Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 120-124)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف خليله ابراهيم - عليه السلام - بجملة من الصفات الفاضلة . والمناقب الحميدة . وصفه أولا - بأنه { كان أمة } . ولفظ { أمة } يطلق فى اللغة بإطلاقات متعددة ، منها الجماعة ، كما فى قوله - تعالى - { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ } أى جماعة من الناس … ومنها الدين والملة ، كما فى قوله - تعالى - { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ … } أى على دين وملة . ومنها الحين والزمان كما فى قوله - سبحانه - { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } أى إلى زمان معين . والمراد بقوله - سبحانه - { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً … } أى كان عنده من الخير ما كان عند أمة ، أى جماعة كثيرة من الناس ، وهذا التفسير مروى عن ابن عباس . وقال مجاهد سمى - عليه السلام - أمة لانفراده بالإِيمان فى وقته مدة ما . وفى صحيح البخارى أنه قال لزوجته سارة ليس على الأرض اليوم مؤمن غيرى وغيرك . ويصح أن يكون المراد بقوله - تعالى - { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً … } أى كان إماما يقتدى به فى وجوه الطاعات . وفى ألوان الخيرات ، وفى الأعمال الصالحات ، وفى إرشاد الناس إلى أنواع البر ، قال - تعالى - { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً … } ووصفه ثانيا - بأنه كان { قانتا لله } أى مطيعا لله ، خاضعا لأوامره ونواهيه ، من القنوت وهو الطاعة مع الخضوع . ووصفه - ثالثا - بأنه كان ، حنيفا ، أى مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق . من الحنف بمعنى الميل والاعوجاج ، يقال فلان برجله حنف أى اعوجاج وميل . ومنه قول أم الأحنف بن قيس وهى تداعبه @ والله لولا حنف برجله ما كان فى فتيانكم من مثله @@ ووصفه - رابعا - بأنه منزه عن الإِشراك بالله - تعالى - فقال { وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } . أى ولم يكن ابراهيم - عليه السلام - من الذين أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة أو الطاعة ، أو فى أى من الأمور ، بل أخلص عبادته لخالقه - عز وجل - . وقال - كما حكى القرآن عنه - { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } ووصفه - خامسا - بقوله - سبحانه - { شاكرا لأنعمه } أى معترفا بفضل الله - تعالى - عليه ، ومستعملا نعمه فيما خلقت له ، ومؤديا حقوق خالقه فيها . قال - تعالى - { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } أى قام بأداء جميع ما كلفه الله به . وبعد أن مدح - سبحانه - إبراهيم بتلك الصفات الجامعة لمجامع الخير ، أتبع ذلك ببيان فضله - تعالى - عليه فقال { اجتباه } أى اختاره واصطفاه للنبوة . من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار . واجتباء الله - تعالى - لعبده معناه اختصاصه ذلك العبد بخصائص ومزايا يحصل له عن طريقها أنواع من النعم بدون كسب منه . { وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أى وأرشده إلى الطريق القويم ، الذى دعا الصالحون ربهم أن يرشدهم إليه ، حيث قالوا فى تضرعهم { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهو طريق الإِسلام . { وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً } أى وجمعنا له خير الدنيا من كل ما يحتاج المؤمن إليه ليحيا حياة طيبة ، كهدايته إلى الدين الحق ، ومنحه نعمة النبوة ، وإعطائه الذرية الصالحة ، والسيرة الحسنة ، والمال الوفير . وقد أشار القرآن الكريم إلى جانب من هذه النعم ، كما فى قوله - تعالى - { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } وكما فى قوله - تعالى - { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً … } { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أى وإنه فى الدار الآخرة لمندرج فى عباد الله الصالحين ، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه ، والذين كانت لهم جنات الفردوس نزلا . ثم ختم - سبحانه - هذه النعم التى منحها لخليله إبراهيم ، بأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم - عليه السلام - فقال - تعالى - { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } . والمراد بملة إبراهيم شريعته التى أمره الله - تعالى - باتباعها فى عقيدته وعبادته ومعاملاته ، وهى شريعة الإِسلام ، التى عبر عنها آنفا بالصراط المستقيم فى قوله - تعالى - { ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . والمراد باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم له فى ذلك الاقتداء به فى التوحيد وفى أصول الدين ، الثابتة فى كل الشرائع ، لا الفروع الشرعية التى تختلف من شريعة إلى أخرى ، بحسب المصالح التى يريدها الله - تعالى - لعباده . أى ثم أوحينا إليك - أيها الرسول الكريم - بأن تتبع فى عقيدتك وشريعتك { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أى شريعته التى هى شريعة الإِسلام . قال صاحب الكشاف قوله - تعالى - { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ … } فى " ثم " هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإِيذان بأن أشرف ما أوتى خليل الله إبراهيم من الكرامة ، وأجل ما أوتى من النعمة ، اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لملته ، من جهة أنها دلت على تباعد هذا النعت فى المرتبة ، من بين سائر النعوت التى أثنى الله عليه بها . وقال القرطبى وفى هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول فيما يؤدى إلى الصواب ، ولا درك على الفاضل فى هذا ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء ، وقد أمر بالاقتداء بهم ، قال - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ … } وقال - سبحانه - هنا { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً … } . وقوله { حنيفا } حال من إبراهيم ، أى من المضاف إليه ، وصح ذلك لأن المضاف هنا وهو { ملة } كالجزء من المضاف إليه وهو إبراهيم من حيث صحة الاستغناء بالثانى عن الأول ، لأن قولك أن اتبع إبراهيم حنيفا كلام تام … وقد أشار ابن مالك - رحمه الله - إلى هذا المعنى بقوله @ ولا تجز حالا من المضاف له إلا إذا اقتضى المضاف عمله أو كان جزء ماله أضيفا أو مثل جزئه فلا تحيفا @@ وقوله - سبحانه - { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } تنزيه لإِبراهيم - عليه السلام - عن أى لون من ألوان الإِشراك بالله - تعالى - . أى وما كان إبراهيم - عليه السلام - من المشركين مع الله - تعالى - آلهة أخرى لا فى عقيدته ولا فى عبادته ولا فى أى شأن من شئونه . وفى ذلك رد على المشركين الذين زعموا أنهم على ملة ابراهيم ، ورد - أيضا - على اليهود والنصارى الذين زعموا أن إبراهيم - عليه السلام - كان على ملتهم . قال - تعالى - { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } وبعد أن بين - سبحانه - حقيقة عقيدة إبراهيم ، ومدحه بجملة من الصفات الجليلة ، وبين جانبا من مظاهر فضله - سبحانه - عليه ، أتبع ذلك ببيان أن تحريم العمل فى يوم السبت أمر خاص باليهود ، ولا علاقة له بشريعة إبراهيم أو بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ … } . والمراد بالسبت اليوم المسمى بهذا الاسم ، وأصله - كما يقول ابن جرير - الهدوء والسكوت فى راحة ودعة ، ولذلك قيل للنائم مسبوت لهدوئه وسكون جسده واستراحته ، كما قال - جل ثناؤه - { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أى راحة لأبدانكم … والكلام على حذف مضاف ، والمعنى إنما جعل تعظيم يوم السبت ، والتخلى فيه للعبادة ، { عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } وهم اليهود ، حيث أمرهم نبيهم موسى - عليه السلام - بتعظيم يوم الجمعة ، فخالفوه واختاروا السبت . قال الجمل ما ملخصه قوله - سبحانه - { عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أى خالفوا نبيهم ، حيث أمرهم أن يعظموا يوم الجمعة بالتفرغ للعبادة فيه ، وشدد عليهم بتحريم الاصطياد فيه ، فليس المراد بالاختلاف أن بعضهم رضى ، وبعضهم لم يرض ، بل المراد به امتناع الجميع - حيث قالوا لا نريد يوم الجمعة ، واختاروا السبت . ثم قال وفى معنى الآية قول آخر . قال قتادة إن الذين اختلفوا فيه هم اليهود ، حيث استحله بعضهم وحرمه بعضهم ، فعلى هذا القول يكون معنى قوله { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ . . } . أى وبال يوم السبت ولعنته { عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } ، وهم اليهود ، حيث استحله بعضهم فاصطادوا فيه ، فعذبوا ومسخوا … وثبت بعضهم على تحريمه فلم يصطد فيه ، فلم يعذبوا … والقول الأول أقرب إلى الصحة . وقال الإِمام ابن كثير وقد ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم - أى أهل الكتاب - أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذى فرض الله عليهم - أى يوم الجمعة - فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد " . ثم بين - سبحانه - حكمه العادل فيهم فقال { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . أى وإن ربك - أيها الرسول الكريم - ليحكم بين هؤلاء المختلفين يوم القيامة ، بأن ينزل بهم العقوبة التى يستحقونها بسبب مخالفتهم لنبيهم ، وإعراضهم عن طاعته فيما أمرهم به من تعظيم يوم الجمعة . ويصح أن يكون المعنى وإن ربك ليحكم بحكمه العادل بين هؤلاء اليهود الذين اختلفوا فى شأن يوم السبت ، حيث استحله بعضهم ، وحرمه البعض الآخر ، فيجازى كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب . وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت إبراهيم - عليه السلام - مدحا عظيما ، وذكرت جانبا من المآثر التى أكرمه الله - تعالى - بها ، وبرأته مما ألصقه به المشركون وأهل الكتاب من تهم باطلة ، ودعاوى كاذبة . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لآداب الدعوة إلى الله ، والهادية إلى مكارم الأخلاق ، فقال - تعالى - { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } .