Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 61-64)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
و " لو " فى قوله - تعالى - { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ … } حرف امتناع لامتناع . أى حرف شرط يدل على امتناع وقوع جوابه ، لأجل امتناع وقوع شرطه ، وقد امتنع هنا إهلاك الناس ، لامتناع إرادة الله - تعالى - ذلك . وقوله { يؤاخذ } مفاعلة من المؤاخذة بمعنى العقوبة ، فالمفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد . فمعنى آخذ الله - تعالى - الناس يؤاخذهم أخذهم وعاقبهم بسبب ذنوبهم . والأخذ بمعنى العقاب قد جاء فى القرآن الكريم فى آيات كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } والباء فى { بظلمهم } للسببية ، والظلم مجاوزة الحدود التى شرعها الله - تعالى - وأعظمه الإِشراك بالله - تعالى - كما قال - تعالى - { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } والمراد من المؤاخذة بسبب ظلمهم تعجيل العقوبة لهم فى الدنيا . والضمير فى قوله - سبحانه - { عليها } يعود على الأرض . وصح عود الضمير عليها مع أنه لم يسبق ذكر لها ، لأن قوله { من دابة } يدل على ذلك لأنه من المعلوم ، أن الدواب تدب على الأرض . ونظيره قوله - تعالى - فى آية أخرى { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } وقوله { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } أى الشمس . فإنه وإن كان لم يجر لها ذكر إلا أن المقام يدل عليها . ورجوع الضمير إلى غير مذكور فى الكلام إلا أن المقام يدل عليه كثير فى كلام العرب ، ومنه قول حاتم الطائى @ أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر @@ فقوله حشرجت وضاق بها ، المقصود به الروح أو النفس ، ولم يجر لها ذكر ، إلا أن قوله وضاق بها الصدر ، يعين أن المراد بها النفس . والمراد بالساعة فى { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } مطلق الوقت الذى هو غاية فى القلة . والمعنى ولو عاجل الله - تعالى - الناس بالعقوبة ، بسبب ما اجترحوه من ظلم وآثام ، لأهلكهم جميعا ، وما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب عليها ، ولكنه - سبحانه - فضلا منه وكرما ، لا يعاجلهم بالعقوبة التى تستأصلهم بل يؤخرهم { إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } أى إلى وقت معين محدد تنتهى عنده حياتهم ، وهذا الوقت المحدد لا يعلمه إلا هو - سبحانه - { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } . أى فإذا حان الوقت المحدد لهلاكهم ، فارقوا هذه الدنيا بدون أدنى تقديم أو تأخير عن هذا الوقت . هذا ، ومن العلماء من ذهب إلى أن المراد بالناس هنا الكفار خاصة ، لأنهم هم الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى . ويبدو لنا أن المراد بالناس هنا العموم ، لأن قوله { من دابة } يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة ، ولأن النكرة فى سياق النفى إذا زيدت قبلها لفظة " من " تكون نصا صريحا فى العموم . وإلى العموم أشار ابن كثير عند تفسيره للآية بقوله " يخبر الله - تعالى - عن حلمه بخلقه مع ظلمهم ، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، أى لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإِهلاك بنى آدم . ولكن الرب - جل وعلا - يحلم ويستر ويُنظر … " . وقال القرطبى فإن قيل فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم ؟ فالجواب يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء ، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة ، وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا أراد الله - تعالى - بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم - وأعمالهم - " وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } وقوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } وقوله - تعالى - { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ثم حكى - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل المشركين فقال - تعالى - { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ … } . أى أن هؤلاء المشركين لا يكتفون بإنكارهم البعث وبجحود نعم الله - تعالى - بل أضافوا إلى ذلك أنهم يثبتون له - سبحانه وينسبون إليه كذبا وزورا - ما يكرهونه لأنفسهم ، فهم يكرهون أن يشاركهم أحد فى أموالهم أو فى مناصبهم ومع ذلك يشركون مع الله - تعالى - فى العبادة آلهة أخرى ، ويكرهون أراذل الأموال ، ومع ذلك يجعلون لله - تعالى - أراذل أموالهم . ويجعلون لأصنامهم أكرمها ، ويكرهون البنات ، ومع ذلك ينسبونهن إليه - سبحانه - . فالجملة الكريمة تنعى عليهم أنانيتهم ، وسوء أدبهم مع خالقهم - عز وجل - وقوله - سبحانه - { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ … } تصوير بليغ لما جبلوا عليه من كذب صريح ، وبهتان واضح . ومعنى { تصف } تقول وتذكر بشرح وبيان وتفصيل ، حتى لكأنها تذكر أوصاف الشئ ، وجملة { أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } بدل من { الكذب } . والحسنى تأنيث الأحسن ، والمراد بها زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا ، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب وأعظمه ، كما كان لهم فى الدنيا ذلك ، فقد روى أنهم قالوا إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا فيما يخبر عنه من أمر البعث ، فلنا الجنة … والمعنى أن هؤلاء المشركين يجعلون لله - تعالى - ما يكرهونه من الأولاد والأموال والشركاء ، وتنطق ألسنتهم بالكذب نطقا واضحا صريحا إذ زعموا أنه إن كانت الآخرة حقا ، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب . . وهذا الزعم قد حكاه القرآن عنهم فى آيات متعددة منها قوله - تعالى - { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } وقوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً … } قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى وصف ألسنتهم الكذب ؟ قلت هو من فصيح الكلام وبليغه . جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته . كقولهم وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر . وقال بعض العلماء والتعبير القرآنى فى قوله { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ } يجعل ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته ، أو كأنها صورة له ، تحكيه وتصفه بذاتها ، كما تقول فلان قوامه يصف الرشاقة … لأن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة ، مفصح عنها . كذلك قال - سبحانه - { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ … } فهى بذاتها تعبير عن الكذب ، لطول ما قالت الكذب ، ولكثرة ما عبرت عنه ، حتى صارت رمزا عليه ، ودلالة له . وقوله - سبحانه - { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } تكذيب لهم فيما زعموه من أن لهم الحسنى ، ووعيد لهم بإلقائهم فى النار . وكلمة { لا جرم } وردت فى القرآن الكريم فى خمسة مواضع ، متلوة بأن واسمها وليس بعدها فعل . وجمهور النحاة على أنها مركبة من " لا " و { جرم } تركيب خمسة عشر . ومعناها بعد التركيب معنى حق وثبت . والجملة بعدها فاعل ، أى حق وثبت كونهم لهم النار وأنهم مفرطون فيها . وقوله - سبحانه - { مفرطون } قرأها الجمهور - بسكون الفاء وفتح الراء - بصيغة اسم المفعول من أفرطه بمعنى قدمه . يقال أفرطته إلى كذا . أى قدمته إليه . قال القرطبى والفارط الذى يتقدم غيره إلى الماء . ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم " أنا فرطكم على الحوض " أى متقدمكم … أو من أفرط إذا نسيه وتركه . تقول أفرطت فلانا خلفى ، إذا تركته ونسيته . والمعنى أن هؤلاء الذين يزعمون أن لهم الحسنى فى الآخرة كذبوا فى زعمهم ، وفجروا فى إفكهم ، فإنهم ليس لهم شئ من ذلك ، وإنما الأمر الثابت الذى لا شك فيه ، أن لهم فى الآخرة النار ، وأنهم مفرطون فيها ، مقدمون إليها بدون إمهال ، ومتروكون فيها بدون اكتراث بهم ، كما يترك الشئ الذى لا قيمة له . قال - تعالى - { فَٱلْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا } وقرأ نافع { وأنهم مفرطون } - بسكون الفاء وكسر الراء - بصيغة اسم الفاعل . من أفرط اللازم بمعنى أسرف وتجاوز الحد . يقال أفرط فلان فى كذا ، إذا تجاوز الحدود المشروعة . فيكون المعنى لا جرم أن لهم النار ، وأنهم مفرطون ومسرفون فى الأقوال والأعمال التى جعلتهم حطبا لها ، ووقودا لنيرانها كما قال - تعالى - { وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } ثم وجه - سبحانه - خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التسلية والتثبيت ، حيث بين له أنه ما أصابه من مشركى قومه ، قد فعل ما يشبهه المشركون السابقون مع أنبيائهم ، فقال - تعالى - { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وقوله { فزين } من التزيين وهو تصيير الشئ زينا ، أى حسنا والزينة هى ما فى الشئ من محاسن ترغب الناس فيه . والمعنى أقسم لك - أيها الرسول الكريم - بذاتى ، لقد أرسلنا رسلا كثيرين إلى أمم كثيرة من قبلك ، فكانت النتيجة أن استحوذ الشيطان على نفوس عامة هؤلاء المرسل اليهم ، حيث زين لهم الأفعال القبيحة ، وقبح لهم الأعمال الحسنة ، وجعلهم يقفون من رسلهم موقف المكذب لأقوالهم ، المعرض عن إرشاداتهم ، المحارب لدعوتهم . وقوله - سبحانه - { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بيان لسوء عاقبة هؤلاء الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا . قال الإِمام الشوكانى ما ملخصه " والمراد باليوم فى قوله - تعالى - { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ } يحتمل أن يكون المراد به زمان الدنيا - أى مدة أيام الدنيا - فيكون المعنى فهو قرينهم فى الدنيا . ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده . فيكون للحال الآتية . ويكون الولى بمعنى الناصر . والمراد نفى الناصر عنهم بأبلغ الوجوه ، لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلا فى الآخرة . ويحتمل أن يكون المراد باليوم بعض زمان الدنيا ، وهو على وجهين الأول أن يراد البعض الذى مضى ، وهو الذى وقع فيه التزيين للأمم الماضية من الشيطان ، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية … الثانى أن يراد البعض الحاضر ، وهو وقت نزول الآية . والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش أعمالهم ، فيكون الضمير فى { وليهم } لكفار فريش . فيكون المعنى فهو ولى هؤلاء المشركين اليوم أى معينهم على الكفر والمعاصى لهم ولأمثالهم عذاب أليم فى الآخرة " . ثم بين - سبحانه - أهم الوظائف التى من أجلها أنزل كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . أى وما أنزلنا عليك - أيها الرسول الكريم - هذا القرآن ، إلا من أجل أن تبين لمن أرسلت اليهم وجه الصواب فيما اختلفوا فيه من أمور العقائد والعبادات والمعاملات والحلال والحرام … وبذلك يعرفون الحق من الباطل ، والخير من الشر . وسيقت هذه المعانى بأسلوب القصر ، لقصد الإِحاطة بأهم الغايات التى من أجلها أنزل الله - تعالى - كتابه على نبيه الكريم ، ولترغيب السامعين فى تقبل إرشادات هذا الكتاب بنفس منشرحة ، وقلب متفتح . وقوله { وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ثناء آخر على هذا الكتاب الكريم . أى أنزلنا هذا الكتاب يا محمد ، لتبين للناس عن طريقه وجه الحق فيما اختلفوا فيه من أمور الدين ، وليكون هذا الكتاب هداية إلى الطريق القويم ، ورحمة لقوم يؤمنون به ، ويسيرون فى كل أمورهم على هدى تعاليمه وإرشاداته وتشريعاته . وقال - سبحانه - { لقوم يؤمنون } للإِِشارة إلى أن الظفر بما اشتمل عليه القرآن من خيرات ، إنما هو لقوم قد توجهت نفوسهم إلى الإِيمان به ، وتفتحت قلوبهم لاستقبال هداياته . وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت لنا جانبا من مظاهر فضل الله - تعالى - على عباده ، وردت على المشركين فيما زعموه من أن لهم فى الآخرة العاقبة الحسنى ، وسلت النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم من أذى ، وبينت أهم الوظائف التى من أجلها أنزل الله - تعالى - كتابه . ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من نعم الله - تعالى - على خلقه ، ومن ذلك نعمة إنزال الماء من السماء ، ونعمة خلق الأنعام ، ونعمة إيجاد النخيل والأعناب ، فقال - تعالى - { وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } .