Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 75-84)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فاسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } يعود إلى ما تضمنته القصة السابقة من عبر وعظات . والآيات جمع آية ، والمراد بها هنا الأدلة والعلامات الدالة على ما يوصل إلى الحق والهداية . والمتوسمون جمع المتوسم ، وهو المتأمل فى الأسباب وعواقبها ، وفى المقدمات ونتائجها … قال القرطبى ما ملخصه التوسم تفعل من الوسم ، وهى العلامة التى يستدل بها على مطلوب غيره . يقال توسمت فى فلان الخير ، إذا رأيت ميسم ذلك فيه ، ومنه قول عبد الله ابن رواحة للنبى صلى الله عليه وسلم . @ إنى توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أنى ثابت البصر @@ وأصل التوسم التثبت والتفكر ، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة فى جلد البعير وغيره … وذلك يكون بجودة القريحة ، وحدة الخاطر ، وصفاء الفكر ، وتطهير القلب من أدناس المعاصى . والمراد بالمتوسمين " المتفرسين ، أو المتفكرين ، أو المعتبرين ، أو المتبصرين … والمعنى متقارب … " . والمعنى إن فى ذلك الذى سقناه فى قصتى إبراهيم ولوط - عليهما السلام - لأدلة واضحة على حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة الغاوين ، لمن كان ذا فكر سليم ، وبصيرة نافذة تتأمل فى حقائق الأشياء ، وتتعرف على ما يوصلها إلى الهداية والطريق القويم . قال بعض العلماء عند تفسيره لهذه الآية هذه الآية أصل فى الفراسة . أخرج الترمذى من حديث أبى سعيد مرفوعاً " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية … وقد أجاد الكلام فى الفراسة ، الراغب الأصفهانى فى كتابه " الذريعة " حيث قال فى الباب السابع وأما الفراسة فالاستدلال بهيئة الإِنسان وأشكاله وألوانه وأقواله ، على أخلاقه وفضائله ورذائله … وقد نبه - سبحانه - على صدقها بقوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } وبقوله { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } وبقوله { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } ولفظها مأخوذ من قولهم " فرس السبع الشاه " فكأن الفراسة اختلاف المعارف . وفى هذه الآية الكريمة تعريض لمن تمر عليهم العبر والعظات . والأدلة الدالة على وحدانية الله - تعالى - ، وكمال قدرته … فلا يعتبرون ولا يتعظون ولا يتفكرون فيها ، لانطماس بصيرتهم ، واستيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم ، كما قال - تعالى - { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } والضمير فى قوله - سبحانه - { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } يعود إلى المدينة أو القرى التى كان يسكنها قوم لوط - عليه السلام - . أى وإن هذه المساكن التى كان يسكنها هؤلاء المجرمون ، لبطريق ثابت واضح يسلكه الناس ، ويراه كل مجتاز له وهو فى سفره من الحجاز إلى الشام ، كما قال - تعالى - { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِٱْلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } والمقصود تذكير كفار قريش وغيرهم بعاقبة الظالمين ، حتى يقلعوا عن كفرهم وجحودهم ، وحتى يعتبروا ويتعظوا ، ويدخلوا مع الداخلين فى دين الإِسلام . وقوله - سبحانه - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } تذييل قصد به التعميم بعد التخصيص ، لأن اسم الإِشارة هنا يعود إلى جميع ما تقدم من قصتى إبراهيم ولوط - عليهما السلام - وإلى ما انضم إليهما من التذكير بآثار الأقوام المهلكين . أى إن فيما ذكرناه فيما سبق من أدلة واضحة على حسن عاقبة المتقين ، وسوء نهاية الظالمين ، لعبرة واضحة ، وحكمة بالغة ، للمؤمنين الصادقين . وخصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالأدلة والعظات ، وللتنبيه على أن التفرس فى الأمور لمعرفة أسبابها ونتائجها من صفاتهم وحدهم . وجمع الآيات قبل ذلك فى قوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } وأفردها هنا فقال { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } للأشعار بأن المؤمنين الصادقين تكفى لهدايتهم ، ولزيادة إيمانهم ، آية واحدة من الآيات . الدالة على أن دين الإِسلام هو الدين الحق ، وفى ذلك ما فيه من الثناء عليهم ، والمدح لهم ، بصدق الإِيمان ، وسلامة اليقين … ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانباً من قصة أصحاب الأيكة لزيادة العظات والعبر ، فقال - تعالى - { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } و { إن } هى المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف . وأصحاب الأيكة ، هم قوم شعيب - عليه السلام - ، والأيك الشجر الكثير الملتف واحدته أيكة - كتمر وتمره - . والمراد بها البقعة الكثيرة الأشجار التى كانت فيها مساكنهم ، قرب مدين قرية شعيب - عليه السلام - . وجمهور العلماء على أن أهل مدين وأصحاب الأيكة قبيلة واحدة ، وأرسل الله - تعالى - إليهم جميعاً شعيباً - عليه السلام - لأمرهم بإخلاص العبادة لله - تعالى - ، ونهيهم عن تطفيف الكيل والميزان ، وعن قطع الطريق … وكانوا جميعاً يسكنون فى المنطقة التى تسمى بمعّان ، على حدود الحجاز والشام ، أو أن بعضهم كان يسكن الحاضرة وهم أهل مدين ، والبعض الآخر كان يسكن فى البوادى المجاورة لها والمليئة بالأشجار . وقيل إن شعيباً - عليه السلام - أرسل إلى أمتين أهل مدين ، وأصحاب الأيكة ، وهذه خصوصية له - عليه السلام - . وعلى أية حال فالعلماء متفقون على أن أصحاب الأيكة هم قوم شعيب - عليه السلام - . والإِمام الطريق الواضح المعالم . وسمى الطريق إماما لأن المسافر يأتم به ، ويهتدى بمسالكه ، حتى يصل إلى الموضع الذى يريده . والمعنى وإن الشأن والحال أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين متجاوزين لكل حد ، فاقتضت عدالتنا أن ننتقم منهم ، بسبب كفرهم وفجورهم . { وإنهما } أى مساكن قوم لوط ، ومساكن قوم شعيب { لبإمام مبين } أى لبطريق واضح يأتم به أهل مكة فى سفرهم من بلادهم إلى بلاد الشام . قال ابن كثير وقد كانوا - أى أصحاب الأيكة - قريباً من قوم لوط ، بعدهم فى الزمان ، ومسامتين لهم فى المكان ، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال فى إنذاره لهم { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن قصص الأنبياء مع أقوامهم بجانب من قصة صالح - عليه السلام - مع قومه . فقال - تعالى - { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ } … وأصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح - عليه السلام - . والحجر واد بين الشام والمدينة المنورة ، كان قوم صالح يسكنونه . والحجر فى الأصل كل مكان أحاطت به الحجارة ، أو كل مكان محجور أى ممنوع من الناس بسبب اختصاص بعضهم به . وما زال هذا المكان يعرف إلى الآن باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك ، كما أشرنا إلى ذلك عند التعريف بالسورة الكريمة . وقال - سبحانه - { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ } مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولهم - عليه السلام - ، لأن تكذيب رسول واحد ، تكذيب لجميع الرسل ، حيث إن رسالتهم واحدة ، وهى الأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، والنهى عن الرذائل والمفاسد . ثم بين - سبحانه - مظاهر هذا التكذيب لرسولهم - عليه السلام - فقال { وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } . أى وأعطينا قوم صالح - عليه السلام - آياتنا الدالة على صدقه وعلى أنه رسول من عندنا ، والتى من بينها الناقة التى أخرجها الله - تعالى - لهم ببركة دعاء نبيهم { فكانوا عنها } أى عن هذه الآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { معرضين } لا يلتفتون إليها ، ولا يفكرون فيها ، ولهذا عقروا الناقة { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر حضارتهم وتحصنهم فى بيوتهم المنحوتة فى الجبال فقال - تعالى - { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } . وينحتون من النحت وهو برى الحجر من وسطه أو جوانبه ، لإِعداده للبناء أو للسكن أى وكانوا لقوتهم وغناهم يتخذون لأنفسهم بيوتا فى بطون الجبال وهم آمنون مطمئنون ، أو يقطعون الصخر منها ليتخذوه بيوتاً لهم . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ } أى حاذقين فى نحتها . وقوله - تعالى - { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً } قال ابن كثير ذكر - تعالى - أنهم { كَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } أى من غير خوف ولا احتياج إليها ، بل بطرا وعبثا ، كما هو المشاهد من صنيعهم فى بيوتهم بوادى الحجر ، الذى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فقنع رأسه - أى غطاها بثوبه - وأسرع دابته ، وقال لأصحابه " لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم " . ولكن ماذا كانت نتيجة هذه القوة الغاشمة ، والثراء الذى ليس معه شكر لله - تعالى - والإِصرار على الكفر والتكذيب لرسل الله - تعالى - ، والإِعراض عن الحق … ؟ لقد بين القرآن عاقبة ذلك فقال { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } . أى فكانت نتيجة تكذيب أصحاب الحجر لرسولهم صالح - عليه السلام - أن أهلكهم الله - تعالى - وهم داخلون فى وقت الصباح ، عن طريق الصيحة الهائلة ، التى جعلتهم فى ديارهم جاثمين ، دون أن يغنى عنهم شيئاً ما كانوا يكسبونه من جمع الأموال ، وما كانوا يصنعونه من نحت البيوت فى الجبال . وهكذا نرى أن كل وقاية ضائعة ، وكل أمان ذاهب ، وكل تحصن زائل أمام عذاب الله المسلط على أعدائه المجرمين . وهكذا تنتهى تلك الحلقات المتصلة من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم والتى تتفق جميعها فى بيان سنة من سنن الله - تعالى - فى خلقه ، وهى أن النجاة والسعادة والنصر للمؤمنين ، والهلاك والشقاء والهزيمة للمكذبين . ثم ختمت السورة الكريمة ببيان كمال قدرة الله - تعالى - ، وببيان جانب من النعم التى منحها - سبحانه - لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وبتهديد المشركين الذين جعلوا القرآن عضين ، والذين جعلوا مع الله إلهاً آخر ، وبتسليته صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى ، فقال - تعالى - { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ … } .