Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 106-109)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ … } روايات منها قول الآلوسى " روى أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا ، وسمية ، على الارتداد فأبوا ، فربطوا سمية بين بعيرين … ثم قتلوها وقتلوا ياسرا ، وهما أول شهيدين فى الإِسلام . وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه ، فقيل يا رسول الله إن عمارا قد كفر . فقال صلى الله عليه وسلم " كلا ، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإِيمان بلحمه ودمه " . فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكى ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال له " مالك ، إن عادوا فعد لهم بما قلت " . وفى رواية أنه قال له " كيف تجد قلبك ؟ قال مطمئن بالإِيمان قال صلى الله عليه وسلم إن عادوا فعد " . فنزلت هذه الآية " . ثم قال الآلوسى والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإِكراه ، وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازا للدين ولو تيقن القتل ، كما فعل ياسر وسمية ، وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة ، بل هو كالقتل فى الغزو كما صرحوا به . و " من " فى قوله { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ } مبتدأ أو شرطية ، والخبر أو جواب الشرط محذوف والتقدير فعليه غضب من الله ، أو فله عذاب شديد ، ويدل عليهما قوله - تعالى - بعد ذلك { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ } . والمعنى من كفر بالله - تعالى - من بعد إيمانه بوحدانيته - سبحانه - وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه بسبب هذا الكفر يكون قد ضل ضلالا بعيدا ، يستحق من أجله العذاب المهين . وقوله { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } استثناء متصل من الجملة السابقة أى إلا من أكره على النطق بكلمة الكفر ، والحال أن قلبه مطمئن بالإِيمان ، ثابت عليه ، متمكن منه … فإنه فى هذه الحالة لا يكون ممن يستحقون عقوبة المرتد . قال بعض العلماء وأما قوله { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } فهو استثناء متصل من " مَنْ " لأن الكفر أعم من أن يكون اعتقادا فقط ، أو قولا فقط ، أو اعتقادا وقولا … وأصل الاطمئنان سكون بعد انزعاج ، والمراد به هنا السكون والثبات على الإِيمان بعد الانزعاج الحاصل بسبب الإِكراه … وقوله { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } بيان لسوء مصير من استحب الكفر على الإِيمان باختياره ورضاه . و " من " فى قوله { من شرح } شرطية ، وجوابها { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ } . أى حكم من تلفظ بكلمة الكفر مكرها أنه لا يعتبر مرتدا ، ولكن حكم من طابت نفوسهم بالكفر ، وانشرحت له صدورهم ، واعتقدوا صحته ، أنهم عليهم من الله - تعالى - غضب شديد لا يعلم مقداره إلا هو ، ولهم يوم القيامة عذاب عظيم الهول ، يتناسب مع عظيم جرمهم . هذا ، وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأخبار التى حكت ما تعرض له المسلمون الأولون من فتن وآلام . فقال ما ملخصه ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالى إبقاء لمهجته ، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال - رضى الله عنه - يأبى عليهم ذلك ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره فى شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول أحد ، أحد ، ويقول والله لو أعلم كلمة هى أغيظ لكم منها لقلتها . وقوله - سبحانه - { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ } بيان للأسباب التى جعلتهم محل غضب الله ونقمته . واسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى كفرهم بعد إيمانهم ، أو إلى ما توعدهم الله - تعالى - به من غضب عليهم ، وعذاب عظيم لهم . أى ذلك الذى جعلهم يرتدون عن دينهم ، ويكونون محل غضب الله ونقمته ، من أسبابه أنهم آثروا الحياة الدنيا وشهواتها على الآخرة وما فيها من ثواب . { وأن الله } - تعالى - { لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } إلى الصراط المستقيم ، لأنهم حين زاغوا عن الحق أزاغ الله قلوبهم . ثم أضاف - سبحانه - إلى رذائلهم رذيلة أخرى فقال { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } . والطبع الختم والوسم بطابع ونحوه على الشئ ، لكى لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه . أى أولئك الذين شرحوا صدورهم بالكفر ، وطابوا به نفسا ، قد طبع الله تعالى على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، فصارت ممنوعة من وصول الحق إليها ، وعاجزة عن الانتفاع به ، وأولئك هم الكاملون فى الغفلة والبلاهة ، إذ لا غفلة أشد من غفلة المعرض عن عاقبة أمره ، ولا بلاهة أفدح من بلاهة من آثر الفانية على الباقية . ثم ختم - سبحانه - الآيات الكريمة بالحكم العادل عليهم فقال { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } . أى لا شك ولا محالة فى أن هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإِيمان سيكونون يوم القيامة من القوم الخاسرين لأنهم لم يقدموا فى دنياهم ما ينفعهم فى أخراهم . وكلمة { لا جرم } قد وردت فى القرآن فى خمسة مواضع ، متلوة فى كل موضع بأن واسمها ، وليس بعدها فعل . وجمهور النحاة على أن هذه الكلمة مركبة من " لا " و " جرم " تركيب خمسة عشر ، ومعناها بعد التركيب معنى الفعل حق ، أو ثبت ، أو ما يشبه ذلك ، أى حق وثبت كونهم فى الآخرة من الخاسرين . والذى يتدبر هذه الآيات ، يراها قد توعدت المرتدين عن دينهم بألوان من العقوبات المغلظة ، لقد توعدتهم بغضب الله - تعالى - وبعذابه العظيم ، وبعدم هدايتهم إلى طريق الحق ، وبالطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وبالغفلة التى ليس بعدها غفلة ، وبالخسران الذى لا شك فيه يوم القيامة ، نعوذ بالله - تعالى - من ذلك . ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر لطفه ورأفته لقوم هاجروا من بعد ما فتنوا ، فقال - تعالى - { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } .