Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 51-55)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام الرازى اعلم أنه - سبحانه - لما بين فى الآيات الأولى ، أن ما سوى الله - تعالى - سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجسام ، منقاد وخاضع لجلاله - تعالى - وكبريائه - أتبعه فى هذه الآية بالنهى عن الشرك ، وببيان أن كل ما سواه واقع فى ملكه وتحت تصرفه ، وأنه غنى عن الكل ، فقال - تعالى - { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ … } . أى وقال الله - تعالى - لعباده عن طريق رسله - عليهم الصلاة والسلام - لا تتخذوا شركاء معى فى العبادة والطاعة ، بل اجعلوهما لى وحدى ، فأنا الخالق لكل شئ والقادر على كل شئ . قال الآلوسى وقوله { وقال الله … } معطوف على قوله - سبحانه - { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } وإظهار الفاعل ، وتخصيص لفظ الجلالة بالذكر ، للإِيذان بأنه - تعالى - متعين الألوهية . والمنهى عنه هو الاشراك به ، لا أن المنهى عنه هو مطلق اتخاذ إلهين … " . { اثنين } صفة للفظ إلهين أو مؤكد له . وخص هذا العدد بالذكر ، لأنه الأقل ، فيعلم انتفاء اتخاذ ما فوقه بالطريق الأولى . وقوله - سبحانه - { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } بيان وتوكيد لما قبله ، وهو مقول لقوله - سبحانه - { وقال الله } . أى وقال الله لا تتخذوا معى فى العبادة إلها آخر ، وقال - أيضا - إنما المستحق للعبادة إله واحد ، والقصر فى الجملة الكريمة من قصر الموصوف على الصفة ، أى الله وحده هو المختص بصفة الوحدانية . وقد نهى - سبحانه - عن الشرك فى آيات كثيرة ، وأقام الأدلة على بطلانه ومن ذلك قوله - تعالى - { … وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } وقوله - سبحانه - { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } والفاء فى قوله { فإياى فارهبون } واقعة فى جواب شرط مقدر و { إياى } مفعول به لفعل محذوف يقدر مؤخرا ، يدل عليه قوله { فارهبون } . والرهبة الخوف المصحوب بالتحرز ، وفعله رهب بزنة طرب . والمعنى إن رهبتم شيئا فإياى فارهبوا دون غيرى ، لأنى أنا الذى لا يعجزنى شئ . وفى الجملة الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب ، للمبالغة فى التخويف ، إذ تخويف الحاضر أبلغ من تخويف الغائب ، لا سيما بعد أن وصف - سبحانه - ذاته بما وصف من صفات القهر والغلبة والكبرياء . وقدم المفعول وهو إياى لإِفادة الحصر ، وحذف متعلق الرهبة ، للعموم . أى ارهبونى فى جميع ما تأتون وما تذرون . والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على ألوان من المؤكدات للنهى عن الشرك ، والأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، تارة عن طريق التقرير { وقال الله . . } وتارة عن طريق النهى الصريح ، وتارة عن طريق القصر وتارة عن طريق التخصيص . وذلك لكى يقلع الناس عن هذه الرذيلة النكراء ، ويؤمنوا بالله الواحد القهار . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته ، ونفاذ إرادته ، فقال - تعالى - { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً … } . والمراد بالدين هنا الطاعة والخضوع بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وقد أتى الدين بمعنى الطاعة فى كثير من كلام العرب ، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم فى معلقته @ وأياما لنا غرا كراما عصينا الملك فيها أن ندينا @@ أى عصيناه وامتنعنا عن طاعته وعن الخضوع له . قوله { واصبا } من الوصوب بمعنى الدوام والثبات ، يقال وصب الشئ يصب - بكسر الصاد - وصوبا ، إذا دام وثبت . ومنه قوله - تعالى - { دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } أى دائم . أى ولله - تعالى - وحده ما فى السماوات وما فى الأرض ملكا وخلقا ، لا شريك له فى ذلك ، ولا منازع له فى أمره أو نهيه … وله - أيضا - الطاعة الدائمة ، والخضوع الباقى الثابت الذى لا يحول ولا يزول . والآية الكريمة معطوفة على قوله { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } . والاستفهام فى قوله { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } للإِنكار والتعجيب ، والفاء للتعقيب ، وهى معطوفة على محذوف ، والتقدير ، أفبعد أن علمتم أن الله - تعالى - له ما فى السماوات والأرض ، وله الطاعة الدائمة … تتقون غيره ، أو ترهبون سواه ؟ إن من يفعل ذلك لا يكون من جملة العقلاء ، وإنما يكون من الضالين الجاهلين . ثم بين - سبحانه - أن كل نعمة فى هذا الكون ، هو - سبحانه - مصدرها وموجدها ، فقال { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ … } . أى وكل نعمة عندكم كعافية فى أبدانكم ، ونماء فى مالكم ، وكثرة فى أولادكم ، وصلاح فى بالكم … فهى من الله - تعالى - وحده . فالمراد بالنعمة هنا النعم الكثيرة التى أنعم بها - سبحانه - على الناس ، لأنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معينة ، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد فى معنى الجمع - اعتمادا على القرينة - من أبلغ الأساليب الكلامية ، و " ما " موصولة مبتدأ ، متضمنة معنى الشرط . وقوله { فمن الله } خبرها . وقوله { من نعمة } بيان لما اشتملت عليه " ما " من إبهام . وقوله - سبحانه - { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } بيان لطبيعة الإِنسان ، ولموقفه من خالقه - عز وجل - والضر يشمل المرض والبلاء والفقر وكل ما يتضرر منه الإِنسان . وقوله { تجأرون } من الجؤار بمعنى - رفع الصوت بالاستغاثة وطلب العون ، يقال جأر فلان يجأر جأرا وجؤارا ، إذا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث وأصله صياح الوحش . ثم استعمل فى رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة . أى كل ما يصاحبكم من نعمة فهو من الله - تعالى - فكان من الواجب عليكم أن تشكروه على ذلك ، ولكنكم لم تفعلوا ، فإنكم إذا نزل بكم الضر ، صحتم بالدعاء ، ورفعتم أصواتكم بالتضرع ، ليكشف عنكم ما حل بكم ، فإذا ما كشف - سبحانه - عنكم الضر ، سرعان ما يقع فريق منكم فى الشرك الذى نهى الله - تعالى - عنه . و " ثم " فى هاتين الآيتين للتراخى الرتبى ، لبيان الفرق الشاسع بين حالتهم الأولى وحالتهم الثانية . والتعبير بالمس فى قوله { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ … } للإِيماء بأنهم بمجرد أن ينزل بهم الضر ولو نزولا يسيرا ، جأروا إلى الله - تعالى - بالدعاء لكشفه . وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله { فإليه تجأرون } لإِفادة القصر ، أى إليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء ليرفع عنكم ما نزل بكم من بلاء ، لا إلى غيره لأنكم تعلمون أنه لا كاشف للضر إلا هو - سبحانه - . و " إذا " الأولى فى قوله { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ … } شرطية والثانية وهى قوله { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم … } فجائية ، وهى جواب الأولى . وهذا التعبير يشير إلى مسارعة فريق من الناس ، إلى جحود نعم الله - تعالى - بمجرد أن يكشف عنهم الضر بدون تريث أو تمهل . وقال - سبحانه - { فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } لتسجيل الشرك على هذا الفريق ولإِنصاف غيره من المؤمنين الصادقين ، الذين يشكرون الله - تعالى - فى جميع الأحوال ، ويواظبون على أداء ما كلفهم به فى السراء والضراء . وهذا المعنى الذى تضمنته هاتان الآيتان ، قد جاء ما يشبهه فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } وقوله - سبحانه - { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ … } فهذه الآيات الكريمة تصور الطبائع البشرية أكمل تصوير وأصدقه ، إذ الناس - إلا من عصم الله - يجأرون إلى الله - تعالى - بالدعاء عند الشدائد والمحن ، وينسونه عند السراء والرخاء . واللام فى قوله { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ … } يصح أن تكون للتعليل ، وأن تكون هى التى تسمى بلام العاقبة أو الصيرورة . قال الشوكانى " واللام فى { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ … } لام كى . أى لكى يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر ، حتى لكأن هذا الكفر منهم الواقع فى موقع الشكر الواجب عليهم ، غرض لهم ومقصد من مقاصدهم . وهذا غاية فى العتو والعناد ليس وراءها غاية . وقيل اللام للعاقبة يعنى ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا الكفر … " . وقوله - سبحانه - { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تهديد ووعيد لهم على جحودهم لنعم الله - تعالى - والجملة الكريمة معمولة لقول محذوف . أى قل لهم - أيها الرسول الكريم - اعملوا ما شئتم وانتفعوا من متاع الدنيا كما أردتم فسوف تعلمون سوء عاقبتكم يوم القيامة . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا من عقائدهم الباطلة ، وأفعالهم القبيحة التى تمجها العقول السليمة ، والأفكار القويمة ، فقال - تعالى - { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ … } .