر . وهم يقولون للساحر عاضه ، وللساحرة عاضهة … وفى الحديث " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة أى الساحرة والمستسحرة " . وقيل هو من العضة ، وهى التميمة . والعضيهة البهتان … يقال أعضهت يا فلان أى جئت بالبهتان " . والمعنى ولقد آتيناك - أيها الرسول الكريم - السبع المثانى والقرآن العظيم ، مثل ما أنزلنا على طوائف أهل الكتاب المقتسمين ، أى الذين قسموا كتابهم أقساماً ، فأظهروا قسماً وأخفوا آخر ، والذين جعلوا - أيضاً - القرآن أقساماً ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا بالبعض الآخر . . فجعله { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } بيان وتوضيح للمقتسمين . ومنهم من يرى أن قوله - تعالى - { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ … } متعلق بقوله - تعالى - قبل ذلك ، { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } ، فيكون المشبه الإِنذار بالعقاب المفهوم من الآية الكريمة . وأن المراد بالمقتسمين جماعة من مشركى قريش ، قسموا أنفسهم أقساماً لصرف الناس عن الإِيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم . والمعنى وقل - أيها الرسول الكريم - إنى أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين … وقد فصل الإِمام الآلوسى القول عند تفسيره لهاتين الآيتين فقال ما ملخصه قوله - تعالى - { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ … } متعلق بقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً … } على أن يكون فى موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أى آتيناك سبعا من المثانى إيتاء كما أنزلنا ، وهو فى معنى أنزلنا عليك ذلك إنزالاً كإنزالنا على أهل الكتاب { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } أى قسموه إلى حق وباطل … وقيل هو متعلق بقوله - تعالى - { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } … وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش … أرسلهم الوليد بن المغيرة ، أيام موسم الحج ، ليقفوا على مداخل طرق مكة ، لينفروا الناس عن الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل ، يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر … أى وقل إنى أنا النذير عذابا مثل العذاب الذى أنزلناه على المقتسمين . وقيل المراد بالمقتسمين ، الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً - أى يقتلوه ليلاً - فأهلكهم الله … ثم قال - رحمه الله - والأقرب من الأقوال المذكورة أن قوله { كما أنزلنا … } متعلق بقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً … } وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين ، وأن الموصول مع صلته ، صفة مبينة لكيفية اقتسامهم … والمعنى لقد آتيناك سبعاً من المثانى والقرآن العظيم ، إيتاء مماثلاً لإِنزال الكتابين على أهلهما … ويبدو لنا أن من الأفضل أن يكون المراد بالمقتسمين ، ما يشمل أهل الكتابين وغيرهم من المشركين المتحالفين على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم - كما قال ابن كثير - وقد ذهب إلى ذلك الإِمام ابن جرير ، فقد قال - رحمه الله - بعد سرده للأقوال فى ذلك ما ملخصه " والصواب من القول فى ذلك عندى أن يقال إن الله - تعالى - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم قومه الذين عضوا القرآن ففرقوه ، أنه نذير لهم من سخط الله وعقوبته ، أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين من قبلهم ومنهم " … وجائز أن يكون عنى بالمقتسمين أهل الكتابين . . وجائز أن يكون عنى بذلك المشركين من قريش ، لأنهم اقتسموا القرآن ، فسماه بعضهم شعرا ، وسماه بعضهم كهانة … وجائز أن يكون عنى به الفريقين … وممكن أن يكون عنى به المقتسمين على صالح من قومه . لأنه ليس فى التنزيل ولا فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فى فطرة العقل ، ما يدل على أنه عنى به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين ، وإذا فكل من اقتسم كتاباً لله بتكذيب بعض وتصديق بعض ، كان داخلاً فى هذا التهديد والوعيد … ثم أكد - سبحانه - هذا التهديد والوعيد فقال { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . والفاء هنا متفرعة على ما سبق تأكيده فى قوله { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ … } إذ فى هذا اليوم يكون سؤالهم . والواو للقسم ، أى فوحق ربك - أيها الرسول الكريم - الذى خلقك فسواك فعدلك ، لنسألن هؤلاء المكذبين جميعاً ، سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت ، عما كانوا يعملونه فى الدنيا من أعمال قبيحة وعما كانوا يقولونه من أقوال فاسدة ، ثم لننزلن بهم جميعاً العقوبة المناسبة لهم . فالمقصود من هذه الآية الكريمة زيادة التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيد التهديد للمشركين . ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يمضى فى طريقه ، وأن يجهر بدعوته وأن يعرض عن المشركين ، فقد كفاه - سبحانه - شرهم فقال - تعالى - { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } . وقوله { فاصدع … } من الصدع بمعنى الإِظهار والإعلان . ومنه قولهم انصدع الصبح ، إذا ظهر بعد ظلام الليل والصديع الفجر لانصداعه أى ظهوره . ويقال صدع فلان بحجته ، إذا تكلم بها جهاراً . أى فاجهر - أيها الرسول الكريم - بدعوتك ، وبلغ ما أمرناك بتبليغه علانية ، وأعرض عن سفاهات المشركين وسوء أدبهم . قال عبد الله بن مسعود ما زال النبى صلى الله عليه وسلم مستخفيا بدعوته حتى نزلت هذه الآية . فخرج هو وأصحابه ، وقوله { إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } تعليل للأمر بالجهر بالدعوة ، بعد أن مكث صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الاسلام سراً ثلاث سنين أو أكثر . وقوله { كفيناك … } من الكفاية . تقول كفيت فلاناً المؤنة إذا توليتها عنه ، ولم تحوجه إليها . وتقول كفيتك عدوك أى كفيتك بأسه وشره . والمراد بالمستهزئين أكابر المشركين فى الكفر والعداوة والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم . أى إنا كفيناك الانتقام من المستهزئين بك وبدعوتك ، وأرحناك منهم ، بإهلاكهم . وذكر بعضهم أن المراد بهم خمسة من كبرائهم ، وهم الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن عيطل ، والعاص بن وائل وقد أهلكهم الله جميعاً بمكة ، وكان هلاكهم العجيب من أهم الصوارف لأتباعهم عن الاستهزاء بالنبى صلى الله عليه وسلم . قال الإِمام الرازى واعلم أن المفسرين قد اختلفوا فى عدد هؤلاء المستهزئين ، وفى أسمائهم ، وفى كيفية طريق استهزائهم ، ولا حاجة إلى شئ منها . والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة ، لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة ، مع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى علو قدره ، وعظم منصبه ، ودل القرآن على أن الله - تعالى - أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم . ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المستهزئين قد أضافوا إلى ذلك الشرك والكفر فقال { ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ } فى عباداتهم وفى عقيدتهم . { فسوف يعلمون } ما يترتب على ذلك فى الآخرة من عذاب شديد لهم ، بعد أن أهلكناهم فى الدنيا وقطعنا دابرهم . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتسلية أخرى له صلى الله عليه وسلم ، وبإرشاده إلى ما يزيل همه . ويشرح صدره ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } . وضيق الصدر كناية عن كدر النفس ، وتعرضها للهموم والأحزان . أى ولقد نعلم - أيها الرسول الكريم - أن أقوال المشركين الباطلة فيك وفيما جئت به من عندنا ، تحزن نفسك ، وتكدر خاطرك . وقال - سبحانه - { ولقد نعلم … } بلام القسم وحرف التحقيق ، لتأكيد الخبر ، وإظهار مزيد من الاهتمام والعناية بالمخبر عنه صلى الله عليه وسلم فى الحال والاستقبال . والفاء فى قوله { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ … } واقعة فى جواب شرط . والتسبيح لله - تعالى - معناه تنزيهه - عز وجل - عن كل ما لا يليق به . والتحميد له - تعالى - معناه الثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال والجلال . أى إن ضاق صدرك - أيها الرسول الكريم - بسبب أقوال المشركين القبيحة ، فافزع إلينا بالتسبيح والتحميد ، بأن تكثر من قول سبحان الله ، والحمد لله . قال بعض العلماء فهذه الجملة الكريمة قد اشتملت على الثناء على الله بكل كمال لأن الكمال يكون بأمرين أحدهما التخلى عن الرذائل ، والتنزه عما لا يليق ، هذا معنى التسبيح . والثانى التحلى بالفضائل ، والاتصاف بصفات الكمال ، وهذا معنى الحمد . فتم الثناء بكل كمال . ولأجل هذا المعنى ثبت فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان فى الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم … " . والمراد بالسجود فى قوله - تعالى - { وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } الصلاة . وعبر عنها بذلك من باب التعبير بالجزء عن الكل ، لأهمية هذا الجزء وفضله ، ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء " . ويؤخذ من هذه الآية الكريمة ، أن ترتيب الأمر بالتسبيح والتحميد والصلاة على ضيق الصدر دليل على أن هذه العبادات ، بسببها يزول المكروه بإذنه - تعالى - ، وتنقشع الهموم … ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة . وروى الإِمام أحمد وأبو داود والنسائى من حديث نعيم بن عمار - رضى الله عنه - أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله - تعالى - يا بن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار ، أكفك آخره " . فينبغى للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله - تعالى - بأنواع الطاعات من صلاة وتسبيح وتحميد وغير ذلك من ألوان العبادات . والمراد بالأمر بالعبادة فى قوله تعالى { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } المداومة عليها وعدم التقصير فيها . والمراد باليقين الموت ، سمى بذلك لأنه أمر متيقن لحوقه بكل مخلوق . أى ودم - أيها الرسول الكريم - على عبادة ربك وطاعته ما دمت حيا ، حتى يأتيك الموت الذى لا مفر من مجيئه فى الوقت الذى يريده الله - تعالى - . ومما يدل على أن المراد باليقين هنا الموت قوله - تعالى - حكاية عن المجرمين { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } أى الموت . ويدل على ذلك أيضاً ما رواه البخارى " عن أم العلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت قلت رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتى عليك لقد أكرمك الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يدريك أن الله قد أكرمه … أما هو فقد جاءه اليقين - أى الموت - وإنى لأرجو له الخير " . قال الإِمام ابن كثير ويستدل بهذه الآية الكريمة ، على أن العبادة كالصلاة ونحوها ، واجبة على الإِنسان ما دام عقله ثابتاً ، فيصلى بحسب حاله ، كما ثبت فى صحيح البخارى عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب " . ويستدل بها أيضاً على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة ، سقط عنه التكليف عندهم . وهذا كفر وضلال وجهل … " .