Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 110-111)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - سبحانه - { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } أى عذبوا وأوذوا من أجل أن يرتدوا إلى الكفر . وأصل الفتن إدخال الذهب فى النار لتظهر جودته من رداءته ، ثم استعمل فى الاختبار والامتحان بالمحن والشدائد ، وبالمنح واللطائف ، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة ، وأكثر ما تستعمل الفتنة فى الامتحان والمحن وعليه يحمل بعضهم تفسير الفتنة بالمحنة . والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا - كما يقول ابن كثير - جماعة كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين فى قومهم ، فوافقوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا فى سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا … والمعنى { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } - أيها الرسول الكريم - تكفل بالولاية والمغفرة لهؤلاء الذين هاجروا من دار الكفر إلى دار الإِسلام ، من بعد أن عذبهم المشركون لكى يرتدوا عن دينهم . قال الآلوسى وقرأ ابن عامر { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بالبناء للفاعل ، وهو ضمير المشركين عند غير واحد ، أى عذبوا المؤمنين ، كالحضرمى ، أكره مولاه " جبرا " حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا … وقوله - تعالى - { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } أى جاهدوا المشركين حتى تكون كلمة الله هى العليا ، وصبروا على البلاء والأذى طلبا لرضا الله - تعالى - . والضمير فى قوله { من بعدها } يعود إلى ما سبق ذكره من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر . أى إن ربك - أيها الرسول الكريم - من بعد هذه الأفعال لكثير المغفرة والرحمة لهم ، جزاء هجرتهم وجهادهم وصبرهم على الأذى . وقوله - سبحانه - { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا … } منصوب على الظرفية بقوله { رحيم } أو منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره اذكر . والمراد باليوم يوم القيامة . والمجادلة هنا بمعنى المحاجة والمدافعة ، والسعى فى الخلاص من أهوال ذلك اليوم الشديد . والمعنى إن ربك - أيها الرسول الكريم - من بعد تلك المذكورات من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر ، لغفور رحيم ، يوم تأتى كل نفس مشغولة بأمرها ، مهتمة بالدفاع عن ذاتها ، بدون التفات إلى غيرها ، ساعية فى الخلاص من عذاب ذلك اليوم . والمتأمل فى هذه الجملة الكريمة ، يراها تشير بأسلوب مؤثر بليغ إلى ما يعترى الناس يوم القيامة من خوف وفزع يجعلهم لا يفكرون إلا فى ذواتهم ولا يهمهم شأن آبائهم أو أبنائهم . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى النفس المضافة إلى النفس ؟ . قلت يقال لعين الشئ وذاته نفسُه ، وفى نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هى ، فالنفس الأولى هى الجملة ، والثانية عينها وذاتها ، فكأنه قيل يوم يأتى كل إنسان يجادل عن ذاته ، لا يهمه شأن غيره ، كل يقول نفسى نفسى . ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها ، كقولهم { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وكقولهم { هؤلاء أضلونا … } وقوله - سبحانه - { وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بيان لمظهر من مظاهر عدل الله - تعالى - فى قضائه بين عباده . أى وفى هذا اليوم تعطى كل نفس جزاء ما عملته من أعمال فى الدنيا وافيا غير منقوص ، بدون ظلم أو حيف أو ميل عن العدل والقسطاس ، ولن ينفع نفسا مجادلتها عن ذاتها ، واعتذارها بالمعاذير الباطلة ، وإنما الذى ينفعها هو عملها . وبذلك ترى الآيتين الكريمتين ، قد بينتا بأسلوب بليغ جانبا من مظاهر فضل الله - تعالى - على عباده ، وجانبا من أهوال يوم القيامة ، ومن القضاء العادل الذى يحكم الله به بين الناس . ثم ضرب - سبحانه - مثلا لسوء عاقبة الذين يجحدون نعم الله ، ويكذبون بآياته ، فقال - تعالى - { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ … } .