Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 125-128)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والخطاب فى قوله - تعالى - { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ } للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه كل مسلم يصلح للدعوة إلى الله - عز وجل - . أى ادع - أيها الرسول الكريم - الناس إلى سبيل ربك أى إلى دين ربك وشريعته التى هى شريعة الإِسلام { بالحكمة } أى بالقول المحكم الصحيح الموضح للحق ، المزيل للباطل ، الواقع فى النفس أجمل موقع . وحذف - سبحانه - مفعول الفعل { ادع } للدلالة على التعميم ، أى ، ادع كل من هو أهل للدعوة إلى سبيل ربك . وأضاف - سبحانه - السبيل إليه . للإِشارة إلى أنه الطريق الحق ، الذى من سار فيه سعد وفاز ، ومن انحرف عنه شقى وخسر . وقوله - تعالى - { والموعظة الحسنة } وسيلة ثانية للدعوة إلى الله - تعالى - أى وادعهم - أيضا - إلى سبيل ربك بالأقوال المشتملة على العظات والعبر التى ترقق القلوب ، وتهذب النفوس ، وتقنعهم بصحة ما تدعوهم إليه ، وترغبهم فى الطاعة لله - تعالى - وترهبهم من معصيته - عز وجل - وقوله - تعالى - { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } بيان لوسيلة ثالثة من وسائل الدعوة السليمة . أى وجادل المعاند منهم بالطريقة التى هى أحسن الطرق وأجملها ، بأن تكون مجادلتك لهم مبنية على حسن الإِقناع ، وعلى الرفق واللين وسعة الصدر فإن ذلك أبلغ فى إطفاء نار غضبهم ، وفى التقليل من عنادهم ، وفى إصلاح شأن أنفسهم ، وفى إيمانهم بأنك إنما تريد من وراء مجادلتهم ، الوصول إلى الحق دون أى شئ سواه . وبذلك نرى الآية الكريمة قد رسمت أقوم طرق الدعوة إلى الله - تعالى - وعينت أحكم وسائلها ، وأنجعها فى هداية النفوس . إنها تأمر الدعاة فى كل زمان ومكان أن تكون دعوتهم إلى سبيل الله لا إلى سبيل غيره إلى طريق الحق لا طريق الباطل ، وإنها تأمرهم - أيضا - أن يراعوا فى دعوتهم أحوال الناس ، وطباعهم ، وسعة مداركهم ، وظروف حياتهم ، وتفاوت ثقافاتهم . وأن يخاطبوا كل طائفة بالقدر الذى تسعه عقولهم ، وبالأسلوب الذى يؤثر فى نفوسهم ، وبالطريقة التى ترضى قلوبهم وعواطفهم . فمن لم يقنعه القول المحكم ، قد تقنعه الموعظة الحسنة ، ومن لم تقنعه الموعظة الحسنة . قد يقنعه الجدال بالتى هى أحسن . ولذلك كان من الواجب على الدعاة إلى الحق ، أن يتزودوا بجانب ثقافتهم الدينية الأصيلة الواسعة - بالكثير من ألوان العلوم الأخرى كعلوم النفس والاجتماع والتاريخ ، وطبائع الأفراد والأمم … فإنه ليس شئ أنجع فى الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم ، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يشبعها من الزاد النافع ، وبما يجعلها تقبل على فعل الخير ، وتدبر عن فعل الشر . وكما أن أمراض الأجسام مختلفة ، ووسائل علاجها مختلفة - أيضا - ، فكذلك أمراض النفوس متنوعة ، ووسائل علاجها متباينة . فمن الناس من يكون علاجه بالمقالة المحكمة ومنهم من يكون علاجه بالعبارة الرقيقة الرفيقة التى تهز المشاعر ، وتثير الوجدان ، ومنهم من يكون علاجه بالمحاورة والمناقشة والمناظرة والمجادلة بالتى هى أحسن ، لأن النفس الإِنسانية لها كبرياؤها وعنادها ، وقلما تتراجع عن الرأى الذى آمنت به . إلا بالمجادلة بالتى هى أحسن . والحق أن الدعاة إلى الله - تعالى - إذا فقهوا هذه الحقائق فتسلحوا بسلاح الإِيمان والعلم ، وأخلصوا لله - تعالى - القول والعمل ، وفطنوا إلى أنجع الأساليب فى الدعوة إلى الله ، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم واستعدادهم … نجحوا فى دعوتهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . قال الآلوسى وإنما تفاوتت طرق دعوته صلى الله عليه وسلم لتفاوت مراتب الناس ، فمنهم خواص ، وهم أصحاب نفوس مشرقة ، قوية الاستعداد لإِدراك المعانى ، مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه ، وهؤلاء يدعون بالحكمة . ومنهم عوام ، أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد ، شديدة الإِلف بالمحسوسات ، قوية التعلق بالرسوم والعادات ، قاصرة عن درجة البرهان ، لكن لا عناد عندهم ، وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة . ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل ليدحض به الحق ، لما غلب عليه من تقليد الأسلاف ، ورسخ فيه من العقائد الباطلة ، فصار بحيث لا تنفعه المواعظ والعبر ، بل لا بد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال ، لتلين عريكته ، وتزول شكيمته ، وهؤلاء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بجدالهم بالتى هى أحسن . وقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } بيان لكمال علم الله - تعالى - وإحاطته بكل شئ ، وإرشاد للدعاة فى شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى أن عليهم أن يدعوا الناس بالطريقة التى بينها - سبحانه - لهم ، ثم يتركوا النتائج له - تعالى - يسيرها كيف يشاء . والظاهر أن صيغة التفضيل { أعلم } فى هذه الآية وأمثالها ، المراد بها مطلق الوصف لا المفاضلة ، لأن الله - تعالى - لا يشاركه أحد فى علم أحوال خلقه ، من شقاوة وسعادة ، وهداية وضلال . والمعنى إن ربك - أيها الرسول الكريم - هو وحده العليم بمن ضل من خلقه عن صراطه المستقيم ، وهو وحده العليم بالمهتدين منهم إلى السبيل الحق وسيجازى كل فريق منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب . وما دام الأمر كذلك ، فعليك - أيها الرسول الكريم - أن تسلك فى دعوتك إلى سبيل ربك ، الطرق التى أرشدك إليها ، من الحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتى هى أحسن ، ومن كان فيه خير - كما يقول صاحب الكشاف - كفاه الوعظ القليل ، والنصيحة اليسيرة ، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل ، وكأنك تضرب منه فى حديد بارد . وبعد أن بين - سبحانه - أنجع أساليب الدعوة إلى سبيله فى حالة المسالمة والمجادلة بالحجة والبرهان ، أتبع ذلك ببيان ما ينبغى على المسلم أن يفعله فى حالة الاعتداء عليه أو على دعوته فقال - تعالى - { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } . أى وإن أردتم معاقبة من ظلمكم واعتدى عليك ، فعاقبوه بمثل ما فعله بكم ، ولا تزيدوا على ذلك ، فإن الزيادة حيف يبغضه الله - تعالى - . ثم أرشدهم - سبحانه - إلى ما هو أسمى من مقابلة الشر بمثله فقال { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } . والضمير فى قوله { لهو } يعود إلى المصدر فى قوله { صبرتم } ، والمصدر إما أن يراد به الجنس فيكون المعنى ولئن صبرتم فالصبر خير للصابرين ، وأنتم منهم . وإما أن يراد به صبرهم الخاص فيكون المعنى ولئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل ، لصبركم خير لكم ، فوضع - سبحانه - الصابرين موضع لكم على سبيل المدح لهم ، والثناء عليهم بصفة الصبر . هذا ، وقد ذكر جمع من المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت فى أعقاب غزوة أحد ، بعد أن مثل المشركون بحمزة - رضى الله عنه - . قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه روى الحافظ البزار عن أبى هريرة - رضى الله عنه - " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد . فنظر الى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه . وقد مثل المشركون به . فقال صلى الله عليه وسلم رحمة الله عليك ، لقد كنت وصولا للرحم ، فعولا للخيرات . والله لولا حزن من بعدك عليك لسرنى أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع . أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك . فنزلت هذه الآية . فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه " . ثم قال ابن كثير بعد روايته لهذا الحديث وهذا إسناد فيه ضعف لأن أحد رواته وهو " صالح بن بشير المرى " ضعيف عند الأئمة . وقال البخارى هو منكر الحديث . ثم قال ابن كثير - رحمه الله - وروى عبد الله بن الإِمام أحمد فى مسند أبيه عن أبى بن كعب ، قال " لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن كان لنا يوم مثل هذا اليوم من المشركين لنمثلن بهم ، فلما كان يوم الفتح قال رجل لا تعرف قريش بعد اليوم . فنادى مناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأبيض والأسود إلا فلانا وفلانا - ناسا سماهم - ، فنزلت الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نصبر ولا نعاقب " . والذى نراه أن الآية الكريمة - حتى ولو كان سبب نزولها ما ذكر - إلا أن التوجيهات التى اشتملت عليها صالحة لكل زمان ومكان ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وعلى رأس هذه التوجيهات السامية التى اشتملت عليها دعوة المسلمين الى التزام العدالة فى أحكامهم ، وحضهم على الصبر والصفح ما دام ذلك لا يضر بمصلحتهم ومصلحة الدعوة الإِسلامية . وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ … } ثم أمر - سبحانه - بالصبر أمرا صريحا ، بعد أن بين حسن عاقبته فقال { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ … } . أى واصبر - أيها الرسول الكريم - على أذى قومك ، وما صبرك فى حال من الأحوال بمؤت ثماره المرجوة منه إلا بتوفيق الله - تعالى - لك ، وبتثبيته إياك ، وما دام الأمر كذلك فالجأ إليه وحده ، واستعن به - سبحانه - فى كل أمورك ، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال . ثم نهاه - سبحانه - عن الحزن بسبب كفر الكافرين ، فإن الهداية والإِضلال بقدرة الله وحده فقال - تعالى - { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } . أى ولا تحزن بسبب كفر الكافرين ، وإصرارهم على ذلك ، وإعراضهم عن دعوتك ، ولا يضق صدرك بمكرهم ، فإن الله - تعالى - ناصرك عليهم ، ومنجيك من شرورهم . وقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } تعليل لم سبق من أمره بالصبر ، ومن نهيه عن الحزن وضيق الصدر . أى إن الله - تعالى - بمعونته وتأييده مع الذين اتقوه فى كل أحوالهم ، وصانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضاه . ومع الذين يحسنون القول والعلم ، بأن يؤدوهما بالطريقة التى أمر الإِسلام بها ، ومن كان الله - تعالى - معه ، سعد فى دنياه وفى أخراه . وقد قيل لبعض الصالحين وهو يحتضر أوص . فقال إنما الوصية من المال . ولا مال لى ، ولكنى أوصيكم بالعمل بخواتيم سورة النحل .